المركب الصعب لما بعد السلام، بقلم: د. محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يعد من الشك إلا القليل لدى المطلعين ان السلام مع اسرائيل قادم, هذا ما تشير إليه جميع المؤشرات السياسية في المنطقة, الخلاف على ماهية السلام وتوقيته شهورا أو سنوات, ومدى قدرته على الصمود لفترة طويلة من جهة, ومن جهة أخرى ماذا يمكن ان يحدث في منطقة الشرق الأوسط بعد تحقيق السلام مع اسرائيل (أيا كان مستواه وشكله) هذا السؤال الذي يحتاج إلى اجابة, فالمفاوضات الفلسطينية قائمة, والمفاوضات مع سوريا في الأقرب قادمة والانسحاب من جنوب لبنان يبدو انه حقيقة سياسية, وقد تم توقيع معاهدات سلام مع مصر والأردن والفلسطينيين. ولكن السؤال يبقى معلقا, ماذا بعد ذلك؟ وكيف ستكون عليه المنطقة في السنوات القليلة المقبلة من سلام أو لا سلام فيما بينها؟ وبعيدا عن الصراع مع اسرائيل وما هو الدور الذي سوف تلعبه اسرائيل في العلاقات العربية ـ العربية, ثم ما شكل العلاقات العربية العربية بعد ذلك؟ كل تلك الأسئلة وجب الاجتهاد في التفكير فيها. نبدأ بالفلسطينيين والقضية الفلسطينية, وهي قضية لم يظلم فيها شعب في القرن العشرين أكثر من الظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني, ولم تفرط قيادات بقضية كما فرطت قيادات العمل الفلسطيني بقضيتها, فقد كانت عاثرة الحظ من الحسيني إلى الحسيني, إذا وافقنا ان الرئيس ياسر عرفات, حسيني أيضا. فالمفتي الحسيني رحمه الله اختار ان يتخذ القرارات السياسية الخاطئة في الكثير مما واجه, كان أبرزها قراران, الأول لجوؤه إلى ألمانيا النازية واهما انها الملاذ والخلاص, والثاني بعده عن فلسطين في الوقت الحرج, وقت انسحاب بريطانيا عن الأرض الفلسطينية, ثم جاء أحمد الشقيري بكثير من حسن النية والكثير أيضا من الشعارات, والكثير أيضا من التصرفات المنحازة لدولة عربية أو أخرى في وقت تصاعدت فيه الحرب العربية الباردة مما سهل سحب البساط من تحت قدميه, بعد ان أقفلت عنه قنوات التمويل. ثم بدأت قيادات فلسطينية شابة تأخذ مكانها في صدارة العمل الفلسطيني مستفيدة في البداية من الأخطاء التي ارتكبت من القيادات السابقة, ثم ما لبثت ان ارتكبت الأخطاء نفسها, فالسيد ياسر عرفات ومن معه, بجانب انهم شهدوا خسارة كل فلسطين بعد ان تسببوا ولو بشكل غير مباشر في توريط دول عربية محيطة باسرائيل بحرب عرفت في التاريخ الحديث بحرب الأيام الستة دون استعداد أو عدة, ثم تسببوا في فقدان بقية فلسطين وبعض الأراضي العربية, ثم نتيجة مجموعة من الأخطاء السياسية القاتلة الأخرى وصلوا للتفاوض مع عدوهم على أرض هشة ودون قدرة على مقاومة ما يعرض. الاخطاء القاتلة للقيادة الفلسطينية هي ان ثلاث دول عربية اعطت للحركة الفلسطينية مساحة واسعة من التحرك, قابلتها القيادة الحالية بكثير من النكران وكثير من اللامبالاة, وكثير من التدمير, البلدان هي الأردن ولبنان والكويت. من يقرأ تاريخ الحركة الفلسطينية منذ العقد السادس من القرن الماضي يجد ان هذه الدول العربية الثلاث قد قدمت الكثير لنصرة العمل الفلسطيني, وكلها دفعت ثمنا باهظا, كان آخرها حرب مدمرة في لبنان كان سببها المباشر الوجود الفلسطيني وتصرف قياداته غير العقلانية ثم ناصرت هذه القيادة بشكل لا يقبل الشك لاحتلال عراقي للكويت سافر وغير مبرر. قادت كل هذه السياسات الحمقى, على أقل ما يقال فيها, إلى (سلام أوسلو) الذي يسير قطاره حسب الهوى الاسرائيلي دون منازع, وفي اعتقاد الكثيرين انه لو لم ترتكب كل هذه الأخطاء من القيادة الفلسطينية الحالية لحصل الفلسطينيون اليوم على أفضل مما حصلوا عليه حتى الآن, وخاصة موقفهم من الاحتلال العراقي للكويت, فنصرة الاحتلال أوصلهم إلى هذه الصغرة من الموقف التفاوضي الذي يقدم فيه الاسرائيليون رجلا ويؤخروا أخرى لأنه لا يوجد لدى القيادة الفلسطينية خيار غير القبول بما يعرض. بهذه القيادة الفلسطينية وفي حالة السلام الذي تم وصفه سابقا