نقل السفارة الامريكية الى القدس.. الأهداف والنوايا ، بقلم: عبدالكريم محمد

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا شك ان الولايات المتحدة الامريكية اصبحت تعيش على مفترق طرق, خاصة بعد ان دخلت قضية الانتخابات على الرئاسة الامريكية بين الجمهوريين والديمقراطيين بداية مرحلة الحسم, أي بين ما يسمى مجازا الاخوة الاعداء والذي يمثل الاول من حلبة الصراع (بوش الابن) رئيس ولاية تكساس, والثاني (آل جور) نائب الرئيس بيل كلينتون, ممثلا عن الديمقراطيين. وقد يكون من المتعارف عليه ان القوى المتصارعة انتخابيا غالبا ما تستخدم كل اوراق القوة والضغط بهدف توظيفها على المستوى الشخصي والحزبي من جهة, وفي استخدامها كورقة للضغط يشهرها هذا الطرف او ذاك في لحظة توقيت يراها مناسبة لتفويت الفرصة على الطرف الآخر, عشية توزيع الصناديق على المراكز الانتخابية من جهة اخرى. ولعل الولايات المتحدة الامريكية ليست بعيدة هي الاخرى عن هذه المنازلات لا بل هي صاحبة التجربة الكبيرة في خوض مثل هذه المعارك الانتخابية التي يحاول المتنافسون فيها لملمة كل أوراقهم, حتى القصاصات التي غالبا ما تكون مهمشة او منسية يجري استحضارها, بل وتكبير حجمها حتى تصل في بضع الاحيان لتصبح سلاحا حادا في يد هذا الطرف او ذاك والامثلة اكثر من ان تحصى في تاريخ الانتخابات الامريكية, خاصة الفضائح المالية منها والاخلاقية وما تفضي اليه, دون ان نغفل حقيقة التلاعب التي تحمل اهدافا انتخابية ان كان على المستوى الداخلي بكل اشكاله او الخارجي بكل مضامينه. فاسرائيل تعتبر بجد احدى اهم الاوراق الانتخابية المزدوجة على المستويين الداخلي والخارجي, وهي تستخدم منذ ما بعد انشائها بخمس او ست سنوات, كورقة قوية يشهرها الطرفان في لحظة الحسم الانتخابية بين جمهور الناخبين لأنها تعتبر رصيدا استراتيجيا لا يمكن الاستغناء عنه او تجاهله. أي ان المصالح التي ترنو اليها اسرائيل هي ذات المصالح التي تتلاقى بشكل كلي مع بعض التلاوين والاسماء مع الكثير من المصالح الامريكية. ولهذا تعتبر اسرائيل احد الشعارات الانتخابية. والسؤال الذي اود طرحه: ما الذي دفع كلينتون للاعلان وبشكل مكشوف ومفضوح عن نيته نقل السفارة الامريكية الى القدس قبل التوصل الى اتفاق نهائي مع الفلسطينيين؟ وعن ماهية اسباب التوقيت؟ الواقع ان توقيت الاعلان عن نقل السفارة الامريكية لم يأت من قبيل الضغط على الموقف الفلسطيني في مفاوضات كامب ديفيد بقدر ما هو ناتج عن اهداف داخلية, املتها جملة الظروف التي طوقت الرئيس بيل كلينتون. وما من شك في ان كلينتون حاول من خلال كامب ديفيد التخلص من هذه الظروف, لكن آليات التفاوض وماافضت اليه لم تسعفه ووجد ضالته في اعلان نقل السفارة الامريكية الى القدس. أي ان كلينتون بات متخوفا من النتائج الاولية واستطلاعات الرأي التي تظهر تفوق المرشح الجمهوري جورج بوش الابن بثماني نقاط او اكثر على منافسه آل جور وهذا اذا ما حصل فسيصبح كلينتون, بعد خسارة الديمقراطي آل جور مهددا بملاحقات قضائية خاصة ونحن نعلم ان الديون الكبيرة التي تراكمت على كلينتون لمحاميه بشأن قضية مونيكا, تثقل كاهله والآن يعيش تحت وطأة المطالبة بسداد الديون بالاضافة الى انه بات يشعر هو وغيره من الديمقراطيين ان آل جور بات امام جمهور الناخبين الامريكيين مكشوفا بسبب العديد من الاختلاسات المالية على المستوى الداخلي والخارجي, خاصة الصفقة التي عقدها مع الرئيس الروسي السابق يلتسين والتي قدرت بـ 15 مليار دولار والتي افضت الى حرب الشيشان الثانية