ظروف النشأة ... وخصوصية المجتمعات ، توطين وتأصيل الخدمة الاجتماعية بالامارات 1 ـ2

ت + ت - الحجم الطبيعي

بقلم: د. مصطفى النجار مع نهاية القرن العشرين تتوالى الأحداث والتغيرات العالمية والمحلية بشكل متلاحق ومتسارع, وهناك ثمة اتفاق على ذلك, ولعل من أهم التغيرات التي تشهدها الدول المتقدمة في الوقت الحالي, هي التحول من عصر الصناعة إلى عصر المعرفة والمعلومات. وكما قال فرانسيس بيكون المعرفة هي القوة (knowladge is Power) . ويثير موضوع الانتقال إلى الألفية الثالثة كثيرا من الحوار والمناقشات في شتى أنحاء العالم بعامة وعلى مستوى كل دولة بخاصة في كافة مناحي الحياة, ومنها واقع العلوم والمهن المتخصصة, خاصة تلك التي تتعلق بالعلوم الإنسانية والاجتماعية لارتباطها بواقع المجتمعات, حيث تسعى كل دولة لتحديد موقعها على خريطة العالم فيما حققته وما يجب أن تسارع وتسعى إلى تحقيقه حتى تلحق بركاب العالم المتقدم حتى ولو في العقود الأولى من تلك الألفية التي ذكرنا آنفا. ظروف الميلاد الخدمة الاجتماعية - كغيرها من أفرع العلوم والمهن الإنسانية والاجتماعية - تتأثر بكافة المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية السائدة في مكان وزمان معينين وتؤثر عليها. فهناك ثمة اتفاق على ان التقدم الاقتصادي للبلاد يمكن أن يجلب معه تقدما علميا ملحوظا كما ان تقدم وتطور العلوم يمكن أن يساهم في تحقيق العديد من الأهداف الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كنا نسلم بأن ميلاد الخدمة الاجتماعية في بداية القرن العشرين قد واكب في التاريخ الغربي تقدم وتطور المجتمع الصناعي, كما واكب ما صاحب ذلك من مجمل التغيرات في سياق تطور المجتمع, وكنتيجة لحاجات إنسانية ومجتمعية فرضتها ظروف المجتمع الأمريكي مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, وقد واكبت أيضا عمليات تشكل ونمو ونضج موضوعات العلوم الإنسانية الأخرى في الفكر الغربي والتي لعبت دورا هاما في بدايات الخدمة الاجتماعية وحتى الآن وان كانت محكومة من جهة بتطور نمط الانتاج الرأسمالي ومحكومة من جهة أخرى بتطور المجتمع وتطور الأنظمة السائدة فيه. في ضوء ذلك يتبين الترابط الحاصل في مسيرة تشكل العلوم الإنسانية والاجتماعية ومنها الخدمة الاجتماعية في علاقتها بالظروف التاريخية لمجتمع النشأة, وبالتالي ما فتئت جهود البحث العلمي في هذا المجال ساعية إلى التواصل في هذا الارتباط, والتأثر الطبيعي بطبيعة وفكر المجتمع وأسباب نشأة تلك التخصصات. ورغم ان مهنة الخدمة الاجتماعية قد نقلت منذ ما يربو على ستين عاما من الولايات المتحدة الأمريكية كدولة متقدمة تكنولوجيا وصناعيا إلى بعض دول العالم النامي ومنها مصر التي نقلت بدورها الخدمة الاجتماعية إلى بعض الدول العربية, إلا انها لم تفلح حتى الآن - كنموذج غربي - في ان تضرب بجذورها بأصالة في التربة المحلية لتلك الدول, ذلك ان كل التقديرات تشير إلى ان المهنة لم تقم بدرجة كافية بتحقيق الآمال المعقودة عليها فيما يتصل بالمواجهة الفعلية والفعالة للمشكلات الاجتماعية التي تواجه تلك المجتمعات. ونحن هنا نشير إلى اشكاليات علمية ومنهجية وتطبيقية ترتبط بواقع مهنة الخدمة الاجتماعية في المجتمعات العربية, حيث تثار تساؤلات موضوعية تتعلق بالترابط الذي يجب أن يقوم بين مسيرة تشكل العلوم الإنسانية والاجتماعية في اطار التاريخ العربي العام, ثم تشكل وتطور الجهود البحثية في نفس الاطار كما حدث وتبلور في أمريكا والغرب الأوروبي منذ منتصف القرن الماضي وإلى يومنا هذا, كما ترتبط بموجهات التقارب والتكييف الايديولوجي. وتتسع التساؤلات مع تقدم الحركة البحثية في الخدمة الاجتماعية حول علاقة البحث في الخدمة الاجتماعية مع نوعية المجتمع وخصوصيته, والفئات التي يشملها البحث وعلاقة هذا البحث بالأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في المجتمع حتى يمكن توظيف والاستفادة بما يفرزه من نتائج. تقليد وإبداع ولهذا السبب يمكن القول ان نقل النموذج الغربي - من المجتمع الأمريكي - للخدمة الاجتماعية إلى مصر وممارسته بها واجه عقبات مهمة في البداية, مع الوضع في الاعتبار ان هذا النموذج الأمريكي للخدمة الاجتماعية قد نشأ نتيجة لمناخ ووسائل وآليات علمية ارتبطت بطبيعة وثقافة وتطور المجتمع الأمريكي. لذا بدأت ممارسة الخدمة الاجتماعية في مصر في بدايتها على انها عملية تقليد في الممارسة ومحاكاة في تعليمها, إلا انه