انسانية الرسول صلى الله عليه وسلم ملازمة لنبوته

ت + ت - الحجم الطبيعي

بقلم: د. احمد القديدي حين أصر خاتم الانبياء صلى الله عليه وسلم على التعامل الذكي ـ بل الاستراتيجي ـ مع قضايا عصره كان يقدم النموذج الاصلح لعصرنا في القرن الحادي والعشرين حتى نحل اشكالية العقيدة والواقع المتغير, قال الله تعالى امرا نبيه الكريم: (قل انما انا بشر مثلكم يوحى الي انما الهكم إله واحد) الكهف) 110 فحين وجد صلى الله عليه وسلم نظام الاسواق يؤمها العرب ورأى فيها المكاس والعشار ـ اي جامع المكوس وهي نوع من الضرائب وجامع العشر وهو بمثابة رجل المصارف لتيسير البيع والشراء ـ لم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التنظيم الاقتصادي بل اغتنمه اولا للدعوة ثم لاقرار العلاقات الاقتصادية الاسلامية, واخيرا للمزيد من تكريس البعد الثقافي والادبي للاسواق كما فعل مع سوق عكاظ بل وجعل بعضها في شكل (برلمانات) شوروية تخصصية يتناظر الناس فيها حول مسألة من المسائل للبت فيها. وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم حين وجد الاشهر الحرم بمنظورها الامني والمصلحي السائد في مجتمع ما قبل الاسلام حيث كانت محل اتفاق غير مكتوب بين القبائل بمثابة الهدنة تستخدم لقضاء الحاجيات التجارية واستعادة العدة من اجل القتال, فما كان من المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا ان اسبغ على الاشهر الحرم معانيها الربانية حتى يعلم المسلمين في مرحلة بناء الدولة حدود الانضباط ومقتضيات المسئولية واخلاق كف الاذى وحماية الحرمات وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم مع الايلاف الذي هو مبدأ المعاهدة بين القبائل المكية والشامية على عدم الاغارة على القوافل ومن ذلك ما قاله ابو علي القالي في كتاب النوادر من ان هاشم بن عبد مناف عندما ركب الى الشام قال لملكها: ايها الملك ان قومي تجار العرب فإن رأيت ان تكتب كتابا تؤمن تجارتهم. فكتب له كتاب امان فأقبل هاشم بذلك الكتاب فجعل كلما مر بحي من العرب بطريق الشام أخذ من اشرافهم (إيلافا) وهو أمان الطريق.. وقد روى كذلك ابن سعد في طبقاته مثل هذه الرواية عن الايلاف. ويأتي الاسلام ليستحسن مبدأ الايلاف بعنصر الامانة الى جانب عنصر الأمان كما جاء ذلك في سورة قريش المكية التي اجمع المفسرون لها على دعوة الله عز وجل المؤمنين لعبادته وهو الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من خوف, يقول فضيلة الشيخ المرحوم محمد الطاهر بن عاشور في تفسير التحرير والتنوير: (معنى الآية تذكير قريش بنعمة الله عليهم ان يسر لهم ما لم يتأت لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين وغارات المغيرين في السنة كلها مما يسر لهم من بناء الكعبة وشرعة الحج وان جعلهم عمار المسجد الحرام وجعل لهم مهابة وحرمة في نفوس العرب كلهم في الاشهر الحرم وغيرها) . وقد ذكر الشاعر مطرود الخزاعي المعنى التضامني والتكافلي للإيلاف بين اغنياء العرب وفقرائهم حيث قال في مرحلة مخضرمة: يا أيها الرجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد مناف الآخذون العهد من آفاقها والراحلون لرحلة الايلاف والخالطون غنيهم بفقيرهم حتى يصير فقيرهم كالكافي واننا سقنا هذا المثل للتدليل على ان مؤسس الدولة الاسلامية سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم انما تجلت عبقريته في معالجة النواة التنظيمية للمجتمع القرشي والعربي وتحويلها الى اداة لارساء الدولة الجديدة المبشر بها. وهكذا سعى خاتم الانبياء صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم الى تفعيل مناصب مكة المكرمة كالسدانة والحجابة والسقاية والعمارة والرفادة, ولعل اعظم ما طوره الرسول صلى الله عليه وسلم كان جهاز الاموال المحجرة التي كانت ولايتها لبني سهم وكانت تجمع وترصد للاصنام وللطائفين بها, فأرسى بها قواعد الوقف الاسلامي الذي كان عماد الدولة الاسلامية ورأس حكمتها الى ان تلاشيى مع الزمن بعد ذلك مؤذنا تلاشى الدولة الاسلامية ذاتها الى حين بإذن الله تعالى. ثم أقر الاسلام ـ قرآنا وسنة ـ مبدأ الشورى اغتناما لما جبلت عليه العرب من المشورة التي كانت من مناصب بني اسد لكنها كانت محصورة في شيخ واحد من الناس فوسعها النبي الامين صلى الله عليه وسلم الى عامة المعلمين مثلما امره الله تعالى في محكم آياته. وكذلك ايضا طور الرسول صلى الله عليه وسلم نظام ما كان يسمى بالسفارة وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه آخر سفراء قريش قبل اسلامه ويمكن لكل باحث ان يراجع قصة سفارة عمر في سيرة عمر لابن الجرزي. كما انطلق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من نواة دار الندوة التي كان يجتمع فيها اعيان قريش للخير والشر فاتخذها دارا وقد ذكرت كتب الطبري وابن هشام وابن معد كيف تحولت المؤسسة الادارية الاجتماعية الى مؤسسة حكم بأتم معنى الكلمة, كما تولى صلى الله عليه وسلم العروج بمبدأ الاحلاف الموجود قبل الاسلام الى ارساء قواعد السياسة الخارجية من جهة وتثبيت اخلاق العدل والانصاف داخلياً, وقد صادف ان حضر الرسول صلى الله عليه وسلم حلف الفضول وهو آخر الاحلاف قبل الاسلام واثنى عليه بعد الاسلام وقد تم في دار عبدالله بن جدعان.

Email