اهمية الموروث الشعبي في المحافظة على الهوية الثقافية في الامارات 6ـ 6 ، بقلم : نجيب عبدالله الشامسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهد العالم ومازال يشهد تطورات كبيرة ومتغيرات سريعة وتحولات شديدة اقتصادية كانت أم اجتماعية وسواء كانت ثقافية ام سياسية, اثرت ومازالت تؤثر في البيئة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للشعوب والأمم وصولا الى تحويل العالم الى قرية كونية صغيرة، وقد ساعد في ذلك وجود وسائل تقنية عالية الدقة, سريعة الانتشار كالفضائيات التي جعلت الانسان الذي يسكن في اقصى المعمورة يشاهد احداث العالم اولا بأول وهو مستلق على فراشه ويتفاعل مع مختلف التطورات التي يشهدها العالم, ثم جاءت ثورة الانترنت وتقنية المعلومات التي ذوبت كل القيود مادية كانت ام معنوية, واألغت كل الحواجز بين بني البشر واتاحت امامهم فرصة الحديث وتبادل المعلومات والثقافات وتطوير العلاقات وصناعة شبكة من المصالح التجارية والاقتصادية وجعلت اسواق العالم مفتوحة تهىئة لمزيد من الانفتاح الاقتصادي والتجاري الذي مهدت له اتفاقيات منظمة التجارة العالمية W. T. O ليصل الى ذروته تحت مظلة العولمة بأشكالها ومراحلها الثقافية ثم الاجتماعية ثم الاقتصادية, حينها يصبح العالم قرية كونية تفرض واقعا مغايرا سواء كان ثقافيا او اجتماعيا او اقتصاديا سياسيا تذوب فيها ثقافات شعوب وتضمحل لغات امم, وتنصهر موروثات ومعالم دول, لتظهر معالم المجتمع الكوني بثقافاته وموروثاته الجديدة وبمفاهيمه ونظرياته الحديثة. ومن هنا فإن الشعوب التي لا تستوعب المعالم الحديثة لهذا المجتمع الكوني سوف تعاني من ضغوط شديدة تستنزف قدراتها وقواها وتستهدف تذويب ثقافاتها وتاريخها بل واحيانا سوف تستهدف معالم المجتمع الكوني هذا وجود شعوب وأمم ولاسيما تلك المجتمعات او الشعوب التي كانت منغلقة على ذاتها ومنكفئة علي كينونتها ولفترات طويلة من الزمن ولم تفتح ابوابها لهذه التطورات او المتغيرات كي يستوعبها انسانها بشكل تدريجي. وفي ظل هذه المتغيرات وفي ظل معالم المجتمع الكوني الذي بدأت معالمه تظهر في مجتمعنا العربي عامة والخليجي خاصة بفعل الانفتاح الكبير الذي شهده مجتمعنا الخليجي, فإن التعامل مع مستجدات ومعطيات المجتمع هذا امر يفرضه العقل والمنطق في مختلف المسارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية, وذلك بهدف الاندماج في المجتمع الكوني, دون حدوث مضاعفات شديدة تؤثر على تركيبة الانسان الامارتي والخليجي النفسية والاجتماعية والثقافية. ولان الامارات من اكثر دول الخليج والعرب انفتاحا على العالم فإن مجتمعنا لن يجد صعوبة كبيرة في استيعاب معطيات المجتمع الجديد, ومن هنا فإن الدعوة الى اهمية الموروث الشعبي في الامارات يجب ألا تفسر على انها دعوة للتمسك بحرفية مفردات هذا الموروث اذ لا يجب اغفال طبيعة التغير الذي حدث للانسان والمجتمع الاماراتي بفعل التحولات التي تعاقبت وسوف تتعاقب في مجتمع الامارات, وان نستوعب طبيعية وواجبات الانفتاح الذي حدث في هذا المجتمع, ولكون مجتمع الامارات من المجتمعات الصغيرة فإن عوامل التغير الذي اصابته واضحة المعالم وهذه المعالم في جزء منها هي معالم المجتمع الكوني الحديث. لذا فإن الدعوة الى المحافظة على هوية الثقافة الوطنية من خلال توظيف الموروث الشعبي لا تلغي اعتبارات ومعطيات المجتمع الكوني, كما ان المجتمع الكوني الحديث هذا ليس من الضروري أن يلغي معالم مجتمعنا وموروثاته وثقافاته, لاسيما اذا كانت هناك قواسم وسمات مشتركة بين عناصر موروثنا الشعبي وثقافتنا مع عناصر موروثات وثقافات وشعوب اخرى تشكل ارضية مشتركة في مواجهة محاولات التذويب الكلي لمجتعنا الصغير هذا.. كما ان هناك سمات مشتركة بين موروثنا وموروثات الشعوب المتقدمة تخدم الدخول الى المجتمع الكوني الحديث وعلى الرغم من ان