كما ان كلينتون لم يؤمن بعد دخول زوجته هيلاري في الحياة السياسية الفاعلة, وبالتحديد في مجلس الشيوخ. لذلك وجد كلينتون نفسه امام خيار واحد وهو محاولة العمل على كسب اصوات اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الذي اخفق في ترجمة رؤيته واهدافه في المفاوضات التي قادها في كامب ديفيد. ودون ان نغفل ان هذا اللوبي يمتلك امكانات هائلة على المستوى الداخلي الامريكي وانه يمتلك نفوذا قويا داخل الاحزاب الامريكية وفي الكونجرس. ولعل (ايباك) المنظمة اليهودية الامريكية, والتي تعتبر الممثل الحقيقي لليهود في الولايات المتحدة على المستوى السياسي والاقتصادي تحظى هي الاخرى بنفوذ سياسي بين الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة فرئيسها السابق مثلا ستيف جروسمان يتقلد الآن رئاسة اللجنة القومية للحزب الديمقراطي بينما يشغل مل سمبلر احد اقطابها سابقا منصب المدير المالي للجنة القومية للحزب الجمهوري وهناك آرون كريستنسون المسئول عن التشريع سابقا في منظمة ايباك شغل مدير مكتب اعمال رئيس النواب حتى فترة قريبة. ولعلي في هذا العرض الموجز اردت ان اقول ان العامل الرئيسي في نجاح ايباك واللوبي اليهودي بشكل عام جاء نتيجة للتجانس بين اهداف الولايات المتحدة واسرائيل وهذا بحد ذاته يوصلنا الى حقيقة مفادها ان عوامل الضغط على السياسة الاسرائيلية الخارجة على شرعة الامم المتحدة وحقوق الانسان قد تلاشت بسبب التجانس الذي وصل حد التطابق في عهد الرئيس الامريكي بيل كلينتون الذي احاط نفسه بعدد هائل من اليهود على ارفع المستويات في مؤسسات الحكم والدولة. ونتيجة لهذا الوضع القائم ذهب الكاتب والمفكر العربي المقيم في الولايات المتحدة نصير عاروري الى القول: ان اللوبي اليهودي في عهد كلينتون قد تحول فعلا من مؤسسات تضغط للتأثير في صنع القرار الى منظر للقرارات السياسية داخل البيت الابيض وداخل وزارة الخارجية ووزارات اخرى مثل وزارة المالية وغيرها بالاضافة الى ان ايباك التي بدأت تطمح الى ان تكون (حركة جماهيرية) منذ نهاية سنة 1984, تضم اكثر من 50 ألف عضو منتسب يشاركون في انشطتها ويدفعون اشتراكات عضوية بعد ان كان عددهم 11 ألفا فقط سنة 1980. اما ميزانيتها التي كانت تبلغ 250 ألف دولار سنة 1973 فإنها بلغت 11 مليون دولار سنة 1989. لكن الامر الاهم بالنسبة لطريقة عمل اللوبي هو القدرات والفعاليات التي يمتلكها بالنسبة للمؤسسات الامريكية فهو يحافظ على اتصالاته اليومية بأفراد الادارة وبالشيوخ والنواب وخصوصا من كانوا اعضاء في لجان الشئون الخارجية والقوات المسلحة والميزانية. وهكذا فإن شخصيات ومجموعات يهودية حصلت على 350 اجتماعا مع موظفين من مختلف المستويات في البيت الابيض وفي وزارتي الخارجية والدفاع بين مارس 1981 وابريل 1983 اي بمعدل اجتماع واحد كل يومين اما ايباك على نحو خاص فإنها من جهتها تحاول ان تظل مطلعة على المواقف التي يتخذها الشيوخ والنواب ووجهة تصويتهم وترسل ممثليها لحضور جميع اجتماعات اللجان المعنية, وهناك مبادلات وثيقة مع (المعاونين التشريعيين) الملحقين بأعضاء الكونجرس . ويجب التنبيه الى ان هؤلاء المعاونين يقومون بدور مركزي في وضع (جدول الاعمال) التشريعي والعملية التشريعية لأن قوام مهمتهم هو تحضير خطابات النواب والشيوخ الذين يعملون لحسابهم وتصريف مطالب الناخبين والدوائر الانتخابية والجماعات الضاغطة اي بكلام آخر هم الذين يحررون مشاريع النصوص التشريعية ويقومون باعداد التعديلات وينظمون جلسات الاستماع ويكتبون التقارير