القمة العربية.. والفيتو الأمريكى، بقلم جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

آخر التوقعات حول القمة العربية المنتظرة.. أنها قد تنعقد هذا العام أو في العام المقبل إن شاء الله. وإذا كانت هذه التوقعات الرسمية قد صدرت عن طرف (مثل مصر) كان في طليعة المتحمسين لعقد القمة والساعين إلى تمهيد الطريق لها, فعلينا أن ندرك حقيقة الواقع العربي. وأن ندرك أيضا أن القمة إذا انعقدت (بعد عام أو عامين أو عشرة!) فلن يكون ذلك إيذانا بعودة الوعي العربي المفقود, ولا إحساساً بالخسارة الفادحة التي لحقت بالعمل العربي المشترك, ولا إعلانا رسميا بأن المصارحة قد تمت والمصالحة قد تحققت. لن يكون الأمر كذلك.. ولكنها (الأجندة) الأمريكية الموضوعة للمنطقة, والترتيبات الاستراتيجية للمستقبل الذي لم يعد للعرب كلمة في تحديده. وهكذا.. فالذين منعوا القمة من الانعقاد طوال السنوات الماضية, وهم الذين سيستدعونها في الوقت المناسب.. أي بعد التوصل إلي الاتفاق النهائي بين سوريا واسرائيل, وإقرار السلطة الفلسطينية باتفاق الإطار الذي يحدد ملامح التسوية النهائية وفقا للشروط الاسرائيلية. وفي الطريق إلي هذا (الإنجاز) الهائل الذي يحلم به كلينتون ليمسح به آثار فضائحه الجنسية التي لوثت تاريخه, ولينهي وجوده في البيت الأبيض بشيء يدخل به التاريخ عبر فستان مونيكا.. في الطريق إلى هذا (الإنجاز) كان لابد أن يكون ما كان طوال السنوات الماضية على الساحة العربية. كان لابد من مأساة حرب الخليج حتى يتم تدمير العراق كقوة عسكرية وكدولة مركزية وتجويع شعبه وقتل أطفاله.. ليكون العبرة لكل العرب على ما ينتظرهم إذا خرجوا عن السيناريو, ولتستنزف قوى الخليج المالية والاقتصادية وترهن موارده لسنوات بعد عدوان أثيم كانت أمريكا هي المحرض عليه, ثم هي الساعية لضربه, لتقبض في النهاية الثمن كاملا.. وليوضع الخليج في قبضة أمريكا. وكان لابد أن تنتحر الجزائر علي أيدي العصابات التي دربتها المخابرات الأمريكية في أفغانستان, ثم أطلقتها في الأرض العربية (بعد انتهاء دورها بسقوط الاتحاد السوفيتي( لتبدأ مرحلة جديدة في تدمير الأفكار العربية وهز استقرارها. وكانت البداية في الجزائر, وكان الطريق يراد فتحه إلى القاهرة وغيرها. ثم كان لابد بعد ذلك من استغلال انفراد أمريكا بالسطوة في العالم وبالهيمنة في المنطقة ليتم الانقضاض السريع لفرض مشروع التسوية الأمريكي الاسرائيلي. ومن محطة مدريد التي تم فيها وضع العرب في القطار, إلى محطات أخرى من أوسلو إلى وادي عربة إلى دهاليز واشنطن إلى شرم الشيخ حيث تم تبديل الركاب أحيانا وتغيير قواعد اللعبة دائما.. ولصالح إسرائيل وعلى حساب العرب في كل الأحوال. ولكي يمر المشروع الأمريكي الاسرائيلي, كان لابد من ضمان عدة أمور, أولها وأهمها إبقاء العرب في أدنى درجات الضعف, مع الحرص على تزويد اسرائيل بكل ما يضاعف قوتها من موارد اقتصادية ومالية وعسكرية, وما فعلته أمريكا في هذا المجال وتحت شعار أن اسرائيل ينبغي أن تكون أقوي من كل العرب مجتمعين, ما فعلته أمريكا وما قدمته لاسرائيل شيء يفو ق كل حدود المنطق السياسي والضرورات العسكرية, ويجعل من اسرائيل أكثر من حليف وأقوى من أن تكون شريكا.. فالترسانة الأمريكية مفتوحة أمام تل أبيب, والضغوط الأمريكية على دول العالم كله لامثيل لها لمنعها من تقديم أي سلاح للعرب, والدنيا تقوم ولا تقعد