مقاربة اولية لمنظور استراتيجي المناهج التعليمية في بلادنا العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بقلم: د. صالح هويدي ناقد واكاديمي عراقي لا احد يجادل اليوم في ان تمتع المناهج التعليمية في اي بلد من بلدان العالم بالوضوح والواقعية والاستقرار علامة على جدية تلك الدولة وقطعها اشواطا متقدمة على طريق التحضر وتحقيق شروط التمدين. لكن نجاح المناهج في امتلاك السمات السابقة امر غير مرهون بالنيات وحدها ولا الرغبات, مهما بلغت في درجة صدقها وتوقها لتحقيق ذلك, فبين امتلاك المناهج تلك السمات ومفارقتها اياها افق (ابستمولوجي) وتقدم (تكنولوجي) حقيقي ينبغي انجازه, مع سعي مخلص نحو انجاز مهمات التنمية الوطنية وتخطيط جاد للانخراط في مسيرة التطور الحضاري والتفاعل الايجابي مع الآخر, وادراك موقع الانا منه ضمن افق رؤية نقدية شاملة. من هنا استطاعت كثير من دول العالم المتقدم انجاز شروط التحول من المرحلة العشوائية والاعتماد على العلاقات غير الموضوعية والمفاصل غير المقننة الى مرحلة اشاعة روح التقاليد وسيادتها وتغلغل ملامحها في مختلف ضروب الفكر والحياة وشتى الوان المناهج والانشطة والرؤى. ولعل من الباعث على كثير من الحسرة والاسف ان تظل كثير من بلداننا العربية تعاني من حالة التخبط في رسم سياسة منهجية ثابتة حينا, ومن سيادة روح الفوضى المتفشية في وسائل سعينا لامتلاك الروح المنهجية حينا آخر, في وقت دخل فيه العالم الالفية الثالثة محققا ثورته المذهلة في مجال (الانترنت) وعالم الاتصالات. ان الافتقار الى امتلاك شروط التحول من مرحلة ما قبل التخطيط الى المرحلة المنهجية قد تسبب في احيان كثيرة باضاعة جهود ضخمة وامكانات طيبة وخبرات وطنية جادة, تكشفت هنا او هناك, بين آونة واخرى, فضلا عن تسببها في تكبيد الدولة خسارات مادية وبشرية كبيرة وهدرها عنصر الزمن والعنصر البشري في آن معا. ولا شك في ان هذا الافتقار قد قاد ـ ولايزال ـ دولا نامية كثيرة إلى تبديد تلك الامكانات المتاحة والخبرات المتوافرة, بسبب جهلها القيمة الحقيقية لانجازها, فضلا عن معاناتها من أزمة ثقة, مردها (عقدة الخواجة), تلك العقدة التي صارت جزءًا من شخصيتها ومفادها ان الخبرة الوطنية لايمكنها الارتقاء إلى مستوى الخبرة الأجنبية المستندة إلى عالم من التطور والخبرات المتقدمة. بوادر منهجية هذا الواقع الذي عاشته جل دول العالم الثالث, ومنها دولنا العربية, شهد في النصف الأول من القرن المنصرم عقب انجاز بعض الدول شروط التحرر الوطني سعيا جادا نحو تهيئة مهاد موضوعي صالح لاشاعة تقاليد منهجية قادت شيئا فشيئا إلى خلق جو ديمقراطي تفتق عن مبادرات خلاقة لارساء رؤى واتجاهات ومناهج عمل وتأليف, تزاوج بين التجارب وتجتهد في تحقيق قراءة جادة لمستويات الادراك, بغية انجاز منهجية ملائمة وغير بعيدة عن مستويات الادراك المختلفة. بل ان عددا من دولنا العربية استطاعت في مرحلة ما قبل التحرر الوطني, وبوعي مخلص من لدن عدد من نواب حكوماتها الوطنيين ان تستفيد من الخبرات العلمية والاطر