العولمة تفرز نقيضها الثقافي والسياسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

بقلم محمد جربوعة في عددها 990 ليوم السبت 16 اكتوبر 1999 نشرت مجلة (لوفيجارو) الفرنسية مقالا بعنوان (الرجل الذي يقسم العالم) وفي أعلى الصفحة صورة لهايدر وهو يطل من سيارته الفارهة, ويشير باصبعيه اشارة النصر, وقالت الصحيفة في احدى فقرات المقال: (هايدر ليس دكتاتورا متدربا, ولو كان كذلك فإن النمسا الهادئة لا تريده بلا شك) . وقد عزت المجلة آنذاك نجاح (هايدر) إلى أمور موضوعية حين قالت تحت عنوان: (الحزب الأقوى عند العمال) , (من أين أتى هذا التوجه وهذه الرغبة الواسعة في التغيير عند النمساويين؟) ان رؤية الوجوه نفسها في السلطة لم تعد مرغوبة منذ سقوط الشيوعية واندماج النمسا في المشروع الأوروبي, لذلك فإن الذي جاء بهايدر هو (زوال التفرقة بين اليسار واليمين, وتوحد الطبقة السياسية باحساس اللا أمن تجاه المستقبل) ! وفي غمرة التدافع بين مؤيدي (يورج هايدر) ومناوئيه وفي مقدمتهم اليهود وليس فقط اسرائيل كما صرح وزير العدل الاسرائيلي (يوسي بيلين) الذي قال: (انها قضية مبدأ بالنسبة للسياسة الخارجية لليهود وليس فقط لاسرائيل, واسرائيل لها مسئولية خاصة لكونها النظام اليهودي الوحيد, اننا الناجون من محرقة (الهولوكوست) ولا يجب ان ندع قضية كهذه تمضي هكذا, وهذا ما فعلناه في ايطاليا) . في غمرة هذا التدافع جاء السؤال الذي طرحته الكثير من وسائل الاعلام على المفكرين العالميين: لماذا عودة الفكر المتطرف؟ وما تأثير ذلك على الهيمنة الأمريكية وسياسة القطب الواحد؟ في الستينيات تكهن هيربرت ماركوز باختزال الفرد في مظهر نمطي بسيط وموحد هو الامتثال الخاضع للتكنولوجيا أكثر منه للارهاب, وكان النموذج المرسوم يتمثل في الفرد الاحادي البعد أو ما يسميه البعض (الفكر المصفح) وجاءت الثقافة العالمية الأمريكية لتجسيد جزء معين من المنظومة الشاملة للنظام العالمي الجديد القائم على أنسنة الثقافة عبر تنميطها, وبالتالي الغاء الجيوب الثقافية التي يمكن ان تعود بعنف إلى أخذ مكانها في الواقع) . ولكن العولمة كانت قد أحدثت انكسارات اجتماعية وثقافية جعلت القوى الطبقية المسحوقة تواجه هذا التنامي لسلطة الاقتصادي, مثلما ظهر في سياتل و (دافوس) لكن التفاعل الآخر كان تفاعلا جذريا مع الفكر السياسي اليميني المطروح في أوروبا والذي استطاع أمام الانسداد الذي أحدثته العلومة ان يستقطب الكثير من الشرائح المتخوفة من المستقبل. إذ نرى مثلا من مؤيدي هايدر انه استطاع ان يجتذب إلى صفه الانتخابي 47% من العمال و 35% من فئة الشباب التي لم تتجاوز أعمارها 30 سنة. ان العنف الطائفي المتنامي والذي تجاوز الاصطفاف المذهبي التقليدي إلى طائفية اقتصادية وسياسية وثقافية واثنية. ففي الوقت الذي تنادي فيه العولمة بتجسيد (القرية الواحدة) يدفع العالم الى ان ينفجر في عملية تفكك رهيبة جعلت (جون نايزبيت) في كتابه (تناقض العولمة) يؤكد نظرية التفكك الشامل التي ترى ان العالم آيل للانقسام إلى دويلات ووحدات عرقية, وان عدد هذه الدويلات سيبلغ 1000 دويلة في منتصف القرن الحادي والعشرين وقد تفتت بالفعل الاتحاد السوفييتي إلى 15 دولة. ويرى نايزبيت ان هذه البلقنة تخدم محافظة الجماعات البشرية على ذاتيتها الثقافية, لأن هذا التفكك والتموقع الجديد القائم على (الذاتية العرقية أو الثقافية) يعد نقضا لنظام العولمة القائمة على النقض الذاتي لصالح الاقتصاد العالمي الذي يجب ان يكون الوشيجة الوحيدة للشعوب