مع تطور مهنة الخدمة الاجتماعية في مصر بدأ الممارسون في اقتحام مجالات متعددة, لذا وجدنا النموذج الأمريكي قد ركز على الممارسة في المجال الأسري وفي مصر جاء التركيز على العمل في المجال المدرسي بالاضافة إلى المجالات الأخرى, كما بدأت عملية البحث والدراسات العليا في مصر لينخرط الباحثون في البحث في مشكلات المجتمع المصري, ولا شك ان انخراطهم هذا راكم أبحاثا متعددة منها الكثير الذي جاء بعيدا عن الهيمنة الفكرية للنموذج الأمريكي وان اتسم بكثير من الاجتهادات في البحث والتعليم والممارسة. وتأسيسا على ذلك فإن الخدمة الاجتماعية كمهنة - تعمل على مساعدة انساق المجتمع (الفرد - الجماعة - المجتمع - المنظمات والأنظمة القائمة) على تحقيق أعلى درجات التوافق والتكيف والتقدم وتحقيق الأهداف, ويجب ألا تمارس في عزلة عن اطار التاريخ العربي والإسلامي للمجتمع العربي بعامة ولكل مجتمع داخله بخاصة, حيث انها يجب أن تمارس تعليما وبحثا وممارسة في اطار القيم الاجتماعية, والتفضيلات الثقافية للمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان محل اهتمام الخدمة الاجتماعية, تلك القيم والتفضيلات التي تنعكس على نظم المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها, هذه النظم التي بدورها تفرز أوضاعا اجتماعية ومواقف تؤدي إلى ظهور تلك الأنواع المتميزة من المشكلات التي تحاول المهنة - مع غيرها من المهن - التصدي لها في ذلك المجتمع المعين. خصوصية المجتمعات في ضوء ما تم عرضه برز في مصر في نهاية عقدي الستينيات والسبعينيات مصطلحا (توطين) و(تأصيل) الخدمة الاجتماعية ليعبرا عن مجمل الاشكاليات الموضحة آنفا, ولا شك ان الارهاصات التي أفرزتها جهود هذه المرحلة قد أثرت ايجابيا على مسيرة الخدمة الاجتماعية في مصر والاحساس المجتمعي بها كمهنة, ويؤكد ذلك افتتاح العديد من الكليات والمعاهد الخاصة بالخدمة الاجتماعية وزيادة البعثات إلى أمريكا وانجلترا, ونضج نقابة المهن الاجتماعية ... وغير لك من انجازات ليس هذا مجال عرضها ولكن نوهنا عنها لأهمية ارتباطها بموضوع مقالتنا. ونحن نعلم ان الخدمة الاجتماعية قد انتقلت إلى بعض الدول العربية - كالكويت وقطر وأخيرا الامارات - من مصر. وبتركيزنا على دولة الامارات علمنا أيضا ان بداية الخدمة الاجتماعية كانت في المجال التعليمي, حيث نقلت الخدمة الاجتماعية من مصر إلى الامارات ضمن نقل منظومة التعليم وبدأت كممارسة منذ ما يربو على عقدين من الزمن, ثم بدأت في جانب الاعداد والتعليم في جامعة الامارات في اطار قسم الاجتماع والخدمة الاجتماعية لتنفصل بعد ذلك بقسم مستقل منذ عام 1995. وكان من الأهمية بمكان مراعاة الخصوصية للمجتمع الاماراتي وقيمه وعاداته وتقاليده فرغم انتقال الخدمة الاجتماعية من مصر كبلد عربي يجمعه بدولة الامارات الكثير من عوامل التآخي والتماس من تاريخ عربي ولغة ودين وقومية ... وغير ذلك, إلا انه لا شك ان كل مجتمع له خصوصيته بل انه في المجتمع الواحد قد يوجد بعض تباينات لابد أن توضع في الحسبان, ففي المجتمع الواحد يمكن أن نجد مجتمعات ريفية وحضرية وبدوية ... وهكذا, لذا كان من الضروري مراعاة التوطين والتأصيل للخدمة الاجتماعية في دولة الامارات. إن توطين وتأصيل الخدمة الاجتماعية ليس غاية في حد ذاته, وإنما هو وسيلة منطقية الهدف منها التوجه الايجابي نحو واقع الممارسة في المجتمع والوصول بالمعرفة أيضا إلى ضوابط التقنين العلمي المعترف بها. وعن أهمية تأصيل وتوطين الخدمة الاجتماعية في المجتمع, انه ليس ثمة شك في ان التنبؤ بالمستقبل أكثر صعوبة عن ذي قبل, حيث تعيش المجتمعات حاليا في بيئة ديناميكية سريعة التغير, بفعل تنامي المتغيرات والمستجدات المتلاحقة في المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا وأساليب التقنية الحديثة, كذلك في الأنظمة والقوانين, وما تفرزه هذه التحولات والتغيرات من تأثيرات ايجابية وأخرى سلبية على الصعيدين الدولي والمحلي مما يستلزم بالضرورة رؤى جديدة في الخدمة الاجتماعية تتناسب مع طبيعة المجتمع وتكوينه البنائي والوظيفي, لتكون أكثر قدرة وأكثر استجابة للتعامل مع التحديات الاجتماعية المرتبطة بالمجتمع. وتعرضنا لقضية توطين أو تأصيل أو تعريب الخدمة الاجتماعية لا يعني الانعزالية أو البعد عن ما يتم في الغرب, لذا فمن الأهمية بمكان أن نعرض للمقصود بالمصطلحات المستخدمة وما سنركز عليه هو المقصود بالتوطين - والتأصيل - والتحديث.

Email