التي استكملت دراساتها في دول العالم المتقدم وحققت مستوى فاعلا من التثاقف المعرفي مما جعلها قادرة على تأسيس أرضية مناسبة لبناء روح منهجية قومية. ولعل من النتائج الايجابية المثمرة لحالة النهوض في بعض دولنا العربية وقتئذ سعي دول أخرى في مراحل تحررها الوطني إلى الافادة مما قطعته تجارب الأولى من أشواط طيبة حققت لها استقرارا واضحا في مناهجها التعليمية وتقاليد راسخة في تطوير تلك المناهج ومراجعتها وتقويمها, وهو أمر تكلل في بعض الأحيان بسياق من التعاون الاقليمي والقومي, في شكل علاقات (بروتوكولية) واتفاقات ثنائية وتبادل لجان وايفادات للأطر والخبرات, مما هيأ لتراكم الخبرات وتطوير الأطر واتساع قاعدة التقدم المنهجي, لتنشأ أقسام وتؤسس هيئات لاعداد المناهج ومتابعتها وتطويرها بما يخدم المصلحة الوطنية ويعمل على الارتقاء بها إلى مستويات أفضل. لكن حالة التداعي التي أصابت الأمة العربية في الستينيات وانتهت بها إلى النكسة العسكرية وما لحقها من حالة تخبط سياسي قادت الأمة إلى سياسات متباينة فرطت عقدها وفتت في عضدها وأضعفت شوكتها أمام عدوها المشترك لتترك من ثم ظلالا قاتمة على مسيرة العلم والثقافة والمشروعات العربية الطموح, تجلت في اشكال وصور مختلفة تباينت من دول لأخرى. ولعل من أبرز مظاهر التردي استبدال بعض الدول بالاستراتيجيات المنهجية القديمة منهجيات جديدة من دون ان تكون مهيأة لانضاج البديل المناسب المدروس مما جعل مظاهر الارتجال وصور النقص والهزال تبدو واضحة على ملامح المنهجيات الجديدة. أما الوجه الآخر من أوجه مسيرة المناهج التعليمية في بلادنا في ظل الأزمة الستينية فتتمثل في السلوك الآخر النقيض, ونريد به ذلك السلوك الذي كان يمثل الطرف النقيض, وهو طرف غابت عنه الرؤية العلمية ليمعن في التمسك بتلابيب المنهجية القديمة, ساعيا إلى تطبيقها تطبيقا حرفيا, مع حالة من الانغلاق حالت دون ايجاد هامش اجتهاد وطني من شأنه اغناء المنهجيات السابقة وخلق حالة دينامية أو تحقيق اضافة مسترشدة بأفق التطور المنهجي الذي شهد مديات مذهلة من التطور وغادر مواقعه السابقة سواء على مستوى الفكر المنهجي أو مستوى القيم والمفهومات والأهداف والآليات جميعا. والحق ان قضية المناهج التعليمية في بلادنا العربية خاصة على قدر من التعقيد والتعدد في أبعادها إلى الحد الذي يجعل منها اشكالية تحتاج إلى قدر من الدرس والعناية والتخطيط الجاد فهي في بلادنا ذات أبعاد ثلاثة: وطني وقومي وعالمي وان اغفال أي من تلك الأبعاد من شأنه ان يخل بنسب المعادلة الصعبة ويعرضها لخطر الفشل والعقم والقصور. جدل المعطيات ان جانبا كبيرا من منجزات التقدم المنهجي (العلمي) يعد معطى عالميا لا غنى عن متابعته أولا بأول والانفتاح عليه وادخاله ضمن نسق المنظومة المنهجية لأية دولة عربية. كما ان ثمة أرضية مشتركة عريضة بين أقطارنا العربية على مستوى القيم الاجتماعية والسياسية والثقافية والسايكولوجية والروحية ينبغي الحرص على اشاعتها وتكريسها خدمة لبناء شخصية قومية ذات نسيج روحي وقيمي متجانس, في