تفكيك حصار العراق عبر التجارة والثقافة ، بقلم: يوسف الشريف

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان المشهد ينم عن الكثير من المعاني القومية الغائبة, حين رأيت بعض ضباط الجوازات والجمارك على الحدود السورية العراقية يتناولون الغذاء معا, الحديث الجاد سجال عن الانتفاضة الفلسطينية، والحصار الدولي المستحكم حول العراق, وبعدها دارت أكواب الشاي ومعها أخذ الحديث الودود مجراه حول كاظم الساهر مطرب العراق اللامع ومرجعية القدود الحلبية المطرب صباح فخر, حيث سلم الجميع بأن كليهما لاغنى عنه لتشنيف الاذان واشباع الوجدان العربي! كنت قادما من دمشق في طريقي الى بغداد, دون عوائق طبيعية تشي بانتقالي من بلد لآخر مختلف, الملامح عربية واللغة عربية والعادات والمشارب عربية, والشجن العربي واحد, والنظام السياسي في البلدين يعتنق فكر حزب البعث الاشتراكي الذي يرفع شعار الوحدة العربية, لكأن التجزئة والقطرية والفرقة قدر او داء الامة العربية العضال الذي استعصى علاجه على المبادىء والايديولوجيات القومية لكن يظل الامل معقودا على العقلانية السياسية في تجاوز سلبيات الماضي, والانفتاح على المستقبل الذي تبدو بشاراته اكثر اشراقا, فها هي سوريا والعراق يتبادلان الزيارات على مستوى رسمي رفيع, ويخوضان غمار مفاوضات مضنية مع تركيا لاستعادة حصتها المشروعة من مياه نهر الفرات, والعمل على قدم وساق لمد خطوط انابيب النفط العراقي الى ميناء بنياس في طريقها الى الموانىء اللبنانية, وكذا مد خطوط السكك الحديدية بين البلدين, في الوقت الذي بدأت سوريا كسر الحصار الجوي المفروض على العراق عبر الطائرات المدنية التي حملت رموز المجتمع المدني للتضامن معه في محنته, فضلا عن العشرات من رجال الاعمال والتجار, مما اسفر عن مضاعفة حجم التبادل التجاري في وقت قصير, وهو عامل ضمن عوامل اخرى اعتمدتها القيادة السياسية العراقية ضمنيا لرفع الحصار! وهكذا لأول مرة تتصاعد نسبة الاشغال في فنادق العاصمة العراقية, بمناسبة افتتاح معرض بغداد الدولي, الذي تشارك فيه نحو 49 دولة بشكل رسمي, وعشرات الشركات ورجال الاعمال, مما استدعى حضور بعض وزراء التجارة العرب والاجانب, حيث تم التوقيع على برتوكولات اقتصادية وعقد صفقات تجارية, ومذكرات تفاهم حول اعمار ما خربته حرب الخليج الثانية فور رفع الحصار عن العراق, في هذا السياق يمكن النظر بعين الاعتبار الى زيارة علي أبو الراغب رئيس وزراء الاردن والوفد المرافق لبغداد وكم الاتفاقيات التي تمت في هذا الاطار, بالتوازي مع موقف الاردن الرسمي والشعبي ازاء رفع الحصار عن العراق, وعدم ممانعته في اختراق اجوائه الطائرات المدنية التي حملت وفودا من انحاء العالم لهذا الغرض, والاعداد لخطوة شجاعة تستهدف الشروع في رحلات منتظمة لشركة عالية بين عمان وبغداد, خاصة ان العراق يمد الاردن باحتياجاته النفطية بأقل من السعر العالمي, ايضا على الصعيد نفسه, يلاحظ ان حجم استيراد العراق من السوق المصري فاق كل التوقعات, حيث بلغ حتى الآن مليار دولار سنويا, وهذا الرقم مرشح للزيادة وكرد فعل ايجابي لتطور الموقف المصري من ازمة العراق, ومن ذلك تصريحات وزير الخارجية عمرو موسى الاخيرة التي اكد فيها على ان الحصار المفروض عليه بات امرا غير مقبول, ثم لم تمض سوى ثلاثة اسابيع استعادت البلدان علاقاتها الدبلوماسية التي قطعتها بغداد عام 1990, في الوقت الذي ترجح دوائر دبلوماسية مسئولة قيام مصر بقيادة موقف عربي موحد يستهدف تفكيك الحصار الدولي المفروض على العراق, بداية بكسر الحظر الجوي على الصعيد الرسمي! على ان العراق لم يقصر الرهان فحسب على العامل الاقتصادي لفك الحصار, وانما على العامل الشعبي العربي كذلك الذي استعاد مصداقيته القومية تباعا منذ اندلاع الانتفاضة, حيث شهدت العاصمة العراقية مؤتمر بغداد الدولي الذي جمع شخصيات عربية وأجنبية مرموقة كانت لها ادوار مميزة في الدعوة الى كسر الحصار, بالتزامن مع الاجتماع السابع لمؤتمر القوى الشعبية العربية, لاستثمار زخم الانتفاضة القومي في حشد الجماهير العربية وممارسة ضغوطها لفك الحصار الدولي وسد النقص في مقررات القمة العربية الطارئة لدعم الانتفاضة! والشاهد ان العامل الثقافي اصبح بالفعل احد الآليات العراقية الفاعلة في كسر الحصار, وذلك ان العراق بتراثه الحضاري العريق, ظل ملتقى المفكرين والادباء والفنانين العرب والاجانب قبيل ازمة الخليج ولم يكن يمر اسبوع واحد الا وكانت بغداد وغيرها من مدن العراق على موعد مع مهرجان للثقافة والابداع واشهرها مهرجانا المربد وبابل, ومن هنا اثمر تراكم العلاقات والتواصل في هذا المجال الحيوي, عن تداعي الاحزاب والصحافة والمبدعين في ايطاليا لمأساة العراق, وادانة المنهج الامريكي لابادة الشعب العراقي ورأينا كيف تقدم اعضاء البرلمان لصالح كسر الحصار, ورفع الحكومة الايطالية القيود الدولية المفروضة على ارصدة العراق المالية, وتنظم اول رحلة جوية الى العراق, ضمت عددا من المثقفين والفنانين الايطاليين, ولعله ما يؤكد جدوى اعتماد العامل الثقافي, تلك الجولات الناجحة للمسرح العراقي التي قدمت عروضها في عدد من العواصم العربية والاجنبية, وكذا فرقة الازياء الشعبية والتراثية رفيعة المستوى, التي تمتزج في هارمونية وانسجام بين الموسيقى والرقص التوقيعي والابهار المسرحي, مما يوحي للشاهد بأن هذا الشعب العاشق للجمال جدير بالحياة واستعادة سابق حضارته الزاخرة, ولعل عبقرية توظيف العامل الثقافي في رفع الحصار, تكمن في الاحتفالية الدولية بالذكرى المئوية الثانية عشر لتأسيس بيت الحكمة, وهي مؤسسة بحثية تعنى بشئون الفكر والفلسفة والثقافة والتاريخ يرجع تاريخ انشائها الى الثلث الاخير للقرن الثاني الهجري في زمان الرشيد والمأمون ابان العصر العباسي, وظلت تنهض بمهامها دون انقطاع, وعلينا اذن الرهان على دور بيت الحكمة الجديد في رفع الحصار, عبر ترجمة انتاجها الجديد العزيز الى اللغات الحية, وفتح ابواب الشركة البحثية مع نظيراتها في شتى عواصم العالم!

Email