إذا حصلت دولة عربية على صاروخ أو طائرة متقدمة, ومحاولة إجبار العرب جميعا على التوقيع علي اتفاقية منع انتشار الأسلحة الكيماوية أمر واجب وضروري, بينما احتفاظ اسرائيل بالأسلحة النووية هو عمل من أعمال البر والتقوى, ينبغي أن يؤيده العرب وإلا أصبحوا عرضة للاتهام بالارهاب وفرض العقوبات الدولية (التي هي أمريكية) عليهم! ولفرض مشروع التسوية الأمريكي الاسرائيلي كان لابد من بقاء حالة الانقسام والتشرذم في الساحة العربية, ومنع أي جهد لضم الصف, فأول قواعد التسوية المطروحة أن يذهب العرب إليها فرادى, وأن يتم فرضها عليهم بـ(القطاعي) ! وهكذا برر عرفات ذهابه إلى (أوسلو) بأنه يستبق اتفاقا كان سيعقد بين سوريا واسرائيل سيضعف موقفه, وبرر الأردن اتفاق وادي عربة بأنه لايريد أن يخرج من المولد بلا حمص, وبررت الأنظمة الأخرى سباق (الهرولة) الى تل أبيب باعتباره العسل المر الذي لابد منه لأنه الطريق الو حيد الى قلب واشنطن ومعونتها الاقتصادية ومساندتها السياسية. ولفرض مشروع التسوية الأمريكي الاسرائيلي كان هذا (الفيتو) الأمريكي الصارم على انعقاد القمة العربية, وهو (فيتو) لم تخفه الادارة الأمريكية بل أعلنته على رؤوس الأشهاد عندما وجدت أن بعض العواصم العربية (وعلى رأسها أبوظبي والقاهرة) تحقق تقدما في دعوتها للقمة على أساس تحقيق المصالحة التي تفتح الباب لاستعادة روح العمل المشترك لتخطي حالة العجز والانقسام والشرذمة العربية. وأعلنت أولبرايت وغيرها من أركان الادارة الأمريكية أن القمة العربية لاضرورة لها, وأن على العرب أن يذهبوا فرادى الى مصيرهم المحتوم. ولقد كان وجود نتنياهو في الحكم فرصة ذهبية لاعادة الأمور الى نصابها, ووضع العرب أمام الحقيقة عارية.. فالرجل كان من الحماقة والوقاحة معا بحيث فضح كل شيء.. فالعرب عنده لاقيمة لهم, ومستقبل المنطقة ستحدده موازين القوى وحدها, واسرائيل هي الأقوى, ولذلك فمن حقها أن تفرض ما تريد.. ومع وضوح الأهداف الاسرائيلية, وتعثر التسوية على كل المسارات, أصرت أمريكا على عدم انعقاد القمة, واستمرت مناوراتها لافشال كل الجهود للمصالحة. وشهدنا بعد ذلك مولد سيدي باراك الذي بدأ بتجنيد كل الطاقات لانجاح حزب العمل والمتحالفين معه وإسقاط نتانياهو, ومن فرط الحماسة العربية تصورنا أن باراك مرشح لرئاسة منظمة التحرير الفلسطينية لا إسرائيل, وأنه سيأتي للعرب (والفلسطينيين في المقدمة) ما لم يحلموا به. وعبثا حاولنا أن نعرف سببا للحماسة العربية فلم نجد. وعبثا حاولنا أن نجد فرقا حقيقيا بين الليكود والعمل في القضايا الأساسية المتعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي فلم نعثر على شيء. وكان على الرأي العام العربي أن ينتظر شهورا طويلة حتى تقال له الحقيقة التي يعرفها العالم كله.. وهي أن باراك ونتانياهو وجهان لعملة واحدة, وأن الأمر كان كذلك دائما.. ولعل الفرق الوحيد أن الليكود يصرخ كثيرا وهو ينفذ برنامجه, بينما (العمل) يمارس اللعبة فى هدوء, ويبني المستوطنات وهو يتحدث عن السلام, ويقتل الأطفال العرب في قانا وهو يبتسم في وداعة. ومع ذلك فحتى هذه القشرة الخادعة التي كان يرتديها زعماء العمل تسقط الآن بعد أن اقتربت ساعة الحسم في مسيرة سلام الشجعان إياه.. وأصبح وزير خارجية حكومة العمال يتحدث كأي نازي محترف, ويهدد بحرق الأرض في لبنان, ويؤيده باراك في تهديداته, ويباركه اليمين واليسار