مجتمعنا قد شهد تحولات شديدة إلا انه مازال يحتضن بذور هويته وشخصيته التي متى ما زرعت ووظفت بشكل صحيح فإنها لاشك سوف تجعلنا اكثر حضورا وقدرة على استيعاب تداعيات المجتمع الكوني هذا على نحو يمكننا من تجاوز الآثار السلبية. ان مجتمعنا الذي شهد التغيير في بنيته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية خلال سنوات طويلة تصل الى الاربعين عاما, قد اصبح اكثر استيعابا وفهما لمتطلبات التغيير التدريجي ولم يكن يوما منغلقا او منكفئا على ذاته, ساعده في ذلك انفتاح ابناء الامارات على العالم سواء بحكم التعليم في الخارج ولاسيما في الدول الصانعة للمجتمع الكوني الحديث او بحكم السياحة في مختلف دول العالم والتي اتاحت فرصة التعرف على معالم المجتمعات الحديثة والتحولات التي شهدتها وكذلك المجتمعات القديمة التي ظلت محافظة على موروثها وثقافاتها القديمة ولاسيما الدول التي تقع في الشرق الاقصى. ان التغيير امر طبيعي وسمة من سمات العصر الحديث.. سواء على صعيد الفرد او المجتمع وسواء على صعيد الدولة الواحدة أو مجموعة دول العالم.. وان قدرة استيعاب الجيل الحالي للموروث الشعبي للاجيال الماضية بشكل حرفي وكلي هو امر مستحيل, ولكن ان تتعرف الاجيال الحالية على ماضي الاجداد وموروثاتهم الشعبية بهدف استلهام التجربة وتعميق روح الولاء والانتماء والفخر والاعتزاز بمجتمعهم وبوطنهم وبماضيهم هو امر في غاية الاهمية, كما ان التوظيف المناسب لعناصر الموروث الشعبي وتقديمه بشكل جيد لجيل اليوم هو سلوك حضاري متميز يجسد المعنى ويحافظ على المبدأ ويعزز الوجود خاصة وان هناك عناصر مادية ومعنوية من موروثنا الشعبي من الممكن استيعابها من قبل جيل اليوم, وذلك بهدف حماية هذا الجيل وصياغة فكره ووعيه وثقافته ووجوده, وليكون على دراية ومعرفة افضل لاستيعاب متطلبات المجتمع الكوني الجديد, واكثر فهما لطبيعة ومتطلبات المحافظة على الهوية الثقافية الوطنية في مجتمع الامارات العربية المتحدة. في ضوء دراستنا وتحليلنا لواقع معطيات الثقافة في الامارات العربية المتحدة ومن منطلق قناعاتنا بأن هناك تراجعا للثقافة الوطنية حسبما اشرنا في الحلقات الماضية ومع الاشارة الى اهمية عناصر الموروث الشعبي باعتبارها دليلا على حضارة هذا المجتمع, وتأكيدا على المستوى الثقافي والابداعي لأبناء هذا المجتمع خلال فترة زمنية معينة, فإن الامر يتطلب ايلاء الموروث الشعبي بعناصره المادية الحسية والادبية المعنوية اهتماما كبيرا حيث يتضح ان الاهتمام بعناصر موروثنا الشعبي مازال محدودا على الرغم من غنى هذا الموروث, وان الجهود المبذولة في هذا السياق مازالت فردية متناثرة تحتاج الى جهات ومؤسسات تدعمها وتساعدها, وفي هذا الشأن نوصي بما يلي: 1 ـ ان المحافظة على الموروث الشعبي وحمايته من الاندثار او التشويه مسئولية وطنية مشتركة, لذا فإن المؤسسات الرسمية (وزارة الاعلام والثقافة, المجمع الثقافي في ابوظبي, مركز جمعة الماجد للتراث والفنون بدبي, مركز زايد للتراث والتاريخ بالعين, لجنة التراث والتاريخ بأبوظبي, دائرة الثقافة والاعلام بالشارقة) مطالبة بالتعاون على وضع اطار واحد ووضع خطة لعمل مسوحات ميدانية شاملة على مستوى الدولة للبحث عن عناصر الموروث وجمعها وتحليلها ونشرها.. ويتم ذلك من خلال تشكيل لجنة عليا او هيئة عامة للتراث الشعبي تعتمد لها ميزانية من قبل تلك المؤسسات ويشارك فيها عدد من الباحثين المواطنين وكذلك الهيئات التعليمية والجمعيات الشعبية في الدولة. 2 ـ ان المطالبة بالاهتمام بالموروث الشعبي وتوظيفه لا يعني الاخذ بمحتواه كليا وانما تعني توظيف ما يتناسب مع مواكبة العصر, بحيث تتم الموازنة بين الحديث والقديم اي بين التراث والمعاصرة, وبما يتناسب مع تحقيق اهداف التنمية الثقافية وصياغة الوعي ومعالجة القضايا الاجتماعية. 