النقد والابداع

ت + ت - الحجم الطبيعي

بقلم: د. تيسير الناشف يعتقد بعض الناس ان النقد والابداع لا يجتمعان في شخص واحد, غير ان ذلك الاعتقاد خاطئ, فلقد نشأ عدد كبير من الناقدين والمبدعين العرب وغير العرب الذين اجتمع في كل واحد منهم الناقد والمبدع العظيم, وفي المفكر او الكاتب الناقد المبدع يمكن ان يسيطر الناقد على المبدع او المبدع على الناقد وتكون سيطرة لأحدهما دون أن يعني ذلك إزالة الآخر. وخلال المعاناة او التجربة النفسية الفكرية الوجدانية الحارة يكون للابداع فضاء اوسع من فضاء النقد, ويتصدر شخص المبدع ويتراجع شخص الناقد, وذلك لان الانطلاق النفسي الفكري العاطفي الذي يقترن بالابداع لا يطيق القيود المبطئة التي تقترن عادة بالنقد. ولا يقصد بذلك ان النقد يفتقر إلى الانطلاق الفكري ولكن هذا الانطلاق أقل سرعة من الانطلاق الابداعي. وفي الابداع فضاء اوسع لعوالم الشعر والخيال والفلسفة والجمال والسحر, وللنقد حيز أصغر في هذه العوالم. لا يمكن للناقد ان يلج هذه العوالم بسهولة وسرعة ولوج المبدع. والمبدع إذا حلق حلق عاليا جدا, وإذا استغرقته المكابدة والتجربة النفسية العاطفية الفكرية كان الاستغراق عميقا جدا يغوص في الاعماق التي لا قاع لها. تنقله المعاناة الابداعية من عالمه ويتعرف بسرعة على عوالمه السحرية المقدسة, فيدخل بخفة في هذه العوالم التي يرى انها مألوفة لديه. لا يمكن للناقد ان يخترق الفضاء على وتيرة سرعة المبدع, ولا يمكن للناقد وهو يراعي قواعد لعبة النقد ان يجاري المبدع المنساب في فضاء التجربة غير المحدود, وإذا جارى المبدع الناقد انحسرت شعلة الابداع المتوهجة فيه وقلت سرعة الانطلاق الجامح وعاد المبدع حزينا من عوالمه الوردية والبنفسجية والسحرية إلى عالم القيد والضوابط والرتابة, عاد وهو يلتفت بتلهف وراءه إلى العوالم التي خرج منها. وعندما يعود الكاتب من مملكة الابداع الى الاشياء العادية التي نعرفها يمكن ان يعود الناقد فيه الى الصدارة فيعمل ملكة النقد, ثم قد يشعر ذلك الكاتب انه مل من الكتابة النقدية فتبدأ محركات الفيض الابداعي تعتمل في نفسه صوب المكابدة الشعرية والوجدانية والفكرية, فتراه ينطلق بسرعة الموله المنطلق إلي حبيبته نحو عوالمه السحرية الخاصة به التي تنتظره, كأنه علي موعد مع تلك العوالم, يطير اليها بجناحيه اللذين يغطيان مشارق الارض ومغاربها, ينطلق نحو اشعة الشمس الدافئة الحارة المحرقة, كأنه يريد ان يحترق. ومن اين لهذا الناقد ان يصل الي هناك؟ لن يصل الناقد الي هناك, الا اذا كابد التجربة, وعندها لن يعود ناقدا, يتلاشى الناقد فيه فيتحول الى مبدع, لا وقت لديه يضيعه علي ذلك الشيء بطئ الحركة العادي المألوف, الذي يسمى الفكر النقدي. فالمعاناة افقدته الناقد. والنقد اكثر عقلانية من الابداع, اذ بينما يعتمد النقد الى حد كبير على اعمال الملكة العقلية تتكون طاقة الابداع من العقل والذات والعاطفة والخيال, ولذلك فان النقد أقل انطلاقا من الابداع. والنقد بالتالي لا يلج عوالم يلجها الابداع. وقد يكون النقد والابداع حاضرين في النص نفسه, وقد يحدث ذلك في البداية الاولى