من تجليات كامب ديفيد2: عيوب الوساطة الأمريكية ، بقلم: د. محمد خالد الأزعر

ت + ت - الحجم الطبيعي

لسنا مع الذين تعجلوا بالحكم على قمة كامب ديفيد الثانية بالفشل, ولايعني ذلك أنها كانت ناجحة بالكامل.. ذلك بأن القمة كانت على قدر رفيع من السرية والكتمان. ولابد أن وصفها بالفشل قد أخذ بظاهر الحال, باعتبار أنها عموما لم تتمخض عن اتفاق شامل بشأن القضايا موضع التفاوض. لقد شاع هذا الوصف رغم أن طرفا من المشاركين في القمة لم يأخذ به. ثم إن الطرفين المعنيين الأساسيين سارعا باستئناف التفاوض المستمر, وفي ذلك رسالة لمن يعنيه الأمر بأن قطيعة ما لم تحدث بينهما. أما القصف الاعلامي والكلامي المتبادل فهو أقل بكثير مما يعتد به كمؤشر على فشل القمة, لأنه جزء أصيل من عمليات التمويه والتعامل مع الرأي العام المتربص على الجانبين الفلسطيني (العربي) والاسرائيلي. ولعل الذين يتابعون عن كثب, يدركون كيف أن الخطاب الموجه للداخل الاسرائيلي والفلسطيني, كان أكثر ميلا للتصعيد والتهييج مقارنة بذلك الخطاب الخارجي الذي بدأ عقلانيا هادئا. فالجانب الفلسطيني مثلا كان يتحدث عن الاستعداد لاعلان تجسيد الدولة وعدم التنازل المطلق عن الحقوق الوطنية والقومية في قضايا التفاوض النهائي, بينما راح مفاوضوه يلتقون يوميا بالشركاء الاسرائيليين حول القضايا الانتقالية العالقة والمرجأة. ولما كان من الصعب تحصيل جديد مفيد للطرف الفلسطيني من هذه اللقاءات, لأن الاسرائيليين يساومون بها على القضايا النهائية, فانه لا معنى لاستئناف التفاوض سوى إثبات حسن النية الفلسطينية, وعدم الخروج عن جادة أوسلو بالمطلق. من مؤشرات عدم فشل القمة أيضا, ما قيل عن توصلها الى حلول للقضايا الخلافية بنسبة تصل الى ثمانين في المئة, ولا يتسق وقوع هذا المعدل من التوافق مع وصف القمة بالفشل. وعموما, فانه طالما كنا بصدد تفاوض سري, فمن الأحوط منطقيا التزام الحذر في اطلاق الأحكام والتوقعات أخذا بظاهر الحال. عملا بهذه النصيحة, التي تحثنا على ملاحظة الأفعال أكثر من الأقوال, يمكن التوقف عند سلوكيات الشريك الأمريكي. فالقمة كشفت بقوة عن عيوب هذا الشريك الوسيط, سواء عند مراحلها الاعدادية أو أثنائها أو بعدها. قد نختلف مع القائلين بفشل القمة, لكننا نتفق تماما مع الاعتقاد بأن كامب ديفيد الفلسطينية كانت مناسبة برزت فيها بما لا ترقى اليه الشكوك سوءة الانحياز الأمريكي للطرف الاسرائيلي بلا مواربة. وهو ما يؤكد مجددا حدس, ولعله يقين, الرافضين لوحدانية الوساطة الأمريكية على مسارات التسوية الاسرائيلية العربية, لاسيما الفلسطيني منها. قبيل الدعوة للقمة, كانت هناك معطيات تؤكد توجس الطرف الفلسطيني منها, ورغبته في أن يسبقها اعداد كاف, وكانت واشنطن تعلم أن هذا الطرف محق في هواجسه. إذ تنطوي القمة بالنسبة له على حرق للمراحل, لأن المفاوض الاسرائيلي مدين بعدد كبير من استحقاقات المرحلة الانتقالية. ولم يكن من المتصور أن يتجاوب الاسرائيليون مع الحقوق الفلسطينية في القضايا الأعقد في الوقت الذي يرفضون فيه الالتزام بالقضايا الفرعية الأسهل رغم الاتفاق حولها. ومع ذلك, دعت واشنطن للقمة بما يشبه صيغة الاستدعاء بالأمر, نزولا عند رغبة إيهود باراك. وكان ظن الشريكين الأمريكي والاسرائيلي أن القمة تيسر اعتصار المفاوض الفلسطيني باعتبار أن تمنعه مسألة مؤقتة وتكتيكية, ويبدو أن الدعوة تمت بناء على تقديرات خاطئة لحدود التنازل الفلسطيني, وكذا حدود إمكاناته في التصرف بالنسبة للقضايا الأم فلسطينيا وعربيا واسلاميا, لاسيما قضية القدس. وكان ذلك عيبا كبيرا ورط فيه مستشارو بيل كلينتون رئيسهم. على أن هذا العيب يظل هينا مقارنة بغيره أثناء القمة وبعدها. ففي غضون القمة, التزم الأمريكيون بالطروحات والحلول الاسرائيلية وحاولوا تجميلها بصيغ التفافية. وأسوأ ما في ذلك هو غياب فكرة الشرعية الدولية بعامة والشرعية الدولية الفلسطينية بخاصة عن ذهن المفاوض الأمريكي, تماما كما هو الحال مع حليفه الاسرائيلي. وبمثل هذه المنهجية, كان الطرف الفلسطيني أمام طرفين مفاوضين لا طرف واحد. ويبدو أن الادارة الأمريكية تجاهلت دور الوسيط, كما أنها لاتدرك حجم الضرر الذي تلحقه سياسة كهذه بقضية العدالة الدولية والقانون.. فبانصياعها للمنطق الاسرائيلي الأخرق, تكاد واشنطن أن تجعل الحقوق على قياس القوة, بمعنى أن تصبح القوة فوق القانون. وهي معادلة لاتبشر بخير بالنسبة للمفاوض الفلسطيني. هذا التجاوز الحقوقي القانوني السياسي, بلغ أوجه بعد القمة حين اقترن بتجاوز أخلاقي. وذلك عندما لوحت السياسة الأمريكية صراحة على غير عادتها وعلى غير مقتضيات الوساطة النزيهة أو غير النزيهة, بتهديدات ووعيد إزاء الطرف الفلسطيني. ففي أسبوع واحد بعد القمة وصل الى هذا الطرف ومن يظاهره ضمنا بالتداعي ثلاثة من هذه التهديدات: الأول, بقطع المعونات الاقتصادية عن السلطة الفلسطينية, والثاني, باحتمال نقل السفارة الأمريكية الى القدس, والثالث, بعدم الاعتراف بخطوة تجسيد اعلان الدولة واعتباره اجراء أحادي الجانب يهدد السلم والأمن في منطقة (الشرق الأوسط).. إننا ندرك مع كثيرين مدى صعوبة فكاك الطرف الفلسطيني من أحابيل الوساطة الأمريكية على سوءاتها. لكن أضعف الايمان ألا يتخلى هذا الطرف عن حذره من الطروحات والنصائح والحلول الأمريكية المغموسة بالفكر الصهيوني الاسرائيلي. * كاتب فلسطيني ـ القاهرة

Email