عرب ما بعد التسوية (2) د. محمد خالد الأزعر*

ت + ت - الحجم الطبيعي

الشائع ان التغيرات المتوقعة, أو المرغوب فيها عند بعض المعنيين بصورة المنطقة العربية بعد التسوية مع اسرائيل, سوف تتصل بهيكلية المنطقة وأطرها الاقليمية العامة الخارجية: أي وهن النظام العربي أو قوته, ومدى النجاح في تمرير المشروع الشرق أوسطي كبديل أو منافس من هذا النظام, وآفاق الشراكة المتوسطية, وتداعيات ذلك كله على الهوية العربية ومضمونها القومي العروبي الغالب, ومكانة اسرائيل في منطقة (الشرق الأوسط) وانعكاسات انفتاح العرب عليها, وطبيعة الصراع أو التعاون بينها وبين العرب, والأدوار الأمريكية والأوروبية في غمرة الواقع الاقليمي المنتظر. والواقع ان هذه الابعاد ومثلها تنتمي لما يمكن ان نطلق عليه مفهوم (التجليات الخارجية النظامية لعملية التسوية) , تمثل وجها واحدا لما ينبغي التفكير فيه من تحولات مقبلة, أما الوجه الآخر فهو (التجليات الداخلية لهذه العملية) ويشمل هذا الوجه طائفة واسعة من الأبعاد والنقاط أو القضايا التي تمس احشاء الأمة العربية, فالحرب والتسوية عمليات اجتماعية كبرى, تترك بصماتها على ملامح الأمم وتركيبها وأنماط تفاعلاتها, وقد تؤدي إلى تداعيات بعيدة الغور على الصحة الداخلية اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا وتعليميا. لنا ان نسترجع في هذا المقام, ما أحدثه الصراع المحتدم مع الصهيونية واسرائيل ومناصريها الدوليين من انعكاسات على هذه الصعد في الخارطة العربية, على مدار قرن ونيف من السنين, فليس ثمة صغيرة أو كبيرة في هذه الخارطة نجت من هذه الانعكاسات بدرجة أو أخرى, لقد كان الصراع حاضرا بقوة في تضاعيف الحياة العربية بكل تفصيلاتها, في علاقات قطاعات العرب بين أنفسهم وداخل هذه القطاعات, في كل بيت وشارع ومؤسسة وقوة فكرية وسياسية ومحفل نوعي...إلخ على المستويين الشعبي العام والرسمي الحكومي. لهذا, ليس من المتصور ان تمر عملية التسوية هكذا كسحابة صيف في جوف هذه الحياة, بل ولعل مضمون التسوية ذاته قد أخذ علما بهذه القناعة وراح يسعى إلى التأثير فيها, بما يخدم أغراض أطراف معينة, هذا وإلا ما مغزى النصوص التي تبغي احلال ما يسمى بثقافة السلام في بعض الاتفاقيات العربية الاسرائيلية, أو منع التحريض ضد اسرائيل, أو حجب الممارسة السياسية بحق قوى تعارض ما تعتبره تسوية غير عادلة للصراع (وهي كذلك حقا وصدقا)؟ أو نشوء روابط ومنتديات تظاهر التطبيع مع اسرائيل, وأخرى تقاومه بين يدي الشارع العربي؟ أو المُطالبة بتعديل المناهج الدراسية في حقل التعليم بالنسبة للعرب؟ ولأن كثيرين ربطوا تقليديا بين مسار الصراع مع اسرائيل وانماط الحكم والسياسة في البلاد العربية, كالعيش مطولا تحت حالات الطوارئ, وانتشار حكم العسكر وسطوتهم بصفتهم حماة الديار, وتكريس أموال طائلة للانفاق الدفاعي بما قيل انه يضرب برامج التنمية والتحديث, لهذا كله, فإن التسوية ستطرح بنظر هؤلاء سؤال المستقبل حول هذه المناحي, وبشكل أكثر مباشرة سوف تثار قضية العلاقة بين المنظور الديمقراطي وقضية الصراع صعودا وهبوطا, تلازما وانعكاسا. أثناء الاجابة عن هذا السؤال, لن تكون اسرائيل قد غابت عن المسرح, بل لعلها تتغلغل أكثر كعامل مؤثر على التطور السياسي الداخلي في عالم عرب ما بعد التسوية, قد يسمح لها بذلك التواصل المحتمل مع الداخل العربي على نحو أقوى مما كان متاحا في عهد الصراع الساخن. وعلى سبيل التطوع بالتفكر في هذا البعد المحتمل, تجدر الاشارة إلى ان تفكيك المنطقة العربية من الداخل, بين دول ودول, ثم على الصعد الداخلية ما أمكن بين شيع وطوائف وملل ونِحَل مزعومة في رحاب هذه الدول, هذا الهدف, ظل ثابتا في الاستراتيجية الصهيونية وكيانها السياسي منذ بداية الصراع, وكان الصراع بذاته يدرأ غوائل المخططات الاسرائيلية تجاه الداخل العربي, فماذا عن ما بعد التسوية؟ يحق للبعض التخوف من ان تستحدث الصهيونية واسرائيل آليات للتفكيك لم تعهدها الأمة العربية من قبل, ويحق من ثم التدبر في هذا الاحتمال جديا, وان يكون المنطلق في ذلك الاعتقاد بأن الهدف الصهيوني الاسرائيلي المشار إليه ثابت لن يعتكف بمجرد توقيع التسوية, بل ربما رأت اسرائيل في متغيرات ما بعد التسوية وسيلة تسهل لها تحقيقه. تقديرنا المبدئي ان قضية التحول الديمقراطي العربي غير وثيقة الصلة بمسار الصراع الصهيوني العربي, وان لها جذوراً وأصولا ومحددات أخرى غير ضغوط هذا الصراع. وان اسرائيل ومحازبيها الدوليين ليسوا معنيين ولن يكونوا في المستقبل, بمقرطة النظم السياسية العربية, وربما كان العكس هو الصحيح, نقول ذلك وفي الذهن ان عملية التسوية بقوامها المعيب حقوقيا, ما كان لها ان تمر بقضها وقضيضها في مناخ عربي ديمقراطي, ثم الشعوب التي أبرمت نظمها تسويات مع اسرائيل, لم تعبأ بالهرولة نحوها ولا هي تهضم أو حتى تفضل فكرة التعامل معها بشكل طبيعي, ومع ذلك يظل السؤال مشروعا عما إذا كان التوصل إلى تسويات على المسارات المتبقية, يمكن ان يحرف هذه الحقيقة؟ أي هل تسهل نتائج التسوية الشاملة ووضع السلاح, قضية التحول الديمقراطي بناء على تفاعلات داخلية, أهمها زوال مشجب الاستنفار المسلح ضد اسرائيل من جانب النظم العربية جميعها؟ وبالطبع يتداعى من قضية مستقبل العملية السياسية في الدول العربية ونظمها السياسية بعد التسوية مسألة فرعية لا تقل أهمية. هي التفاعلات والتدافعات بين القوى السياسية الأكثر انتشارا في العالم العربي, فهذه القوى من قوميين واسلاميين وشيوعيين وليبراليين جدد واصلاحيين, ليست على كلمة سواء تجاه مخرجات التسوية مع اسرائيل, اذ ان بعضها يرى ان هذه المخرجات مفروضة وان الصراع مستمر بأشكال أخرى, فما هي هذه الأشكال التي تدخل في خيارات هذه القوى, وما فرصتها في استقطاب الرأي العام العربي (أو العربي الاسلامي مثلا) معها حول هذه الخيارات؟ وما ردود أفعال أنصار التسوية من عرب واسرائيليين وقوى دولية في هذا السياق؟ ان الانقسامات السياسية والايديولوجية الفكرية حول التسوية ذاتها, قد تفرض توترات على الساحات الداخلية العربية في مرحلة تالية, الأمر الذي ينطوي في أجل قريب أو بعيد على أمراض الشقاق والتنابذ وربما محاولات من البعض لتجريم البعض واستئصاله بعد تخوينه أو الادعاء بخروجه عن السوية العربية الحقة! وعلى مسافة قريبة من هذه التوترات سيكون هناك ما ندعوه بـ (مخلفات التسوية) التي من شأنها تأجيج الشقاق, فليس من المعقول ان يستقر المفاوضون في الطور الحالي من التسوية على حلول مقبولة من الكافة بالنسبة لقضايا جوهرية في الصراع: اللاجئون, القدس, مستوى سيادة الكيان الفلسطيني, ليست سوى أمثلة في هذا الاطار, ومن ثم, قد يبقى لبعض التيارات والقوى السياسية العربية الرافضة لمسيرة التسوية بشروطها الراهنة, ما يحتجون به ضد خصومهم على الساحة وما يسعون به إلى تأليب الرأي العام الغاضب ضد مخرجاتها في المستقبل. خرائط كثيرة سوف تتغير بفعل التسوية, ونحسب ان الفرصة لم تمر بعد على النظام العربي ليكون جاهزا بأجندته الذاتية للتعامل مع مخططات الآخرين الحاضرة والمتربصة منذ زمن, ولكن وقت هذه الفرصة هو الذي يضيق شيئا فشيئاً, وكي تثبت قوى هذا النظام انها لن تكون في موقع رد الفعل أو المفعول به, فقد يتعين عليها ان تتلمس سبلها إلى خارطة اسرائيل من الداخل, فهذه الدولة الاستيطانية لا تمثل استثناء من سنن التأثر بالفارق بين معطيات زمن الصراع ومستجدات زمن التسوية, إذا لم يأخذ العرب بهذه النصيحة, فلن يكون هناك معنى للشعار القائل بأن الصراع معها مستمر وان كان بأنماط ومداخل أخرى.

Email