ويساعدون في التخطيط الاستراتيجي. ورب سائل او مستفسر انه اذا كان عدد اليهود يساوي حوالي خمسة ملايين ونصف فما هي (منزلة الاقتراع اليهودي) في قوة اللوبي في الانتخابات. حسب الاحصائيات الرسمية الامريكية اليهود ليسوا موزعين بالسواء في مختلف الولايات الامريكية, فعددهم في بعض الولايات (مثل كاليفورنيا ونيويورك وبنسلفانيا) يتجاوز متوسط نسبتهم العام على الصعيد القومي الامريكي تجاوزا ملحوظا, الامر الذي يزيد في نفوذهم الانتخابي. وهكذا فإن 12% من سكان ولاية نيويورك الذين يملكون حق الاقتراع, هم يهود والناخبون اليهود يزيدون على نسبة 3% في كاليفورنيا وعلى 6% في نيوجرسي, وهم الى ذلك يتمركزون في المناطق المدينية من هذه الولايات, اي في اهمها سياسيا. فمدينة نيويورك على سبيل المثال تشتمل على ما يزيد على 90% من سكان الولاية اليهود وتشتمل فيلادلفيا على ما يزيد على 70% من يهود بنسلفانيا وتشتمل بوسطن على اكثر من 68% من يهود ماساتشوستس, وعلاوة على ذلك فإن هذه الولايات تستحوذ على وزن ثقيل جدا قياسا بولايات اخرى كثيرة في سياسة الولايات المتحدة وذلك لانها تتمتع بعدد كبير من الاصوات في الهيئة الانتخابية التي تتولى انتخاب رئيس الولايات المتحدة. وتشكل هذه المعطيات عوامل مضاعفة لتأثير الاصوات اليهودية, على المستوى المحلي وعلى المستوى القومي الامريكي. وكون 90% من اليهود في الولايات المتحدة مسيسين ويشتركون في العملية الانتخابية قياسا بالسكان الامريكيين عامة فانهم يمثلون ربع الناخبين الذين يشاركون في انتخابات الحزب الديمقراطي الاولية في ولاية نيويورك ونصف الناخبين في مدينة نيويورك وهكذا فإن اختيار الناخبين اليهود في الانتخابات الاولية لتعيين المرشح الرئاسي يحدد في الغالب اسم المرشح الديمقراطي الذي سيواجه منفردا مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة وبالاضافة الى هذا وذاك ثمة قضايا لاهوتية مشتركة بين اليهود والبروتستانت فيما يخص دولة اليهود وبناء الهيكل في مدينة القدس, وعودة المسيا اي المسيح المنتظر والنظرة الى الاغيار وفي مقدمتهم العرب والمسلمون, والتي تدغدغ مشاعر قيادات الحركة المسيحية الاصولية الذين يؤمنون بأن لليهود حقا تاريخيا ولاهوتيا وقانونيا في الارض المسماة اسرائيل.. وان الله يتعامل مع الامم حسبما تتعامل هذه الامم مع اسرائيل.. وان الوقوف ضد اسرائيل هو وقوف ضد الله. فقد تحدث الرئيس الامريكي كارتر امام الكنيست الاسرائيلي في مارس 1979 قائلا: (لقد آمن سبعة رؤساء امريكيين وجسدوا هذا الايمان بأن علاقات الولايات المتحدة الامريكية مع اسرائيل هي اكثر من علاقة خاصة بل هي علاقة فريدة لأنها متجذرة في ضمير واخلاق ودين ومعتقدات الشعب الامريكي نفسه.. لقد تشكلت اسرائيل والولايات المتحدة الامريكية من مهاجرين طليعيين فنحن نتقاسم تراث التوارة) . ولعل القدس الموحدة عاصمة لدولة اسرائيل هي النقطة المركزية التي تقوم عليها هذه المعتقدات اللاهوتية المشتركة البروتستانتية ـ اليهودية وان اكثر من 40 مليون مواطن امريكي من المؤمنين بهذه الفكرة هم مع انتخاب الاقرب الى رؤيتهم اللاهوتية. وعلى ما يبدو ان الرئيس كلينتون وانطلاقا من هذه القناعات وغيرها حاول استخدام التلويح بنقل السفارة الامريكية لكي تكون آخر سلاح يستخدمه لمواجهة الاستحقاقات الانتخابية المقبلة من جهة ولمزيد من الضغط على المفاوض الفلسطيني كي يرضخ للرؤية الامريكية ـ الاسرائيلية ويقبل عقد تسوية نهائية يتنازل بها عن حقه في القدس. كاتب فلسطيني مقيم بدمشق

Email