وهي غير مرض عنها من غالبية شعبها, وغير قادرة على تجاوز, اتخذته من قرارات خاطئة تجاه العديد من الشعوب العربية الأخرى, مثال على ذلك لقاء مع أحد الثقاة الفلسطينيين في بيروت أخيرا, وقد ترك العمل مع القيادة الفلسطينية بعد ان كان قريبا منها, قال: لقد جاء أبو اللطف إلى بيروت وقال للبعض ان ابا عمار يشتاق إلى هواء بيروت, قلت له, كما روى لي ذلك القريب إلى القيادة, أنصح أبا عمار الا يفكر في بيروت, وأنصحك أيضا يا أبا اللطف ان تختصر زيارتك, فاللبنانيون ما زالوا يحملون مرارة ماحدث لهم جراء التدخل الفلسطيني في بلادهم. بيت القصيد أن الوضع الفلسطيني لا هو يطول وضعا مريحا مع اسرائيل ولا يطول وضعا مريحا مع جيرانه العرب بسبب تاريخ تراكم أخطاء مازالت قائمة, فالتعاطف الكبير الذي كان بسبب تشريد شعب عربي ليس بالضرورة سيكون موجوداً بعد قيام دولة فلسطين. طرق مبادلة السلام, بالأمن وهو الشعار الكبير الذي جرت وتجري عليه مفاوضات الاطراف العربية وهو لن يتيح فرصة او فرصا للاخلال بالأمن, من اي طرف لذا فإن القوى فلسطينية او لبنانية او حتى عربية سوف لن يترك لها المجال لا اقليميا ولا دوليا للاخلال باتفاقيات دولية ترتب على الداخلين فيها اخذ مبادرات نشيطة للحفاظ عليها. من هنا فان قوى مثل حركة حماس وحزب الله, وقوى اخرى عديدة ستواجه ليس (العدو) التقليدي بل ستواجه, ان نشطت, قوى وطنية قبلت بالتوقيع على اتفاقات سلام, واي من الدول او المنظمات التي سوف تقوم بمد يد العون لها ان قررت اختراق تلك الاتفاقيات الدولية ستكون موضع مساءلة. الاجتماع الاخير الوزاري للجامعة العربية في بيروت والعدوان الاسرائيلي الذي جاء بعده يشير الى توازن القوى العسكري والوضع العربي الذي يجيد تدبيج الكلمات, فالدول ذات الثقل الكبير في المنظومة العربية اما لها علاقات دولية مع اسرائيل تمنعها من اخذ خطوات جذرية ضدها, او هي دول تعرف ما ينطوي عليه توازن القوى العسكري فليس امامها والحال كذلك الا موقف سياسي فقط. مازال امام السلام الشامل بعض الوقت, الدولة الفلسطينية, وضع القدس, تقسيم المياه مع الدول العربية المجاورة, اللاجئون الفلسطينيون في البلاد العربية او خارجها كل هذه هي القضايا الصعبة التي يجب ان توجه لها الانظار, بدلا من ترديد الشعارات القديمة التي يعرف الشارع العربي انها لاتجدي في ظل الظروف الحالية. افتراض حالة انقشاع العداء مع اسرائيل لا تفرض تلقائيا عدم وجود خلافات عميقة بين الدول العربية وبعضها فقد كانت موجودة بوجود التهديد الاسرائيلي وربما تكون مستمرة ومتزايدة حتى بعد انقشاعه ان تم ذلك. فمازالت دول عربية تفكر بمنطق الحرب العربية الباردة, وتفكر باستمرار الاطماع, ولعل اولها هي النظام العراقي الذي اكد وزير خارجيته في لقاء مع محطة (ال.بي.سي) اللبنانية وسط الاسبوع الماضي المقولات القديمة في الضم والالحاق (والعدوان على العرا) , الذي تساعد بلاد عربية على اتمامه كما قال وزير الخارجية العراقي! في تفكير كهذا يبرر العدوان والضم والتهيؤ لعدوان جديد, بجانب الخلافات العربية ـ العربية على قضايا كثيرة لم تستطع الجامعة العربية تقديم حلول مرضية لها سيظل فتيل النزاع وربما الصراع مشتعلا ان استبقينا الشعارات السابقة ولم نتقدم الى الامام, حتى لو حدث السلام مع اسرائيل فان السلام الشامل قد لايكون قريبا. كثير من المؤسسات الاقليمية انشئت في العالم بعد الحرب العالمية الثانية, من بينها الجامعة العربية, وقد حدث شيئان لهذه المؤسسات, اما تقدمت الى الامام وطورت من اعمالها لصالح اعضائها, واما انفرطت, وحدها الجامعة العربية بقيت على حالها تراوح في مكانها, وهذا دليل مع الاسف سلبي على عدم قدرة على التقدم الى الامام او التراجع الموضوعي الى الخلف في العلاقات العربية ـ العربية. ذلك بحد ذاته دليل على المراوحة التي وجب علينا ان نفرضها على اجندة النقاش, حتى لايدور الجميع في حلقة مفرغة, ذلك هو المركب الصعب.

Email