تاريخ أحزان الاسد ، بقلم: عادل حمودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

اتيح لي اكثر من مرة ان اتأمل واسمع عن قرب الرئيس حافظ الاسد.. وقد كنت اشعر دائما بأن ملامحه الساكنة واعصابه الباردة ونبرة صوته الخافتة تمسك بتاريخ طويل من المعاناة والألم ولو فلت منها هذا التاريخ لكان الحزن بالطن, لقد جرب الموت.. والاغتيال والسجن والنفي والغربة والوحدة والطرد من الخدمة وصراع الاشقاء ومؤامرات الاصدقاء وفقدان اقرب الناس الى قلبه طفلته الاولى (بشرى) التي سميت على اسمها ابنته الثانية وابنه الاكبر (باسل) الذي مات في حادث سيارة. ولابد ان كل ما مر به قد كان ضاغطا ومؤثرا على صحته أكل تاريخه صحته كان, الفارق كبيرا بين كفاءة جسد الطيار وهموم جسد الحاكم وكانت اولى المواجهات الحادة مع المرض في 12 نوفمبر عام 1983, شعر بأن قلبه لا يطاوعه وانه يئن كمحرك طائرة على وشك السقوط ونقل الى مستشفى (الشامي) بدمشق ووضع تحت العناية المكثفة فقد كان يعاني ايضا من مرض (السكر) منذ زمن طويل وتفاقم بسبب عشقه للحلويات السورية ونجم عن جلوسه لساعات طويلة اصابته بالدوالي واجريت له عملية لازالتها وخشي الاطباء ان يحدث التهاب في الاوردة الدموية وفرض عليه الاطباء في تلك الايام تناول الاقراص المنومة والمسكنات القوية وبسبب رغبته في العزلة شعر المقربون منه بالقلق وراحوا يكسبون الوقت بطريقة غير مقنعة فاعلنوا ان الرئيس يعالج من التهاب في الزائدة الدودية لكن الشائعات والتكهنات بسبب اخفاء المعلومات وتجريمها بالغت في حالته, يضاف الى ذلك ان هيكل السلطة الذي بناه كان يعتمد عليه وهي حالة لا ينفرد بها وحده. لقد كانت اولى صدماته الانسانية وفاة ابنته (بشرى) وقد ركع بجوار سريرها وانخرط في البكاء, كان ذلك في اواخر عام 1959 في مصر بعد ان نقل سربه الليلي الى القاهرة وفي تلك الفترة تعرض لصدمة اخرى هي حل حزب البعث بقرار من جمال عبدالناصر وبعد الانفصال اودع الاسد وزملاؤه السجن وقضى فيه 44 يوما رهن الاعتقال وعندما عاد الى دمشق لم يكن تنتظره معاملة افضل فقد سجنوه ثم سرحوه من الخدمة ونقلوه في وظيفة مدنية في مديرية النقل البحري في وزارة الاقتصاد براتب اقل من معاش تقاعد رتبته لكنه فيما بعد حصل على فروق رواتبه وتمكن الاسد من الهروب لكن قبض عليه وسجن قبل ان يعاد الى دمشق وهكذا سجن خلال فترة قصيرة في ثلاث عواصم عربية: القاهرة ودمشق وبيروت. في اثناء وجوده في القاهرة كان قد كون تنظيما سريا اسماه (اللجنة المركزية) وقد عمل على توسيعه وتقويته واستخدامه في مواجهة حكومة الانفصال ودعم قوته انتخابه لعضوية القيادة القطرية في حزب البعث وهو ما اتاح له الظهور علنا لاول مرة في عام 1963 وكان قد عاد الى سلاح الطيران قبل شهور وان بقي بعيدا عن الميدان في مكتب شديد التواضع لكنه بعد انقلاب 21 فبراير 1961 اصبح وزيرا للدفاع وحصل على اول مقعد له في الحكومة السورية وكان عمره 35 عاما لكنه لم ينعم طويلا بهذا المنصب, فقد وقعت هزيمة يونيو 1967 وتعقدت صراعات السلطة في سوريا والادق ان نقول انها ازدادت تعقيدا. وقد بقيت سوريا في قلب حزام من الزلازل السياسية حتى وفاة جمال عبدالناصر, ان وجود جمال عبدالناصر كان يعطي الاسد احساسا بالاطمئنان وقد حضر بنفسه الجنازة الشعبية المهيبة التي صاغها الناس بمشاعرهم العفوية وفيما بعد تمنى ان تكون