3 ـ اهمية ان تتعاون الجهات المعنية الرسمية والاهلية وكذلك الافراد من الباحثين والرواة واهل المعرفة في احياء التراث وتدوينه وتطويره ومعالجته وتوظيفه وبذره في خدمة المجتمع من خلال آليات ووسائل مختلفة هي كالتالي: أ ـ تشجيع المبدعين والباحثين من ابناء الامارات نحو الغوص في مخزون التراث مع تفريغهم لسنوات يتم خلالها اعداد بحوث ودراسات على مختلف عناصر الموروث الشعبي. ب ـ ضرورة ان يتم ادخال المناسب من عناصر الموروث الشعبي في مناهج وزارة التربية والتعليم وفي الجامعات (سواء الآداب الشعبية كالقصص والشعر والدراسات التاريخية والتراث للمستويات الدراسية العليا والجامعة, أو الالعاب والالغاز والاهازيج في المستويات الدراسية الدنيا ورياض الاطفال. ج ـ تسليط الضوء على الموروث الشعبي من قبل وسائل الاعلام المختلفة واعداد برامج اذاعية وتلفزيونية, ثقافية ودرامية فنية لتعريف الاجيال الحالية بماضى الاجداد لاسيما وان الموروث يشكل معينا خصبا للكثير من البرامج الاذاعية والتلفزيونية, وذلك بعد دراسة المواد الداخلة في تلك البرامج من دون تحريف اوتشويه منعا لحدوث تشويش على المستمع او المشاهد. د ـ تنظيم مهرجان تراثي سنوي على مستوى الدولة على غرار الجنادرية في المملكة العربية السعودية يشتمل على الرياضات الشعبية وعقد ندوات حول التراث وعروض فنية ومعرض للكتاب ومعرض للحرف والمهن والادوات.. ورقصات شعبية مختلفة, وتشارك فيه جميع الجمعيات الشعبية والمؤسسات المعنية وذلك ضمن الموسم السياحي في الدولة. هـ ـ ان الاندية الرياضية المنتشرة في الدولة هي كذلك مطالبة بنشر الرياضة الشعبية من خلال قيام الاتحادات المختلفة باختيار بعض الالعاب الشعبية وتنظيم مسابقة سنوية بين الاندية ترصد لها جوائز ومكافآت مالية لتشجيع ممارسة هذه الالعاب والمساهمة في انتشارها مع التوصية لدول المجلس بتنظيم مسابقة للرياضات الشعبية المتشابهة للتأكيد على الهوية الخليجية المشتركة وذلك على غرار الرياضات الشعبية التي تلقى اهتماما جيدا في دول المجلس كرياضات الهجن والفروسية وسباق الخيل, او الرياضات البحرية كسباقات القوارب الشراعية والخشبية. 4 ـ ضرورة قيام الجمعيات الشعبية الاهلية بدور اكبر في تعريف الاجيال الحالية بتراث الاباء والاجداد ومن خلال تنظيم عروض فنية تراثية ومعارض مشتركة ومسابقات ترصد لها جوائز عينية نقدية, وفي هذا الشأن يتطلب قيام وزراتي الاعلام والثقافة والعمل والشئون الاجتماعية بتقديم دعم مادي ومعنوي لهذه الجمعيات من خلال زيادة الاعانات السنوية لها, وكذلك من خلال توجيه وسائل الاعلام بتغطية انشطتها. 5 ـ ضرورة توظيف عناصر الموروث الشعبي في بلورة الهوية الوطنية ليشكل امتدادا مساعدا للتغيير والتطوير والتجديد والتنمية من دون ان تبقى حبيسة في الكتب والجمعيات الشعبية, مع اهمية ألا يقتصر الاهتمام بعناصر هذا الموروث على الجانب المادي او الرياضات الشعبية وانما يجب ان تتناول كافة الاشكال الابداعية التي تؤكد على التطور الفكري والادبي والفني لدى ابناء الامارات. 6 ـ ان قيام المؤسسات الثقافية والاعلامية باصدار كتب تتعلق بثقافة الطفل وتستمد معلوماتها من الموروث الشعبي يعتبر خطوة مهمة وكبيرة في تعريف جيل المستقبل بتراث الآباء والاجداد. كما ان في ذلك اثراء لمكتبة الطفل في الامارات والخليج بكتب تغرس فيهم قيم الماضي وتعرفهم بعادات وسلوكيات افراد الجيل الماضي, وتعزز فيهم معنى الولاء والانتماء لأرضهم ووطنهم. 7 ـ ان القيام بإعداد دراسات وبحوث تشمل عناصر الموروث الشعبي للامارات وتحديد السمات المشتركة بين هذه العناصر وعناصر الموروث في دول العالم وترجمة تلك الدراسات ونشرها وتوزيعها على الجهات الاجنبية داخل الدولة وخارجها, يعتبر عملا وطنيا وذلك من منطلق تعريف تلك الجهات بأن الامارات تختزن تراثا عريقا وأن حضارة الامارات امتداد للحضارات الانسانية. كاتب وباحث من الامارات

Email