غبار كثير على هذه الأمة. غبار ساكن, مقيم منذ عمر طويل, تحسبه بعضا منها, من كينونتها, من ملمحها وهويتها. غبار التصق فيها منذ ذلك العمر الذي سرحت فيه أمجادها, وهربت فيه, منها شجاعتها وصدقها, تخلت عن كبريائها. عندما هانت ضاعت. الغبار ضيع كل شيء, قوة الغبار جعلتنا ننسى الذي لا ينسى, نتكلم بخوف, من غير ألسنة, نسينا أننا افصح أمة, نعتز بالحق, نطلب لغيرنا _ حتى لو كان هذا الغير عدوا _ نطلب له ونعطيه العدل. الغبار لا يعترف بالمبادئ, لا يؤمن بالماضي وأخلاقيات المثل. عليه بالحاضر كيف يكون والمستقبل كيف يجب ان يكون. وآمنا بالحاضر, آمنا بالغبار, حتى أصبح منا, أصبحنا منه. نسينا أي أمر غيره. يدعو الغبار إلى السلام, يحمل معه الاستقرار, الحرية والامان. هل هناك غبار مر في التاريخ صنع أمنا وسلاما؟! التاريخ لم يذكر مثل هذا الافتراء. نحن صدقنا أن غبار هذا العصر الجديد غير كل الاغبره, انه يحقق ذلك. ووجدنا في السلام, الكلام والصور, والتهديدات, والتنازلات والذل والضياع. أمرونا بعدها بالصمت. إن القادم مخطط له ومربوط بمصالح واستراتيجيات الكبار والدولة العظمى, وانكم رعايا, لا حول لكم ولا قوة في هذا. وآمنا أن الغبار قدر علينا, وإننا مسّيرون. تكيفنا مع الغبار و أحببنا الغبار, حتى خرج هؤلاء, غضبوا, تزلزلوا, يبدو ان الغبار لم يصلهم, يبدو ان قلوبهم لا تزال خضراء, فيها بقايا عروق قديمة من تاريخ أمة, كانت مجيدة. انتفضوا هناك, فطار عنّا بعض الغبار, عنّا نحن المنتمين لهذه الامة, الذين نسكن في كل أصقاع هذه الدنيا. انتفاضتهم كانت بالدم, بالموت الحقيقي. كنا نحتاج لمثل هذه النفضة, لنشعر بالذل والهوان, لنشعر كم نحن ضعفاء, رغم كثرة تعدادنا, إلا أننا نشبه حالة غثاء السيل. زمن طويل مر لم تبك فيه قلوبنا من وجع الانكسار والخزي, لم نبك فيه حالنا, وهذا بكاء صحي انه يحمل صحوة. زمن طويل نسينا فيه كيف تجتمع القلوب الغاضبة, تعتصم, تصرخ, كيف تكون هناك مسيرات حاشدة بالجماهير كبارا وأطفالا صغارا, سيدات قبل الرجال. نسينا كيف تتوحد القاهرة والشام والخليج, كيف نصبح أمة واحدة. الغضب ذكرنا بهذا الحلم. نسينا إن الشعوب البسيطة هي سيد, لها قوة عندما تغضب, لها كلمة, إنها اشد واكبر من الغبار, مهما كان هذا الغبار عاصفا شديدا. المنتفضون ذكرونا, ذكروا العالم كله بقاعدة الشعب, بثورة القلوب المحمّلة بالغضب والكرامة عندما تنفجر. لا أحد يمكنه أن يوقف نزفها. تنتهي ولا تستسلم. هؤلاء المنتفضون علّمونا من جديد, ان هذه الامة قادرة على ان تصنع رموزا, نجوما, ينظر إليهم العالم كله, يحفظ أسماءهم واعمالهم, نجوما في الرجولة, حتى لو كانوا أطفالا مثل (محمد الدرة) . ليت انتفاضتهم تطول, ليت الامة كلها تنتفض. هذا وصف أرسله الشاعر محمود درويش قبل ثلاثين عاما, كأن المشهد يتكرر, كأن الزمن يعود, انه الحق واحد لا يتغير مهما حاولنا أن نغيره : هذا هو العرس الذي لا ينتهي في ساحة لا تنتهي في ليلة لا تنتهي دمهم امامي.. لا أراه كأن كل شوارع الوطن اختفت من اللحم وحدهم يرون لانهم يتحررون الان من جلد الهزيمة والمرايا هاهم يتطايرون على سطوحهم القديمة كالسنونو والشظايا هاهم يتحررون.. طوبى لشيء غامض ٍ طوبى لشيء لم يصل فكّوا طلاسمه ومزّقهم فأرخت البداية من خطاهم السفح اكبر من سواعدهم ولكن حاولوا ان يصعدوا والبحر ابعد من مراحلهم ولكن حاولوا ان يعبروا والنجم أقرب من منازلهم ولكن حاولوا ان يفرحوا والارض اضيق من تصورهم ولكن حاولوا ان يحلموا.. * * * محطة أخيرة: مات عوض الكريم,سوداني كريم. ترك السودان منذ عمر طويل, وسكن (الذيد) . أحبه الاهالي البسطاء, لانه مثلهم بسيط, سمح, مبتسم دائما, عمل في دائرة خدمية هي البلدية, كان يتعامل معهم جميعا بالصدق, والصدق حالة فريدة في مثل هذا الزمان, وفي مثل هذه الامكنة. صدقه مع الناس واخلاصه في عمله, جاء من عمق ايمانه الحقيقي وتقواه في عبادة ربه. اختار ان يكون سكنه قرب المسجد, تلمحه عند كل صلاة, ماشيا نحو بيت الله. انه من المشاءين, العابدين. لاينتظر ان تقام الصلاة, ان حركته تبدأ عند الأذان, يحب ان يكون من أوائل الداخلين إلى المسجد. أول امس أدى صلاة المغرب في الجامع الكبير, وخرج كعادته الى السوبر ماركت يشتري خبزا للعشاء. قطع الطريق, لم يقطعه كاملا, في منتصفه صدمته سيارة طائشة, مجنونة. لم يصل الى بيته, لم يسلمهم ما يحمله في يده لهم من خبز, لم يتعش معهم العشاء الاخير. تركهم ومات. أسرة كبيرة من غير معيل, من غير أب, من غير ظل. تركهم في منتصف العام الدراسي. تركهم في دروب الحياة الصعبة. رحل عوض الكريم.. رحم الله ذلك الانسان الطيب.