حكاية دكتاتور، بقلم أحمد عمرابي

ت + ت - الحجم الطبيعي

انقسم أهل تشيلي على انفسهم إزاء عودة الدكتاتور المتقاعد أوغستو بينوشيه إلى أرض الوطن: فريق غاضب لنجاته من مأزق قانوني لمحاكمته في اسبانيا وعودته سالما غانما.. وفريق سعيد بهذه النتيجة. ويبدو أن الفريقين متساويان من حيث التأييد الجماهيري العريض وربما كان التأييد الجماهيري لمحبي الدكتاتور اعظم . وهكذا فإن التعامل مع قضية دكتاتور متقاعد لايقل صعوبة وتعقيدا عن التعامل معها وهو على قمة السلطة متمتعاً بقوة مطلقة. نعم.. إن العسكري الانقلابي من نموذج بينوشيه يكون مجرد دكتاتور فرد معزول عن جماهير الشعب في المرحلة المبكرة لحكمه. ولكن كلما استطالت فترة الحكم الاستبدادي كلما تقلصت حالة العزلة مع نجاح النظام بالتدريج في استقطاب شخصيات وتنظيمات وقوى سياسية فالافراد والجماعات يتفاوتون في مدى الاستعداد والقدرة لمقاومة حكم استبدادي قهري, كما يختلفون في اسباب معارضة النظام. ومع استمرار القهر السلطوي تتسع دائرة الاستقطاب بين الجماعات والأفراد.. فيتساقط عدد منهم: يظهر الانتهازيون في النخب المثقفة عارضين خدماتهم على النظام طلبا لمنصب أو ثروة.. ويبرز المترددون من قادة التنظيمات السياسية من غير الملتزمين بمبدأ أو ايديولوجية معينة فيجنحون الى مصالحة السلطة على اساس مساومات سياسية. ومع مرور السنين تستقر عملية الاستقطاب التلقائي على صورة من ثلاثة عناصر رئيسية: فئة الغالبية الجماهيرية التي تنأى بنفسها عن مصادمة النظام ايثاراً للسلامة والعافية مع السعي في الوقت نفسه للاستفادة الذاتية من النظام بتملق رجال السلطة أو تابعيهم.. والفئة الثانية هي شريحة من كبار المثقفين والقادة السياسيين التقليديين الذين تحركهم اما دوافع الانتهازية الواعية أو دوافع اليأس من النضال الشاق. اما الفئة الثالثة فهي شريحة ضئيلة تمثل عادة تنظيما متطرفا مرتبطا بأجندة ايديولوجية صارمة كأن تكون جماعة ماركسية أو اسلامية. وعندما تقع الواقعة ويسقط الدكتاتور يكون حاصل جمع الفئة الثانية والفئة الثالثة أغلبية لا تتحمس لمحاكمته أو تعارضها. هذا المشهد الاخير هو ما نرى اليوم في تشيلي. لقد امتد حكم الجنرال بينوشيه لنحو 15 عاما لم يواجه خلالها معارضة جادة وصارمة إلا من اليسار المتطرف.. وتحديدا الحزب الشيوعي. هؤلاء هم الذين شنت عليهم اجهزة الامن حرباً لا هوادة فيها.. وهؤلاء هم الذين ينتمي اليهم ثلاثة الاف من ضحايا القتل و(الاختفاء) والتعذيب. واذا كان من الممكن ترجمة صورة الاستقطاب الجماهيري التي تبلورت خلال حكم بينوشيه الى ارقام فإنه يمكن القول ان حجم المعارضة الحقيقية اليسارية للنظام لم تكن تحظى بأكثر من 10 في المئة. بكلمات أخرى فإن نحو 90 في المئة من الجماهير التشيلية إما كانت تتعامل مع النظام بدوافع الخوف أو الطمع الانتهازي وإما كانت سلبية لامبالية. هذه الحقيقة هي التي تفسر لماذا لايتوافر الان اجماع جماهيري على محاكمة الدكتاتور بينوشيه. وقبل ذلك يفسر لنا لماذا كان خروجه من السلطة سلسا في اطار مساومة سياسية عقدها معه قادة القوى السياسية التقليدية الذين يمثلون أغلبية الجماهير, فلقد تنحى الجنرال عن السلطة مقابل أن يكون عضواً في مجلس الشيوخ لمدى الحياة, متمتعاً بحصانة برلمانية ضد المحاكمة لمدى الحياة ايضا. ان في تشيلي الان حكومة منتخبة في اطار نظام ديمقراطي تعددي بالمواصفات الغربية. وآخر ما يمكن ان يخطر على بال رجال هذه الحكومة تقديم الدكتاتور بينوشيه الى محاكمة. فهم يعلمون سلفا أن تداعيات مثل هذه المحاكمة سوف تكشف ايضا مسلكهم الانتهازي وتعاملهم المصلحي تجاه النظام البائد. وكيفما تكونوا يولى عليكم!

Email