في الثالث عشر من شهر ابريل عام 1950 وقعت سبع دول عربية الاحرف الاولى على معاهدة للدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي, وكان ذلك ترجمة رسمية لمطالب ومشاعر شعبية عربية, جرحت في الصميم بعد هزيمة عام 1948 وقيام دولة صهيونية في فلسطين, وتحقيقا لتطلع قومي مشروع في اطار الجامعة العربية التي كانت قد تأسست قبل ذلك, لتحقيق تنسيق وتعاون عربيين يؤديان الى: ـ تكوين قوة عربية قادرة على رد العدوان عن اقطار الوطن العربي, وكان العدوان ماثلا ومجسدا بإسرائيل بالدرجة الاولى. ـ ايجاد ارضية فعلية وضمانة حقيقية للسلام والامن والاستقرار والتعاون بين الاقطار العربية, وردع اية محاولة من دولة عربية للسيطرة على دولة عربية اخرى, اي للعدوان عليها والتجاوز على سيادتها ومصالحها. وفي السابع عشر من شهر يونيو عام 1950 وفي قصر أنطونيوس بالاسكندرية وقعت ست دول عربية هي: الاردن ـ سوريا ـ السعودية ـ لبنان ـ مصر اليمن, على تلك المعاهدة التي نصت المادة الاولى منها على ما يلي: (تؤكد الدول المتعاقدة, حرصا على دوام الامن والسلام واستقرارهما, حرصا على فض جميع منازعاتها الدولية بالطرق (السلمية) سواء في علاقاتها المتبادلة فيما بينها او في علاقاتها مع الدول الاخرى) . ولم يوقع العراق الاتفاقية في ذلك اليوم, بل وقع عليها في 25 ربيع الثاني 1370 هـ الموافق 2 فبراير 1951 بعد التوقيع على بروتوكول اضافي تضمن النص على تأسيس هيئة استشارية عسكرية, والنص في المحاضر على تصريح ادلى به نوري السعيد رئيس الوزراء آنذاك, اكد فيه ان القرارات التي يتخذها مجلس الدفاع المشترك بأكثرية الثلثين وتغدو ملزمة حسب المادة السادسة لا تسري على ما ورد في الفقرة الاخيرة من المادة الرابعة والتي تنص على ما يلي: رغبة في تقييد الالتزامات السالفة الذكر على اكمل وجه تتعاون الدول المتعاقدة فيما بينها لدعم مقوماتها العسكرية وتعزيزها, وتشترك بحسب مواردها وحاجاتها في تهيئة وسائلها الدفاعية الخاصة او الجماعية لمقاومة اي اعتداء مسلح) . ومن الملاحظ ان الاعتراض الذي اقر يتضمن منفذا للتملص من اية التزامات مالية للدفاع الجماعي قد تفرض بالأكثرية ويدفع جراءها العراق كثيرا, حسب موارده التي كانت كبيرة قياسا لسواه من الاقطار العربية, وكان الدافع الرئيسي وراء تلك المعاهدة, درء الخطر الخارجي وضم الصفوف ولكن الدول العربية لاحظت بوضوح التهديد الداخلي لجبهتها وقوتها الناشىء عن العلاقات العربية ـ العربية, وصلات الدول العربية وما يعتور تلك الصلات من خلل واطماع وافعال, ستؤدي, ان لم تعالج, الى اضعاف الصف العربي من جهة, وضرب القوة العربية بأخرى عربية من جهة أخرى, الأمر الذي يريح العدو ويزعزع الثقة والاطمئنان والاستقرار, ويمنع كل اشكال التقدم والبناء على طريق الاستعداد للتحرير والاعداد له عربيا. وربما تأكيدا لكل ما نص عليه ميثاق الجامعة العربية, ومعاهدة الدفاع المشترك, وتعبيرا عن القلق وعدم الاطمئنان الى الوضع العربي الداخلي جاءت توصية واضحة في مجلس الدفاع العربي المشترك 4 ـ 9 سبتمبر 1953 تقول: (لسلامة الجبهة الداخلية للدول العربية وتوحيدا للشعور العام بين شعوبها وقت الحرب والسلم, بحيث تكون قضية كل منها قضيتهم جميعا, يوصي المجلس الدول الاعضاء ألا يصدر من اي منها اي اعمال مادية او معنوية يشتم منها عدم تأييد قضية الدول الاخرى. ويوصي المجلس الدول الاعضاء والامانة العامة (لاتخاذ جميع وسائل الاجراءات المفيدة لتوجيه الشعور العام عن طريق الاذاعة والنشر او اي واسطة اخرى لتحقيق التعاون بين الجماعات والافراد داخل الدول وتجنب الانتقادات الضارة وكل ما من شأنه اضعاف الروح القومية وبث الفرقة بين الحكومات والشعوب او تشجيع العناصر الهدامة) فقد كانت الاجواء السياسية العربية تنذر بالكثير. انضمت الى المعاهدة المغرب في 13 يونيو 1961 واعلنت دولة الكويت وثيقة انضمامها الى المعاهدة وملحقاتها في 11 اغسطس 1961م بتوقيع الامير عبدالله سالم الصباح, ومرت سنوات النصف الاول من عقد الخمسينيات والوضع العربي يتأرجح بين انقلاب وانقلاب, وصفوة وجفوة, على صعيد الاقطار العربية التي كانت قد وقعت على المعاهدة. وجاء عدوان السويس 1956 ليمتحن هذه المعاهدة وليكشف الضعف العربي وسوء الاعداد والاستعداد لمواجهة العدوان. وبدأت خطوات لمعالجة اوضاع محددة, وللوصول الى ارضية واقعية لتعاون عربي حقيقي يملك مصداقية في ساحتي الفعل والمواجهة. ويظهر بجلاء ان بحثا عربيا عن وسائل لترميم ثغرات في المعاهدة قد بدأ, وصولا الى اوضاع عربية افضل, كما يظهر ان اللحظات التي سبق وأشرت اليها اخذت تبرز عمليا لتشكل معوقا ملموس النتائج على العمل العربي المشترك. ففي 19 يناير 1957 وضعت اول اتفاقية للتضامن العربي انطوت على ترجمة مادية ملموسة لتوجه يأخذ بالاعتبار واقع بعض الساحات العربية (الاردن) ويرمي الى تغزيزها وجاء في تلك الاتفاقية: ان حكومات المملكة الاردنية الهاشمية والجمهورية العربية السورية والمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية, ادراكا منها للمسئوليات الجسام الملقاة عليها للمحافظة على الكيان العربي واستقلاله, واستجابة لرغبة شعوبها وايمانها بالتضامن لتحرير الوطن العربي وتقديرا منها بأن تحقيق هذا التضامن خطوة ايجابية نحو الوحدة العربية المنشودة واسهاما في صيانة الامن والسلام وفقا لمبادىء ميثاق جامعة الدول العربية وميثاق الامم المتحدة, ورغبة منها في عقد اتفاقية لتقوية التعاون وتنسيق الجهود في سبيل الغايات. مادة (1): تؤكد الحكومات المتعاقدة ايمانها بضرورة التضامن لتدعيم الكيان العربي واستقلاله وتعلن تقديرها لما في هذه المشاركة في المسئوليات المترتبة عليه. مادة (2): تشترك حكومات الجمهورية العربية السورية والمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية في تكاليف الالتزامات التي تقع على عاتق حكومة المملكة الاردنية الهاشمية نتيجة لسياسة التعاون والتضامن في تدعيم الكيان العربي واستقلاله مع اجمالي قدره اثنا عشر مليونا ونصف المليون من الجنيهات المصرية سنويا او ما يعادلها, ويطلق عليه تعبير الالتزامات المتعاقدة تظل نافذة المفعول الى حين انتهاء اجلها