الملفات الساخنة بين مصر وأمريكا بقلم: جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما أكثر الملفات الساخنة في لقاء الرئيس الأمريكي كلينتون اليوم مع الرئيس المصري حسني مبارك. ليس فقط بسبب توقيت الزيارة الذي يجئ وسط جهود أمريكية محمومة لإقرار التسوية بين اسرائيل من جانب وسوريا ولبنان والفلسطينيين من جانب آخر, وحماس الرئيس الأمريكي لهذه التسوية.. لا لأنها تصب في مصلحة أمريكا واسرائيل فحسب, ولكن لكي ينهي أيضا رئاسته بهذا (الانجاز) الذي سيذكره به التاريخ (اذا تحقق) والذي يمحو به آثار توقيت الزيارة مهم ولاشك, لأنه يأتي وسط هذا الجهد المحموم لاقرار التسوية. ومصر جزء أساسي منها منذ أن بدأتها قبل عشرين عاما. ولكن الأهم أن الزيارة بعد سلسلة من الصدامات العلنية والسرية بين القاهرة وواشنطن امتدت لتشمل جوانب عديدة.. داخلية وعربية واقليمية. من جانب واشنطن.. كانت هناك (اتهامات) لمصر بأن دورها سلبي في مسيرة التسوية, فهي التي تحرض الأطراف العربية على تصليب موقفها, وهي وراء رفض القيادة الفلسطينية لمقترحات كان سبق لها أن قبلتها في المداولات السرية, وهي وراء بقاء الموقف الشعبي الرافض للتطبيع في مصر, ووراء الجهود المبذولة لوقف (الهرولة) العربية, ثم.. هي المسئولة عن محاولات عديدة لتحقيق المصالحة العربية وعقد القمة المؤجلة, وإنقاذ العراق من المصير البشع الذي يساق اليه في ظل حصار الموت والتجويع المفروض على شعبه وهي المسئولة عن محاولة تحقيق المصالحة الوطنية في السودان ومنع المؤامرة لتقسيمه وتحويله الى صومال أخرى.. وأخيرا هي المسئولة عن دعم (الارهاب!!) الذي تمارسه المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي وحشد التأييد العربي له ولو بمؤتمر وزراء الخارجية العرب في بيروت.. وهذا أضعف الايمان عربيا, ولكنه واحد من أكبر (الذنوب) .. أمريكيا واسرائيلياً. من جانب القاهرة.. كانت كل هذه (الاتهامات!) أداء لدور مصر الطبيعي كجزء من أمتها العربية. وهو دور ما كان يجب أن يتصادم مع الدور الأمريكي إذا التزم الأخير الحياد ولم يعلن انحيازه الكامل والشامل والدائم للجانب الاسرائيلي, ومارس كل الضغوط على العرب لقبول (التسوية) بالشروط الاسرائيلية, وقد كان نصيب مصر من هذه الضغوط.. تشجيع جماعات الارهاب التي تم تدريبها في أفغانستان على يد الأمريكيين ثم تم اطلاقهم بعد ذلك في الأرض العربية , وضرب السياحة (وهي مصدر أساسي للدخل الوطني) في حادث الأقصر, ثم محاولة ضرب الوحدة الوطنية وإطلاق المزاعم حول اضطهاد الأقباط, وتشجيع بعض العناصر المشبوهة المرتبطة بالمخابرات الأمريكية والدوائر الصهيونية الأمريكية لتشويه وجه مصر وتصوير أي حادث فردي يقع فيها على أنه مذبحة للأقباط. أيضا كان من نصيب مصر من هذه الضغوط محاولات عديدة لحصارها اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. اقتصاديا.. بوضع العراقيل أمام الصادرات المصرية, وبتوجيه الاستثمارات الأمريكية وغير الأمريكية لعدم الاستثمار في مصر تحت مزاعم عديدة. وسياسيا.. بالوقوف في وجه كل محاولات رأب الصدع العربي, وتوجيه التحذيرات لمصر بعدم الاقتراب من مشكلة السودان, وبترك العراق لمصيره, وبالتخلي عن الفلسطينيين وتركهم لقمة سائغة في يد اسرائيل. وعسكريا.. بإثارة الزوابع إذا قامت مصر بامتلاك صواريخ دفاعية جديدة أو حتى تحديث