وقت تزداد فيه الهجمة الاسرائيلية شراسة وتتعرض فيه الخصوصية القومية لرياح المسخ ومخاطر ثقافة العولمة. أما المعطى الوطني, فهو ذلك المعطى الذي لم تنتبه لأهميته بعض الدول العربية في غمرة حماستها القومية المشروعة آنذاك للمد القومي والتوجهات الطموح, وهو معطى يتجلى في عدد من المستويات التي ينبغي لأية دولة عربية ان تأخذها بعين الاعتبار, لأن في تنوع هذه المستويات تكمن الشروط الموضوعية لأي بناء واقعي. ان لكل دولة من دولنا مستوى من التطور الثقافي وقدرا من التقدم العلمي لابد من ان ينعكس في وعي شعبها وأفراده, بما يمكن معه تحديد مستوى النبوغ والذكاء والتطور الثقافي والعلمي, فنقول ان المعدل العام لمستوى النبوغ أو التطور الثقافي للفرد في دولة مثل لبنان مختلف عن المعدل العام لمستوى النبوغ أو التطور ثقافيا في دولة مثل اليمن أو ليبيا أو الصومال على سبيل المثال. أما على المستوى الاجتماعي والقيمي فيمكن ملاحظة حقيقة اختلاف بعض عادات أفراد المجتمع العربي من قطر لآخر سواء في شكل ممارساتهم الاجتماعية وأعرافهم وما يترتب عليها من قيم وافكار وطقوس تقود الى ظهور انماط من الرؤية الاجتماعية و(السايكولوجية) المتمايزة وان كان هذا التمايز لا يصل الى حد اختراق الاطر القومية المشتركة ذات الاصول الحضارية الواحدة العميقة في خاتمة المطاف. ولا ريب في ان واقعا كهذا يفرض على اقطارنا العربية ان تسعى الى العمل مجددا بارادة جماعية وبروح المنظومة المؤسساتية لا روح الاقطار والمبادرات الفردية للتنسيق فيما بينها اقليميا او عربيا, بغية خلق ارضية مشتركة لاقامة صرح منهج عربي ثقافي وعلمي مواكب لعصر التطور العلمي المذهل, منهج منفتح على الآخر ومسترشد بخصوصية مكوناتنا الحضارية شرط ان يراعى في كل بلد خصوصيات مستوى ادراك الافراد في المجتمع وطبيعة عاداتهم والوان قيمهم وطقوسهم العصرية البناءة لا التقليدية المعوقة. محاكاة ام استلهام لعل مما يتصل بهذا الامر ما نلاحظه من فشل بعض الدول التي اثرت تطبيق مفردات المناهج الجاهزة لدول اخرى تطبيقا حرفيا ولم تحسن تقدير اهمية اشراك الخبرات الوطنية في الاعداد والدراسة فالمناهج مهما بلغت من مستوى عال ومفردات شاملة وموضوعات طموح, لا يمكنها تلبية احتياجات الواقع الفعلي للطلبة والاشتراطات الموضوعية المتحكمة بالمسيرة العلمية لذلك القطر, والتي لا تعدو كونها محصلة لتداخل عوامل وظروف اجتماعية وثقافية وسايكولوجية واقتصادية مختلفة. ان جل ما يمكن ان تقدمه المناهج الخارجية الجاهزة من خدمات جليلة هو تقديم مناهجها بوصفها نماذج وخططا هيكلية قابلة للافادة والحوار والتفاعل الخلاق معها لتكييفها وفق متطلبات المجتمع ومستويات التطور العلمي والثقافي لافراده, وهو جهد لابد للاطر الوطنية من اخذه زمام المبادرة فيه, نظرا وانتاجا ودراسة ومراجعة كي يأخذ طريقه نحو الاكتمال والانجاز. ويبقى بعد ذلك كله وقبله ان ينجح المجتمع العربي في خلق مؤسسات تعليمية وتربوية ذات تقاليد ديمقراطية في انتخاب الهيئات واللجان التي تتولى الاشراف