تغيير خارطة المنطقة العربية وهويتها وعنوانها ، العرب ما بعد التسوية (1)

ت + ت - الحجم الطبيعي

بقلم: د. محمد خالد الأزعر المرجح ان أحوال العالم العربي بعد التسوية مع اسرائيل لن تكون مثلها قبل ذلك, ستحدث تغييرات ما بشكل جزئي أو كلي, فالحروب يمكن ان تغير خرائط كثيرة, اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا, وكذلك تفعل التسويات, هذه واحدة من أوليات سنن العلاقات الدولية عموما, لكنها فيما يخص منطقتنا العربية تكاد ترقى إلى النظرية. فأثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية (في القرن الماضي!), جرت عمليات هدم وبناء في أوروبا وآسيا وأفريقيا, ومن جراء الحربين وتفاعلاتهما ثم التسويات الظاهرة والخفية أثناءهما وفي أعقابهما, نالت منطقتنا العربية تحولات مازالت قيد النظر في نتائجها, لقد كان قيام إسرائيل ذاتها بعض هذه النتائج, ومن المؤكد ان هذه المنطقة لن تنجو من تداعيات التسوية الجارية, كما لم تنج من تأثيرات الحرب الصهيونية العربية في طورها الساخن. وعلاوة على مسايرة التقاليد والتجارب التي تثبت انه ليس بعد الحروب والتسويات إلا التغيير, قل هذا أو كثر, فإن قضية التحولات المتوقعة عربيا باتت شبه يقينية بفعل بنية التسوية المعمول بها أصلا على الصعيد الاسرائيلي العربي, يتأتى هذا التقدير من وجود المسارين التفاوضيين ومتعدد الأطراف والثنائي. ان مفهوم المفاوضات متعددة الأطراف هو الاسم الحركي للبحث عن اطار للتعاون العربي الاقليمي أو الاقليمي الدولي: أحدهما أو كليهما, في حضور اسرائيل, وهذا في حد ذاته تعبير عن تحول انقلابي في العلاقات الاقليمية العربية, من القطيعة المطلقة مع العدو الاسرائيلي, إلى التعاون معه, على ما بين الحالتين من فروق جوهرية, والمغزى الاعمق لهذه المفاوضات الذي يستقي من تزامنها مع جهود التسوية السياسية الثنائية, ان المسارين مرتبطان ببعضهما البعض, فإسرائيل, ومصمم عملية التسوية الأمريكي, لايقنعان بفض الاشتباك العسكري والسياسي الاسرائيلي العربي, وكفى الله المنطقة القتال, بل يقصدان عمدا احداث التحول المشار إليه. هذا التحول المقصود يعني أن ما بعد التسوية ليس كما قبلها في المحيط العربي, إذ لن يكون بوسع العرب ان يستأنفوا حياتهم ونظمها بإرادتهم المنفردة, فيما تعتزل اسرائيل في ركن بعيد هادئ. انه يعني بكلمات أخرى, اننا بصدد خرائط للعلاقات الاقليمية العربية لا تتسق وما عرفه هذا المحيط, وان عملية التسوية ذاتها لن ينفرج الستار عن نتائجها إلا وقد ضمنت اسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة, علاوة على الشركاء الأوروبيين المراوغين, مشهدا آخر للاقليم العربي, ولعل التدافع الجاري خلف هذا الستار, يدور حول موقع اسرائيل ومكانتها في هذا المشهد. وإذاكانت متعددة الأطراف تحمل دلالة مباشرة على نوايا الآخرين في احداث تغييرات اقليمية, تمس النظام العربي, فإن المفاوضات الثنائية لا تخلو بدورها من مؤشرات على نحو غير مباشر, فكل القوى الضالعة في التسوية من غير العرب, تهتدي في مساعيها بفكرة اسرائيل القديمة ـ المتجددة بأن العرب أطراف لا طرف واحد, وان كل دولة تختص بقضايا بعينها, داخل التسوية ولها ان تفاوض حولها