ما لديها, في الوقت الذي تحولت فيه اسرائيل الى ترسانة مسلحة بأحدث ما تملكه أمريكا من أسلحة الدمار الشامل. * * * هكذا كان الأمر طوال السنوات الماضية, وبعد حرب الخليج المشئومة ونتائجها المدمرة للعرب جميعا من ناحية, وانطلاق عملية التسوية في مدريد ثم ما تلاها من اتفاقيات أوسلو وغيرها.. وظهور المخطط الكامل لمستقبل المنطقة وفقا للتصور الأمريكي الاسرائيلي, وعلى حساب العرب وحدهم. هنا.. كان لابد أن تتقاطع الطرق.. فالعرب في هذا المخطط لن يكونوا عربا, وإنما شرق أوسطيون, وكما ذهبوا فرادى الى (التسوية) ينبغي أن يذهبوا فرادى الى النظام الاقليمي الجديد, وأن (يبصموا) مقدماً على أن يضعوا أموالهم وبترولهم وثرواتهم تحت أمر (العبقرية) اليهودية, وأن يفتحوا أسواقهم أمام اسرائيل, وأن يتركوا المستقبل لها تحدده كما تشاء.. وقد حددته بالفعل: القيادة لها, والتكنولوجيا المتقدمة عندها, والأموال والأسواق والأيدي العاملة عند العرب. وهكذا تصبح السيطرة الاقتصادية بعد العسكرية لاسرائيل, وعن طريقها يتحقق كل شئ. إنه المنطق الذي شرحه شيمون بيريز وهو يقدم نظامه الشرق أوسطي الجديد حين قال للاسرائيليين: فلنحقق بالاقتصاد في المرحلة الجديدة. ما لم نحققه من أهداف اسرائيل بالقوة العسكرية في المرحلة الماضية. ولم يكن التأييد الأمريكي لهذا المخطط عملا من أعمال الخير, أو سعيا وراء رخاء المنطقة أو تقدم العرب, وإنما كان تطبيقا متقدما للسياسة الأمريكية في المنطقة, والتي وضعت لها منذ سنوات طويلة هدفين رئيسيين: أمن اسرائيل وتقدمها ورفاهيتها, ثم ضمان الحصول على البترول العربي بأنسب الأسعار (لأمريكا والدول الغربية بالطبع). والمخطط الجديد يضمن تحقيق الهدفين معاً وبأقل جهد وبدون متاعب مثل تلك التي واجهت أمريكا خلال نصف القرن الماضي بسبب تعارض الهدفين بالنسبة لشعوب المنطقة, حيث كان الانحياز الأمريكي المطلق لاسرائيل لايتوافق بالطبع مع ضمان الحصول على بترول العرب بأقل الأسعار, وتأمين ذلك وسط رأي عام عربي يريد لبلاده الحرية والاستقلال والحصول على حقوقها المشروعة وضمان السيطرة على ثرواتها ووضعها في خدمة الشعوب العربية. وكما قلنا سابقا, كان الطريق الى تحقيق هذا المخطط لابد أن يمر بكل ما مرت به المنطقة منذ عدوان 67 الذي تآمرت فيه أمريكا مع اسرائيل, الى محاولة إيقاف النصر العربي في ,73 الى إجهاض آثاره بعد ذلك. ثم الى مأساة حرب الخليج وتدمير العراق, الى إغراق الجزائر في الحرب الأهلية المدمرة, الى حصار سوريا, الى تصفية الثورة الفلسطينية. وقد كان الوضع الأمثل لمصر (من وجهة نظر أصحاب هذا المخطط) هو وضعها في ظل كامب ديفيد.. دولة معزولة عن محيطها العربي غارقة في الديون والمشاكل الداخلية, تعطي المثل في التطبيع مع اسرائيل على كل الجبهات وعلى مختلف المستويات. لكن ذلك الوضع لم يكن ممكناً أن يدوم. ومع رحيل السادات بدأ التحرك المضاد, ومع استكمال تحرير الأرض المصرية وعودة مصر الى جامعتها العربية, والتقاط الأنفاس من وطأة الديون والضغوط الاقتصادية, ومع وضوح المخطط الموضوع للمنطقة.. كان لابد من الصدام الحتمي بين هذا المخطط الأمريكي الاسرائيلي للمنطقة, وبين تصور مصر لدورها ولأوضاع المنطقة وللمستقبل العربي. التصور الاسرائيلي قدمه شيمون بيريز وهو يقدم مشروعه الشرق أوسطي مخاطبا العرب: لقد قادت مصر المنطقة خمسين عاما ولم