من تكون الحالة النفسية الوجدانية الفكرية. وكلما تعزز وتكثف فيض الكاتب فكرا وخيالا وعاطفة ابتعد المبدع عن الناقد في شخص الكاتب, وسبق المبدع الناقد انطلاقا نحو رحاب العوالم البعيدة والمجهولة, تاركا وراءه الناقد الذي تقل سرعة انطلاقه. ولا اظن ان هذا الابتعاد يحدث عند نقطة معينة محددة, ولكنه عبارة عن عملية انسلاخ او فض اشتباك تدريجي بين المبدع والناقد, يتحرر المبدع فيها تدريجيا من صفة الناقد فيرتاد الفضاء إلي عوالمه بسرعة وبحرية أكبر دون ان يكون مثقلا بقيود النقد الفكرية. وقد يحتاج الناقد إلي بعض المراجع المكتوبة أو غير المكتوبة, ولكن المبدع لا يحتاج إلى مثل هذه المراجع, فالمراجع شيء كائن, شيء رجعي مبدع, والابداع عملية تقدمية, عملية ايجاد شيء غير مكتشف او غير موجود. وقد يحتاج الناقد في فكره النقدي إلى التحفظ والاستدراك والتعليل والتوضيح, انه مقيد بقواعد النقد. ولا تقيد يدا المبدع بهذه القيود. هذه القيود لا ترد في عالم ابداعه. انه لا يعبأ بالقيود. انه يريد ان يكسر القيود, وهو يكسرها. انها لا تعنيه, بل انها غير موجودة في رؤاه, وليس لديه ترف الالتفاف إليها. تعريف ابداعه هو انه غير مقيد. ومعني ابداعه ان سماءه تخلو من القيود. وهو بصفته مبدعا سيد ابداعه: سيد اشيائه المبدعة. ويتعين على الناقد ان يكون واعيا حتي يمكنه ان يعمل ملكته العقلية. وقد لا يحتاج المبدع إلي ان يكون واعيا, فقد تفيض عليه نفسه ابداعا وهو غاف او منتش او معانق للبحر علي الرمال المعانقة للآفاق او مناج للقمر الوديع في هدأة الليل او مخاطب لحبيبته والنعاس يغالبه, او طارب للاهازيج الشعبية, او حالم بفردوس يبحث عنه, او مسحور بموسيقى الرجز او مأخوذ بغناء الموشحات الاندلسية, او مستلهم للتاريخ في قصر عربي مهجور او مساكن الانباط المنحوتة في الصخور, او مبهور بصورة الفرسان الملثمين القادمين من بعيد, ويسمع صهيل خيولهم العربية, لعلهم يحملون اليه الامجاد الغابرة الباقية, او متفكر وهو يرى صورة طرد آدم وحواء عندما كانا قرب الشجرة من الجنة. ويمكن ان يحدث صراع بين الناقد والمبدع في نفس الكاتب حينما ينزعج المبدع او يتبرم او يضيق ذرعا بنقد الناقد فيه لابداعه. وقد يدوم هذا الصراع, وقد يهدأ ويثور احيانا, وقد يؤدي هذا الصراع الى قتل الناقد او قتل المبدع في نفس الكاتب. وقد لا يستطيع الكاتب ان يقتل الناقد فيه او المبدع فيه, وقد ينتهز الكاتب فرصة غفلة الناقد فيه فيسرح مبدعا, ثم يعود حاملا جنيه الابداعي, وعندها قد يرحب الناقد فيه بهذا الجني او ينتقده, او يحظى ذلك العطاء بالنقد والترحاب في الوقت نفسه. وقد يقرر الكاتب ان يكون ناقدا فيحاول ان يجعل المبدع هاجعا. وما يقرر في هذه الحالات هو نشاط المبدع وغليانه وتجربته وعبقريته وكينونته الباحثة عن شيء قد تعرفه وقد لا تعرفه. والكاتب المبدع اشد غيره علي ابداعه واكثر التصاقا به وتفانيا له من الناقد في نفس الكاتب. ولان المبدع يجل الابداع ولان الابداع تحقيق لذاته فانه لا يعبأ في حالته الابداعية بالناقد في نفسه. * استاذ دراسات الشرق الأوسط بالولايات المتحدة

Email