على المناهج والاعداد لها وتشذيبها ودراستها, والابتعاد ابتعادا مطلقا عن روح المحسوبية والشللية التي تقود الى افدح الخسائر, حين لا تضع الانسان المناسب في مكانه المناسب, لتغلب منطق المصالح وروح المجاملات الشخصية على المصالح الوطنية العليا. ولعل الملاحظة التي تبدو جلية في المناهج التعليمية في عدد من اقطارنا العربية ان اعدادها لا يتم على اساس النظرة الواقعية, اذ نجد انفصاما صارخا بين المستوى العلمي للمناهج المكتظة بآخر النظريات العلمية والمتورمة في عدد صفحاتها وبين المستوى العلمي لافراد المجتمع. ان تغليب مبدأ الكم على النوع في مناهجنا العلمية في المراحل الدراسية من الابتدائية حتى الثانوية ظاهرة شديدة الوضوح, وهي ظاهرة اكسبت هذه المناهج حشوا غير مسوغ وتعقيدا لم تكن المناهج بحاجة اليه, بل انها كان من الممكن ان تكون اكثر فائدة وواقعية وتأثيرا لو هي تحللت منهما واستغنت عن كثير من مظاهرهما. ولعلنا لا نبعد عن الصواب اذا قلنا: ان بعضا من هذه المناهج قد خلق حاجزا سايكولوجيا بين مفرداته وبين دارسيه من التلاميذ تسبب في احداث كثير من مظاهر الكره والنفور والتعقيد وهي مظاهر من شأنها ان تتسبب في تسرب عدد من طلبتنا وعزوفهم عن مواصلة مسيرة العلم, وفي ذلك كله اهدار لطاقات الدولة ومواردها البشرية والمادية فضلا عن تعثر مسيرتها في مجال التقدم العلمي ومواكبة التطورات العصرية. ان من شأن هذا كله ان يفرض علينا الانطلاق من نظرة واقعية تأخذ بعين الاعتبار النوع كقيمة اولية بدلا من الاخذ بمبدأ الكم وايصال المعلومة بأسهل الطرق وأيسرها الى افهام الطلبة وافئدتهم بل لعله قد آن الآوان لان نشرك المناهج السايكولوجية وخبرات اصحابها في كل منهج من مناهج العلوم الانسانية لنفيد منهما في مجال اختيار افضل الوسائل للوصول الى قلب الطالب وذهنه, بدءا بطريقة تغليف الكتاب وتنسيق الوانه ونوع خطوطه وانماط رسومه وحجم حروفه وانتهاء بطرق العرض والمناقشة والتحليل والانتقال من اليسر الى الصعوبة وسوى ذلك من الامور التي نعدها هينة ونتعامل معها تعاملا يغفل تماما الآثار المترتبة عليها فيما يتصل بعلاقة الطالب بالكتاب. تقاليد متوازنة اذا كان صحيحا ان المناهج التعليمية ليست دساتير او نصوصا متحفية يمكن الركون اليها لازمات طويلة وان من واجبنا مواكبة المتغيرات المتحققة في حقل العلوم والمستجدات النظرية التي تظهر في حقول العلوم الانسانية, ان على مستوى المناهج او المفهومات والنظريات فإن ذلك ينبغي ألا يفهم على انه ضرب من ضروب (الموضة) التي يحسن بنا البحث عن حلول جديدة لها بين كل سنتين او ثلاث, كلما طاب لنا نموذج واستمالت افئدتنا اتجاهات او استهوت عقولنا نظرية من النظريات المعاصرة. بل علينا ان نضع ذلك كله ضمن منظور استراتيجي للمراجعة محسوب بالسنوات لما لذلك من خطورة تمس حياة اجيال كاملة من المتعلمين وتنعكس على مستويات ادراكهم وعلى طبيعة تحصيلهم العلمي والثقافي, تراجعا وارباكا وتهويشا, مما لا نتمنى ان يحدث لطلبتنا ومسيرتهم التعليمية يوما ما.

Email