وبعد ذلك بانقضاء سنة من تاريخ تقديم احدى الحكومات المتعاقدة للحكومات الاخرى بالطرق الدبلوماسية اخطارا بالانتهاء. مادة (5): يصدق على هذه الاتفاقية وفقا للأوضاع الدستورية المرعية في كل من الدول المتعاقدة وتصبح نافذة من تاريخ تبادل وثائق التصديق على ان يتم تبادل هذه الوثائق في القاهرة. ولنا ان نتساءل عن اسباب غياب العراق عن هذه الاتفاقية, كما لنا ان نتساءل: لماذا لم تسد معاهدة الدفاع المشترك مثل هذه الثغرة, ولم لم تأخذ طريقها الى التحقق والحضور بفاعلية في ساحة المواجهة العربية. نعرف جيدا التحركات العربية التي جاءت بعد ذلك, والخطوات التي دفعت الى وحدة سوريا ومصر, الى مواجهة تلك التجربة واحباطها. وبعد الانفصال دخل العمل العربي طرقا شبه مسدودة, وبرزت حاجة ماسة لشكل من اشكال الوفاق والعمل العربيين على صعيد واقعي فعال, وكان نتيجة حاجة شعبية ورسمية عربية حيث صدر ميثاق التضامن العربي عن القمة في 15 سبتمبر 1965 ونص على ما يلي: إيمانا بضرورة التضامن بين الدول العربية ودعم الصف العربي لمناهضة المؤتمرات الاستعمارية والصهيونية التي تتهدد الكيان العربي, ويقينا بالحاجة القصوى لتوفير الطاقات العربية تمهيدا لتعبئة القوة لمعركة الكفاح لتحرير فلسطين, وايمانا بالحاجة الى الانسجام والوفاق بين الدول العربية لكي يتسنى لها ان تلعب دورا فعالا في اقرار السلام, ورغبة منا في توفير جو تسوده روح الود والاخاء بين البلاد العربية حتى يتمكن الاعداء من ان يفتّوا في عضد الامة العربية. فقد التزمنا نحو ملوك ورؤساء الدول العربية في مؤتمر القمة المنعقدة بالدار البيضاء بين 13,17/9/1965 بما يلي: اولا: العمل على تحقيق التضامن في معالجة القضايا العربية وخاصة قضية تحرير فلسطين. ثانيا: احترام سيادة كل من الدول العربية, ومراعاة النظم السائدة فيها وفقا لدساتيرها وقوانينها وعدم التدخل في شئونها الداخلية. ثالثا: مراعاة قواعد اللجوء السياسي وآدابه وفقا لمبادىء القانون والعرف الدولي. رابعا: استخدام الصحف والاذاعات وغيرها من وسائل النشر والاعلام لخدمة القضية العربية. خامسا: مراعاة حدود النقاش الموضوعي والنقد الباني في معالجة القضايا العربية, ووقف حملات التشكيك والمهاترة عن طريق الصحافة والاذاعة وغيرها من وسائل النشر. سادسا: مراجعة قوانين الصحافة في كل بلد عربي بغرض سن التشريعات اللازمة لتحريم اي قول او عمل يخرج عن حدود النقاش الموضوعي والنقد الباني, من شأنه الاساءة الى العلاقات بين الدول العربية او التعرض بطريق مباشر او غير مباشر بالتجريح لرؤساء الدول العربية. ومن المفيد التأمل في مرمى وأبعاد الفقرتين الثانية والسادسة من الميثاق لما لهما من دلالات, وللوقوف على ما تكشفان عنه من علل الساحة العربية, وما تنذر به تلك الساحة من مشكلات وأزمات لاسباب واوضاع عديدة تسيطر على علاقات حكوماتها. ومنذ ذلك التاريخ حل التضامن العربي محل الطموحات العربية الكبرى: الوحدة العربية ـ الدفاع المشترك, واخذ ذلك التضامن يصبح, شيئا فشيئا, أملا منشودا وبدأت محاولات التمسك به والحصول عليه, في