جنازته مثلها وعندما عاد الى سوريا ووجدها في حالة فراغ وانقسام قرر ان يحكم قبضته على السلطة ودفع بخصومه الاقوياء الى السجن وبدأ نجمه في الصعود بسرعة مذهلة. ويذكر باتريك سيل: ان زوجة الاسد قد رأت في المنام انها في الشارع وسط حشد كبير من البشر يشخصون بأبصارهم في اتجاه واحد ثابت (وحين تطلعت مثلهم الى حيث ينظرون لمحت من بعيد شيئا مربعا وعندما اقتربت منه تبينت انه علبة مثقوبة وعندما وضعت عينها على الثقب رأت المسجد الاقصى في القدس وعندما استدارت وجدت زوجها واقفا وراءها فدفعت اليه بالعلبة وبعد ان انتهت الزوجة من رواية ما رأت في منامها قالت لزوجها : (انك لمنتصر على اعدائك وسوف تكون اقوى زعيم عربي) . ويستطرد باتريك سيل: وفي اللحظة التي قرر الاسد ان يحكم قبضته على سوريا لم يتردد في ابراز مستوى مختلف من الجدية اكثر ممن جاءوا قبله.. (ولا شك انه كان متأثرا بجمال عبدالناصر الذي راقب الاسد نظامه بشكل مباشر وقريب ومنه استعار الشعور بمهابة الحكم على عكس تقاليد الادارة السورية البسيطة الخفيفة التي كانت تكافح للتخلص من العادات العثمانية الرديئة ومثل جمال عبدالناصر ايضا تخلى الاسد عن حرب الطبقات وبدأ في توسيع قاعدة تأييده الشعبي وراح يغازل الطبقات الاجتماعية الكادحة الساخطة كان طموحه قبل كل شيء ان يقيم حكمه على أسس ثابتة) وقد نجح في ذلك نجاحا مؤكدا جعله يستمر في السلطة دون قلاقل مؤثرة عليه ثلاثة عقود كاملة. ولم يستفد الاسد من خبرة جمال عبدالناصر فقط وانما تحالف ايضا مع خليفته انور السادات تحت مظلة ما عرف باتحاد الجمهوريات العربية وكان مشروعا طموحا لنوع من الوحدة بين مصر وسوريا وليبيا والسودان اعلن في ابريل 1971 ثم تحالف مع انور السادات في الضربة المصيرية القوية في حرب اكتوبر 1973. لقد كانت الخطوة الحاسمة في اتجاه الحرب هي الاجتماع السري للغاية الذي عقد في الفترة من 21 الى 23 اغسطس 1973 للمجلس الاعلى للقوات المسلحة المصرية السورية.. فقد (صعد الى سفينة ركاب سوفييتية في رحلتها المعتادة من اللاذقية الى الاسكندرية 6 من اكبر الضباط السوريين وهم يرتدون ملابس عادية على رأسهم وزير الدفاع مصطفى طلاس وقضوا في نادي الضباط بالاسكندرية يومين من المناقشات مع زملائهم المصريين وكان على رأسهم وزير الدفاع احمد اسماعيل علي ووقع رئيسا الاركان يوسف شكور وسعد الدين الشاذلي وثيقة رسمية تتضمن نيتهما المشتركة لخوض الحرب, ثم طار مصطفى طلاس من الاسكندرية الى دمشق باسم مستعار ليخبر السادات والاسد بما توصلوا اليه وكان السادات والاسد في قمة خاصة مصغرة في منتجع الزيدية الجبلي وكانا قد انتقلا اليه لتجنب ويلات حر دمشق في اغسطس. لكن السادات والاسد اللذين قربتهما الحرب جدا نفسيهما يفترقان ويختلفان حول وقف اطلاق السلام ومؤتمر جنيف واتفاقية سيناء لفك الاشتباك على ان الاسد في النهاية وقع من جانبه على اتفاقية مشابهة في صيف عام 1974 وقبل ان تستقر سوريا وتسعد بما جرى انفجرت الحرب الاهلية في لبنان التي كانت فخا منصوبا لجميع الاطراف لقد انفجرت الحرب في ربيع عام 1975 وقسمت لبنان الى عصابات مسلحة وخربتها وحصدت المئات من ابنائها وامتد شررها لتهدد امن سوريا ومن ثم قال الاسد عبارة شهيرة ظلت سائدة حتى الآن وهي: (ان أمن البلدين لا يتجزأ ولا ينقسم) وفي ليلة 31مايو عبرت طوابير المدرعات السورية الحدود وبدأت تدخل