الاسرائيلي, وتصمت أمريكا ثم تلقي اللوم على لبنان لأنه جرؤ على أن يقاتل دفاعا عن أرضه فاستحق المقاومون لعنة أمريكا, و تحولوا هم وليس المحتل لأرضهم الى عناصر ارهابية. ولقد نجت المقاومة اللبنانية (حتى الآن) من المصير الذي انتهت اليه المقاومة الفلسطينية التي كانت يوما أنبل الظواهر في النضال العربي, حتي جاءت مسيرة سلام الشجعان لتقر القيادة الفلسطينية بأن المقاومة كانت إرهابا وأن الشهداء كانوا معتدين, ولينتهي الأمر برجال المخابرات الأمريكية وهم يشرفون على الأمن الفلسطيني! نجت المقاومة اللبنانية حتى الآن من هذا المصير لتظل سلاحا مرفوعا في وجه العدو, ولتحمي شرف الأمة في زمن التراجع العربي. ومع اقتراب موعد المواجهة الاسرائيلية لحقيقة الهزيمة التي أوقعتها المقاومة اللبنانية بالمحتل, كانت محاولة الانتقام والحصول على اتفاق لتغطية الانسحاب, وكان العدوان الهمجي على لبنان الذي خاب مقصده, والذي أثمر حالة من التوحد العربي في مواجهة الغطرسة الاسرائيلية. خاصة أن العدوان جاء في وقت توقفت فيه المفاوضات على كافة المسارات, وظهر التلاعب الاسرائيلي واضحا, وانكشفت الأهداف الاسرائيلية تماما. وانعكس الغضب على الشارع العربي, ووجدت أنظمة عديدة نفسها في موقع الحرج, وارتفعت أصوات المطالبة بوقف التطبيع والهرولة, والبحث عن نهج آخر لاسترداد الحقوق, وتهيأ الجو لإنعقاد القمة الموعودة.. خاصة بعد زيارة الرئيس المصري لبيروت ثم ولي عهد السعودية, ونشاط التنسيق بين القاهرة والرياض ودمشق. وظهور المقترحات الرسمية من اليمن وأمين الجامعة العربية بانعقاد القمة بصفة دورية. ومع ذلك فالقمة لم تنعقد, واكتفى الجميع بلقاء وزراء الخارجية في بيروت. وبرغم كل ما قيل ويقال من مبررات, فقد كان واضحا أن الفيتو الأمريكي مازال قائما. ليس فقط على القمة وانما أي قرارات لاجتماع بيروت الوزاري تمس جوهر مسيرة سلام الشجعان.. وهكذا تغيرت القرارات الخاصة بإيقاف إجراءات التطبيع وإلغاء المشاركة العربية في المباحثات المتعددة الأطراف.. إلي مجرد المطالبة بـ(إعادة النظر) . ورغم اقتناع الجميع بأن (إعادة النظر) لن تعني شيئا في الواقع, فقد حرص البعض في اجتماع بيروت ولو من باب الإخلاص في العمل على معارضة ذلك أو التحفظ عليه باعتباره مساسا بما لايجوز المساس به! ومع ذلك فالقمة قادمة, لأن الفيتو الأمريكي لن يستمر طويلا. وأمام الرئيس الأمريكي بضعة أسابيع ليحقق (إنجازه) ويدخل التاريخ من بوابة الشرق الأوسط وليس من باب فضائحه الجنسية. وإذا تحقق له ما أراد وتم الاتفاق على بنود التسوية مع دمشق, وعلى إطار التفاهم بين السلطة الفلسطينية وتل أبيب حول حل لايتناول القضايا الأساسية للصراع.. من عودة اللاجئين الي مصير القدس.. إذا تم ذلك فسوف تنعقد القمة الموعودة لتعطي التغطية العربية المطلوبة. وساعتها لن يتحدث أحد عن المصارحة التي هي قبل المصالحة, ولا عن الأجواء التي يجب أن تصفو قبل اللقاء, ولا عن الخلافات التي يجب أن تجد الحل قبل الاجتماع, وسيكتشف الجميع أن الجو جميل والدنيا ربيع.. باختصار.. ستنعقد القمة إذا حقق كلينتون (إنجازه) .. لنؤيد ونهنئ وندفع الفواتير المنتظرة! وبدون ذلك (الإنجاز) سوف يكون علينا أن ننتظر لنعرف رؤية الرئيس الأمريكي الجديد, وسوف تنتظر معنا القمة الموعودة, وكل عام وأنتم بخير وسلام.. نرجو ألا يكون من نوع سلام الشجعان إياه!

Email