الى اللقاء _ فلتحيا الجزائر _ حسين درويش

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الطريق الصاعد الى (الاوراسي) استوقفنا رجل عجوز وقرأ لنا قصيدة باللهجة العامية الجزائرية, فيها انتقاد لما آلت اليه الاحوال في بلد المليون شهيد. وفي الطريق الى الاوراسي احتجنا الى طاقة عظيمة للوصول الى الفندق الرابض على كتف احد الجبال المحيطة بالعاصمة الجزائرية, طاقة جاءت من عالم مجهول دفعتنا لمواصلة السير, ونحن نعب من الهواء العليل ما يجعلنا ابطالا في تسلق الطرقات الدائرية التي تحولت الى دهشة حينما نظرنا خلفنا فوجدنا بحرا بعيدا وابنية فرنسية الطراز بدأت تغيب ملامحها, فأدركنا ان الطريق الى الاوراسي استغرقت جل نهارنا, كما ادركنا ايضا ان الطريق وحدت هدفنا.. الا وهو الوصول الى الاوراسي. على اطراف الطريق كانت هناك حياة مختلفة عما عرفناه سابقا حياة لها ذاكرة, وهواء له تاريخ, وامكنة تصلح لتقبل الحياة والتعايش معها, الاجساد الممشوقة, الوجوه الضاربة الى السمرة, الملابس الداكنة, قسوة الحديث, لطافة المعرفة, حب المشرقين, ليس لاننا مشرقيون نرى الشمس قبل الاخرين, ولكن لان الجزائريين ينظرون الينا نظرة الجسر الذي ربط حاضرهم بماضيهم, الجسر الذي بناه الاجداد في ثورتهم ضد الفرنسيين, والذي تجاهله الاحفاد بحركات بهلوانية صوب المستقبل, فأضاعوا البوصلة ولم يعرفوا اين ماضيهم وما هو حاضرهم. في الطريق الى الاوراسي طلب منا العجوز الجزائري ان نصغي اليه خمس دقائق, ففعلنا مشدوهين لان نصف ما قاله لم نفهمه والنصف الآخر فهمناه بشكل خاطىء, وكانت التفسيرات المتضاربة لقصيدته تسليتنا في طريقنا الى الاوراسي, عجوز فيه ذاكرة شعبية حية رفض بداية ان نصوره, (ما حبش الصور) ولكننا اقنعناه انها ليست صورة فقط, ولكنها ذكرى سنأخذها الى بلادنا.. وعندها ادرك اننا لسنا من الجزائر.. فقال ضاحكا (ع السلامة). كانت الطريق تصعد, وكنا ندعي البطولة والقوة ناسين او متناسين ليلة طويلة من الارهاق في انتظارنا, ولكننا ادعياء حتى فيما يتعلق بصحتنا, كان الهواء العليل بلسم تعبنا فتابعنا السير, وواصلناه بالسهر ليلا على شرفة الاوراسي مصغين الى غزل الشعراء العجائز بالحاضرات اللاتي ادركن ان اعمارهن ذهبت هباء قبل كلام الليل اللطيف.. الذي محته شمس الصباح, واللاتي ادركن ايضا ان الطريق الى الحب معبدة بألف انتظار, وألف كذبة ناعمة! اوشكت الطريق الى الاوراسي ان تنتهي, فاستجمعنا انفاسنا وقوانا لندخل الى صالة الفندق كما الابطال الفاتحين, ولكننا كنا ادعياء وسط جيش من الادعياء الذين كانوا ابطالا منذ قليل, فنال منهم الارهاق ونالت منهم الطريق وتحولوا الى كتل من وحدة تجر نفسها الى المقاعد الشاغرة, وتنظر عبر الزجاج الى المدينة ذات الادراج والتضاريس المتباينة كما لو ان المشهد من بلد بعيد, بعيد جدا عن الجزائر, فلم نكن فاتحين ولا كنا شهودا على ما يجري هنا, لان المدن العظيمة عندما تأتيها طائرا لن تشاهد الا الضباب ولكن عندما تأتيها سباحة ستجدها كما العروس التي تنتظر فارسها ليلة الزفاف. لم نكن طيورا, ولم نكن فرسانا, ولكننا كنا في الجزائر.. فلتحيا الجزائر.

Email