دمشق في بيروت وبتدخل اسرائيل في المشكلة اللبنانية تعقدت الامور اكثر وباتت اكثر اهمية من مشكلة الجولان المحتلة التي تباعدت اكثر واكثر بعد عامين تقريبا عندما فاجأ السادات العالم بسفره الى القدس في 19 نوفمبر عام 1977. ان ترك سوريا بمفردها في الصراع جعلها للخطر الخارجي وعندما بدأ هذا الشعور يسيطر على الداخل راح العنف الديني ينتهز الفرصة للتخلص من حكم الاسد ففي 19 يونيو 1979 قتل الارهابيون اعدادا كبيرة من طلاب مدرسة المدفعية في حلب في مجزرة جماعية جرت في صالة الطعام وفي بعض التقديرات فإن عدد القتلى وصل الى 83 طالبا وتوالت سلسلة من الاغتيالات دبرها الاخوان المسلمون وسيطروا على الاحياء القديمة في المدن الشمالية مثل حلب وحماة ودبروا المظاهرات المعادية للحكومة وفجر بعضهم نفسه بالاحزمة الناسفة.. ثم ارغموا الاحياء التجارية على الاغلاق ونجحوا في ذلك لمدة اسبوعين في حلب وبعد فترة من رد الفعل البطيء بدأ الجيش ينزل بثقله وبدأت حرب من نوع خاص كادت ان تقترب من مستوى الحرب الاهلية واتهم الاسد المخابرات الامريكية (المركزية) بأنها وراء كل ما يجري في بلاده من اضطرابات كانت سوريا قد نسيتها طويلا. ورغم ان الاسد قد سيطر على زمام السلطة في بلاده فإن هناك من راح يضخم من الدعاية له ولنظامه بما يتجاوز مرتبة البشر وكان وراء هذه اللعبة الدعائية احمد اسكندر احمد وزير الاعلام الذي بقي في منصبه حوالي 10 سنوات في الفترة ما بين سبتمبر 1974 وديسمبر 1983 وقد مات في غير أوانه بسرطان في المخ لقد كان مسئولا عن (طقوس تقديس الشخصية) وهي طقوس كانت غريبة على سوريا حيث التنوع في الاصول يخلق صراعا لا خضوعا وبدأ الجميع يكررون بمناسبة وبدون مناسبة اسم الحاكم ويعددون خصاله وعلقت صوره الضخمة على واجهات المباني ووضعت تماثيله البرونزية في مداخل المكاتب الحكومية وعرف السوريون لاول مرة في حياتهم السخرية والنكتة السياسية بديلا للمواجهات والمظاهرات ولكن فيما بعد, بعد وفاة الاسد اثمرت هذه الطقوس المتكررة شعورا بفقدان الاب اكثر منه شعورا بفقدان الحاكم وبكى السوريون بكاء من يشعر باليتم ولا جدال في ان هذا الشعور الجارف المؤثر جعل من السهل تغيير الدستور وتفصيله بما يسمح لابنه بشار بخلافته لقد كان متوقعا ان يصبح بشار نائبا للرئيس في مؤتمر الحزب الذي كان يجهز لانعقاده في 17 يونيو الجاري وان يأخذ المؤتمر قرارا بتغيير الدستور لتعديل سن تولي الرئاسة لكن الموت غير من السيناريو المرسوم. وبسبب ما جرى من مؤامرات ومواجهات قام بها الاخوان المسلمون فإن هاجس الامن بدأ يسيطر على الاسد فلم يعد يخرج في الاماكن المفتوحة وكان يعمل في مكتبه المغلق بستائر كثيفة 14 ساعة في اليوم بلا توقف ولم يعد ينام الا قليلا ونشأت لديه عادة استدعاء صديق مقرب الى منزله في منتصف الليل لتبادل احاديث خالية من التكلف قد تمتد حتى الفجر وفي عام 1977 بنى بيتا كبيرا على شاطىء اللاذقية كان يذهب اليه في الاوقات الصعبة (لينفرد بنفسه ويتأمل القضايا ويفكر في رد فعله على الاحداث وكان يحب في خلوته ان يركز على مشكلة واحدة يتصارع مع جوانبها المختلفة وينام وهو يفكر فيها ويستيقظ في الصباح ليجد نفسه مع افكار جديدة) . ويضيف باتريك سيل: لم يكن وزراؤه يرونه الا مرتين اثناء مدة خدمتهم مرة عند قسم اليمين ومرة عند مغادرة الوزارة واصبحت علاقته بزملائه القدامى تميل