تنجح, فاتركوا لنا القيادة للخمسين عاما المقبلة, وسترون الفرق, وستنعمون بالرخاء والأمن والتقدم. والتصور الأمريكي لايتحدث فيه الرسميون بهذه الوقاحة, ولكنهم يتركون الأمر للأبواق الاعلامية والأصوات الأكاديمية (!!) التي تتوالي (الحواديت) منها مرتدية ثوب الحكمة الزائفة والدراسة الموجهة. وآخر ما عندهم أن مصر قد فقدت دورها, وأن عليها أن تقنع بمساحة هامشية في تقرير مصير المنطقة, وأن تترك اللعب لـ(الكبار) .. وفي مقدمتهم أمريكا واسرائيل وتركيا. ولأن مصر لم تقبل ولا يمكن أن تقبل هذا المصير المراد لها أمريكياً واسرائيلياً فقد كان لابد من الضغوط , والتهديدات, والمحاصرة, والعقاب أحيانا كما حدث في مذبحة الأقصر, أو في المزاعم عن اضطهاد الأقباط.. وكان لابد أن تكون الاستثمارات الأجنبية إذا جاءت بالقطارة.. وأي يكون أن توجه مصري نحو الجنوب في السودان أو نحو الأمة العربية أمراً غير مرغوب فيه. وسواء تمت التسويات المقترحة بين اسرائيل والفلسطينيين وسوريا ولبنان أو لم تتم, فإن التصادم حتمي بين المخطط الأمريكي الاسرائيلي للمنطقة, وبين رؤية مصر التي تفرضها عوامل المصلحة الوطنية والقومية معا, والتي لاتستطيع تجاهل حقائق التاريخ والجغرافيا, ولا اعتبارات المصلحة العربية الواحدة والمصير العربي المشترك. ومن هنا, فإننا نستطيع أن نضع خطوطا تحت عدة نقاط أساسية لابد أن تكون محورا لأي نقاش جاد حول مستقبل المنطقة, ليس فقط مع مصر, وإنما مع الأطراف العربية الأخرى.. ومن هذه النقاط: * إن التسوية المقترحة ليست إنهاءً للصراع العربي الاسرائيلي, وبدون حل عادل شامل وكامل يعيد حقوق اللاجئين ويفك أسر القدس العربية ويحقق الأمن العربي, فإن الصراع سيستمر بصورة أو بأخرى. * إن أي نظام إقليمي لايراعي التوازن الدقيق في القوى لايمكن أن يحقق الاستقرار ولن تكتب له الحياة. وفي هذا المجال فإن نزع سلاح اسرائيل النووي أمر له الأولوية إذا أريد للمنطقة ألا تدخل سباقا نووياً مرعباً. كما أن الحديث عن حلف عسكري أمريكي اسرائيلي أمر له خطورته لأنه موجه بالضرورة الى العرب, ويستهدف إخضاعهم للابتزاز الاسرائيلي في غيبة الحل الشامل الذي يضمن السلام العادل لشعوب المنطقة. * إن التعامل مع العرب على أنهم أمة منهزمة الى الأبد, وأنهم مرغمون على قبول الإرادة الأمريكية والابتزاز الاسرائيلي سوف تكون له أوخم العواقب. إن موازين القوى في المنطقة لن تظل مختلة للأبد, وحتى في ظل اختلال هذه الموازين فإن العرب يملكون الكثير لمقاومة ما يراد فرضه عليهم, ودرس لبنان ينبغي ألا يغيب عن أحد. * إن عروبة مصر ليست ثوبا تخلعه لأن أمريكا تريد ذلك, وانتماؤها العربي ليس محلاً للمساومة, ومحاولة حصارها بالمشاكل الداخلية والضغوط الخارجية لن تجعلها تنكفئ على نفسها, لأن حقائق التاريخ والجغرافيا تفرض عليها أن تكون جزءاً من عالم عربي يملك كل مقومات الاستقرار والتقدم, ولو توحدت جهوده وإمكانياته لفرض على (الآخرين) احترام إرادته, ولنالت شعوبه المكانة التي تستحقها في عالم لايحترم إلا الأقوياء. وأعتقد أن هذه الملفات الساخنة كلها ستكون مطروحة في المباحثات المصرية الأمريكية, ولعلها فرصة جديدة لمراجعة الموقف الأمريكي تجاه العرب والمنطقة.. وإلا فالصدام بين الرؤى حتمي, والسلام سيظل بعيداً, حتى ولو تمت التسويات المؤقتة وأنجز كلينتون أحلامه المؤجلة.

Email