خضم الصعوبات والخلافات القطرية والعربية, والتهديدات الاجنبية له, تلك التي كانت ترمي دائما الى اضعافه وتقويضه. في فترة زمنية قصيرة جدا فقط برز التضامن العربي عملاق التأثير, كان ذلك في الربع الاخير من عام 1973 والنصف الاول من عام 1974 وقد واكب حرب اكتوبر وسار في درب استثمار نتائجها, واذا كان قد ضعف في جوانب اقتصادية وعسكرية, فإن ظواهره استمرت لفترة اطول في تنسيق سياسي عزز العمل العربي المشترك الذي اثر تأثيرا ايجابيا على القضية الفلسطينية في المحافل الدولية, وأدى فيما ادى اليه, ادى الى قبول فلسطين عضوا مراقبا في الامم المتحدة, وإلى اتخاذ القرار 3379 الذي أكد الطبيعة العنصرية للصهيونية, والى حضور واستقطاب عربيين واسعين بدأ تأثيرهما يتسع لصالح القضايا العربية, وحقق مداخيل قومية عالية بعد ارتفاع أسعار النفط من المعنيين مباشرة بالقضية الفلسطينية, السوريين والفلسطينيين واللبنانيين, ومن دخل على الخط من العرب في هذا المجال, وقد دامت الحرب على ساحة لبنان اكثر من ستة عشر عاما غصت بالمرارة والبؤس والقسوة. وفي المغرب العربي بدأت قضية الصحراء المغربية تتفاقم, واعلن عن قيام (البوليزاريو) ومن ثم الدولة الصحراوية التي شغلت المغرب والجزائر وموريتانيا والجماهيرية بشكل خاص, واقطارا عربية اخرى, ووضعتها في مواجهة خلافية استهلكت جهدا ومالا وكثيرا من روح الوفاق والتعاون العربيين. وكأنما كان الحدثان اللذان تما في كل من لبنان والمغرب وكذلك التهديد الغربي باحتلال منابع النفط في السبعينيات, كأنما كان كل ذلك تمهيدا لخلق جو ملائم لتحقيق تفكك عربي ومناخ احباط يؤديان الى وضع عربي يساعد على نجاح الحدث الكبير الذي سدد ضربة لأهداف التضامن ذاته في تلك الفترة, فضلا عن اخلاله بوحدة الصف وبالمعيارية القيمية القومية لمعالجة القضايا العربية الرئيسة معالجة جماعية على اساس ميثاق الجامعة العربية وميثاق الدفاع المشترك والتضامن العربي, اعني بذلك (كامب ديفيد) واتفاقياته وما اسفر عن ذلك من اثر في الساحة العربية وعلى القضية المركزية للنضال العربي, قضية فلسطين. وتمت خطوات معروفة آنذاك, مرافقة بهالتي جد وحماسة, وأوحت بإعادة شيء من التماسك للشارع العربي في اتجاهيه الشعبي والرسمي, بمواجهة العدو الصهيوني, وتم تشكيل جبهة الصمود والتصدي, وجبهة المساندة التي اخذت على عاتقها مسئولية تغذية جبهة المواجهة ماليا, واخذ العمل العربي منحى واضحا ـ نظريا ـ يرمي الى تحقيق توازن بين العرب و(اسرائيل) بعد خروج مصر من ساحة المواجهة معها, على كل صعيد. لم يكن ذلك عملا سهلا, ولم يكن يتم بمنأى عن التدخلات والايحاءات الاجنبية الرامية الى اضعاف ذلك واعاقته واحباط مناخ المقاومة في الشارع العربي, رسميا وشعبيا. ولم يثبت ذلك المناخ الايجابي ولم يدم طويلا, اذ سرعان ما بدأت عوامل وأعمال التصدع تظهر, فلم يبد العراق حماسة للجبهة بعد وقت من قيامها, وأخذ يتباعد عنها, ويظهر انشغاله وقلقه الذي كثيرا ما عبر عنه, (بالخطر الايراني الذي يتهدد (البوابة الشرقية) للوطن العربي) . وفقا للمقولة العراقية.