والكيانات والأفراد. لقد دخل العنف المستهدف لبنى العولمة على الخط منفعلا بالعناصر الثقافية والعرقية والدينية الأمر الذي يجعله حسب (رانكوفيتش) عنفا يلعب دوراً تقدميا للأمم, وهذا الطرح قريب من طرح العنف المبرر عقائديا عند الفوضويين بالارتكاز إلى مبدأ النفي الهيجلي, فهل هذا ما أشار إليه ماوتسي تونج في ختام دراسته (الحرب والاستراتيجية) حين قال: (اذا كنت تريد ألا تظل هنا أي بنادق فتنكب بندقيتك) . أمثلة دامية ان تحرك العنف الانفصالي الفكري والواقعي في شتى أرجاء العالم ينبئ عن سقوط مبدأ الديمقراطية الغربية التي ترى العولمة دعمها كخيار لكافة الشعوب, وقد أثبت ما حدث في النمسا ان الشعوب لم يعد لها ذلك الثقل في العمليات الانتخابية, لذلك ظهر مبدأ الحجر عليها, ولهذا يسقط ايمان المبعدين من الطوائف والجماعات التي تستبعدها الديمقراطية الغربية, حيث يسقط ايمانها بالولاء للدولة التي لا تمثل افكارها, لذلك تسعى إلى ايجاد دولة, ولو صغيرة لتجسد فيها ثقافتها التي منعتها الديمقراطية من تجسيدها عبر الوصول إلى الحكم. هذه المعادلة أوجدت العشرات من الحركات الانفصالية التي تريد دولة لثقافتها بعكس طرح الأنظمة التي تريد ثقافة موحدة لدولتها. ففي اثيوبيا يطالب (الأورومو) بالانفصال لتكوين حلم دولة (أروميا) الاسلامية وفي شمال مالي يطالب الطوارق بالاستقلال, وفي جزر القمر يتحرك التمرد لفصل جزيرة (انجوان) , وفي الكاميرون يطالب (الانجلوفون) وهم حوالي 25% من السكان, باقامة كيان سياسي مستقل, وفي انجولا نجد انفصاليي اقليم (كابيندا) وفي رواندا يوجد انفصاليو (الهوتو) وفي السنغال انفصاليو جزيرة (كازامانست) , وفي أوروبا هناك مشكلة ايرلندا وويلز المتجددة والنازية الألمانية التي عبر هيلموت كول عن نجاحها في انتخابات ماضية حين قال: (انه يوم أسود في تاريخ ألمانيا ما بعد هتلر) وفي اسبانيا تحركت في اقليم أو منطقة (الخيدو) ميليشيات عنصرية استهدفت الجالية المغربية اثر مقتل فتاة اسبانية, وفي ايطاليا يشير الملاحظون إلى تنامي حركة المافيا الصقلية, وندراجيتا, وكامورا, والتاج الموحد في باري, كما يشيرون إلى تجدد الفكر اليميني في حركة امارة (سيبورجا) الانفصالية, وفي أمريكا اللاتينية تخلى الرئيس الكولومبي عن منطقة لشبكات الاقتصاد الممنوع. ضد القطب الواحد ان تنامي حركة اليمين في أوروبا يعتبر تهديدا حقيقيا لسياسة القطب الواحد المركزي التي تعتمدها أمريكا ازاء بقية الأطراف ولقد وجدت الجماعات اليمينية في الحركات الساخطة كـ (البيبس) و (البينكس) و(النيووايف) دعما كبيرا لها في حملة شرسة للقيام ضد الواقع المزري. بتبني الذاتية الرافضة للآخر. وقد أشار إلى ذلك اليكس ميلتسيللي في كتابه (الهوية) حين قال: (تؤكد مختلف العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية ان انسان الحضارة الصناعية لم يستطع ان يصل إلى الاحساس بالأثر الوجودي, وهو الاحساس الذي يشكل منطلق الثقة بالنفس, فانسان اليوم يعيش أزمة معاناة وجودية خالصة, وذلك يشكل عمليا المحرك الأساسي لهزيمة الانسان المسبقة: نمو متسارع لاحتياجاته ونمو سرطاني لفردانيته, واحباطاته الدائمة) . ان هذا الاحباط وهذه الفردانية قد أديا إلى ظهور ردة فعل عنيفة جسدتها الحركات العنيفة فكريا في الاطار العالمي سواء كانت دينية أو سياسية أو عرقية وستستفيد هذه الحركات في مواجهتها للعولمة من التململ والسخط الشعبي الذي بدأت معالمة تظهر في التصدي للمؤتمرات الاقتصادية كـ (سياتل) و (دافوس) .

Email