اسرائيل بمعزل عن الآخرين. الاستفراد بكل طرف عربي في الحرب ما أمكن وفي التسوية دائما, هو بذاته منهجية في النظر والتعامل الاسرائيلي مع المنطقة العربية, منهجية قديمة عمرها من عمر الصراع مع اسرائيل وجهود التسوية معا, اسرائيل لن تؤمن يوما بفكرة (وحدة العرب) في التعامل السلمي معها. وفي عام 1949 عقدت أربع اتفاقيات للهدنة مع الدول العربية المشاركة في حرب 1948 ـ 1949, كل على حدة, ومن الشهير جدا الآن ان تقتدي بهذا الأسلوب في عملية التسوية منذ عقد من السنين, وطبعا لسنا بحاجة للتذكير بأنها في التهيؤ للحرب تفعل العكس, إذ انها تتربص بالعرب أجمعين المجاورين لها من قريب أو البعيدين عنها نسبيا, وهي على استعداد لمهاجمتهم ان اقتضى الأمر جماعيا أو فرديا. من نجاحها في الجمع بين التعاون من منظور اقليمي والتسويات السياسية الثنائية, يحق القول بأن اسرائيل بمناصرة من محازبيها الدوليين نجحت في تصفيف العرب داخل مسيرة التسوية, فما الذي يدعوها حقا للانكماش وعدم التدخل في حياة عرب ما بعد التسوية؟, بل كيف يمكننا نحن التشكيك في قدرتها على ذلك, إذا أخذنا في الاعتبار بأن التسويات ـ أية تسويات لأي صراعات ـ لا تعالج الماضي وحده, بل تتعرض للمستقبل, وان التسوية (ولعلها التسويات!) العربية الاسرائيلية انطلقت من هذه القاعدة بالذات وعملت بها قبل أي شيء آخر؟ ان آلية التلاعب بالمسارات الثنائية تنتمي إلى هذه القاعدة الآن, ولا يتوقع أي تساهل اسرائيلي مع عودة العرب إلى (وحدة المسار) في التعامل معها, حتى في الحالة السلمية مستقبلا. أكثر من هذا كله تأثيره في انحيازنا لاحتمال حدوث تغيرات ملموسة في مسيرة المشهد الاقليمي لعرب ما بعد التسوية, هذه المشاريع العتيدة التي تزدحم بها أجندات قوى متنفذة في عملية التسوية. فهناك مثلا المشروع الشرق أوسطي ومشروع الشراكة المتوسطية, اللذان يشتركان في كونهما منتجات أمريكية وأوروبية بمساهمة متميزة لاسرائيل, وكذا في انهما يعطفان على مكانة رائدة لهذه الاخيرة, فيما يشيحان كلية بوجهيهما عن النظام العربي. إنهما يتعاملان مع أكثر من عرب ولا يكادان يطيقان تعبير العروبة كهوية أصيلة جامعة للدول العربية المرشحة لهما. الشرق أوسطيون أكثر وضوحا في هذه الخاصة, لكن المتوسطيين الأوروبيين بدورهم ليسوا بريئين منها. فقد رفضوا مشاركة الأمانة العامة للجامعة العربية كطرف في دورات الشراكة المتوسطية بشكل صريح, وخملت حماستهم للحوار العربي الأوروبي. وهذا ينذر بداهة باستبعاد التعبيرات العربية الجماعية عن خيارهم مع التعامل مع العرب, ما يشي بتعاطفهم مع المنهجية الاسرائيلية في هذا الاطار. لعل فكرة تغيير خارطة المنطقة العربية وهويتها وعنوانها معلنة بوضوح بكل برامج الآخرين لما بعد التسوية. ولكن هذا الـ (ما بعد) لا يتعلق فقط بالبنيان الخارجي لهذه المنطقة ومنظومة علاقاتها الاقليمية والدولية والاطار الذي تعمل تحت عنوانه على هذين الصعيدين, وإنما يتصل وثيقا أيضا بالمنطقة من الداخل. ويندرج تحت هذا الجانب, ما يمكن أن تحدثه عملية التسوية من تأثيرات على معطيات ومفردات الحياة العربية, اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا.. الأمر الذي يستحق وقفة تأمل أخرى.

Email