الى كثير من الرسميات وكان له مكتبان واحد في بيته والثاني في القصر الجمهوري ولم يكن يعلم اي المكتبين سيستعمل ولا متى سيأتي الى العمل كان نهاره طويلا ولكن بلا روتين وبلا مواعيد ثابتة وعلى مائدة الافطار, كان يقرأ التقارير التي يكتبها مسئولو الامن وكثيرا ما كانت تتراكم اوراق الدولة في انتظار توقيعه ولم يكن يأخذ عطلة نهاية الاسبوع واصبح التلفون اداته المفضلة في توجيه الاوامر ونادرا ما كان يقوم باجتماعات كما كان من قبل وكان مسئولو الامن هم الاوفر حظا في الاتصال به اما معظم رجال الدولة فكان عليهم ان يقنعوا بايصال الرسائل او تلقي التعليمات من خلال سكرتيره الخاص (ابي سليم) . ولم يغير الاسد بيته الذي ظل بيتا متواضعا ولم يغير سريره الذي كان ينام عليه قبل 20 عاما عندما كان وزيرا للدفاع ولم يغير الكرسي الذي كان يجلس عليه عندما استلم السلطة للمرة الاولى فقد كان مهتما بالسلطة لا بديكوراتها. ويعيش معه في بيته اولاده الخمسة بشرى اكبرهم واقربهم الى قلبه (بشرى) وهي شابة انيقة طويلة وصيدلية تخرجت من جامعة دمشق اما (باسل) وهو الثاني فقد تخرج مهندسا وكان يهتم بركوب الخيل وركوب البحر والرماية والقفز بالمظلات ثم (بشار) الذي درس طب العيون ثم دخل الجيش بعد وفاة اخيه ليكون جاهزا لتولي السلطة وقد قابلته وجها لوجه في معرض للمعلومات والالكترونيات في ربيع 1998 وهي جزء من اهتماماته بينما درس (ماهر) ادارة الاعمال وتخصص اصغرهم (مجد) في الهندسة الكهربائية لقد اصر الاسد على ان يكملوا تعليمهم في سوريا على عكس بعض الوجهاء الذين يفضلون الجامعات الاجنبية بل ان ابناء الاسد كانوا يرتدون الزي الجامعي الذي يشبه الزي العسكري وهم يتسمون بالخجل والتواضع والولاء لأبيهم ولم تكن هناك فرصة لتناول الطعام معه الا نادرا وفي مناسبات دينية او عائلية قد يكون من الصعب تكرارها. لكن العلاقة التي اثارت الكثير من الروايات والمناورات هي علاقته بشقيقه الاصغر رفعت الاسد ان رفعت كان ذراعه الايمن في تصفية الاخوان المسلمين وكان صاحب نفوذ وسطوة في لبنان اثناء الحرب الاهلية وهو شخصية مندفعة تميل للحياة بصورها المختلفة, كان مسئولا عن ما يسمى بسرايا الدفاع ومارس من خلالها سلطات مطلقة وهو ما سبب صداعا لشقيقه ولو كان رفعت لم يفكر جديا في السلطة الا انه كان يوحي بأنه الرجل الثاني القوي في الدولة وعندما مرض الاسد وزادت السرية من الشائعات والتكهنات تجمع كبار الضباط والقادة الحزبيين حول رفعت وزاد التجمع من حوله بعد ان ادلى الاسد بحديث لمجلة (لوبوان) الفرنسية قال فيه: (انني ما ازال اشعر بالشباب ولكن جسمي وقلبي لا يسمحان لي بأن ابقى شابا بقدر ما احب) وعين رفعت نائبا من ثلاثة نواب للرئيس وكان معه في القرار نفسه عبدالحليم خدام واحمد داود ولكن في المقابل سحبت من رفعت قوته ولم يعد مسئولا عن سرايا الدفاع على ان ذلك لم يمنع ان الجيش كان منقسما بين الشقيقين وكاد هذا الانقسام ان يحدث حربا اهلية لولا براعة الاسد في تصفية شقيقه تدريجيا وبدون خسائر تذكر. لقد تحققت امنية الاسد بأن مات دون ان يوقع معاهدة صلح مع اسرائيل ولكن خلفه لابد ان يوقع ومات وترك سوريا متماسكة وهو التحدي الاكبر لوريثه ولو كان للأسد تاريخا يشفع له استمراره في السلطة 30 عاما فإن خطة جادة وليست دعائية للمستقبل هي ما يمكن ان تكون قاعدة شرعية من يحكم بعده.

Email