الثقافة السياسية للتجمع الصهيوني:الصهيونية 1ـــ 3 بقلم ، امين اسكندر

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ ان ظهرت الصهيونية كمشروع فكري.. وحركة سياسية بغرض توطين يهود الشتات في فلسطين وهي تحمل في باطنها مدارس واتجاهات متعددة عبرت عن نفسها في رؤى وبرامج وحركات ومواقف متنوعة، الا ان جميعها انتظمت وراء هدف واحد وغاية واحدة، وهي الصهيونية بمعنى البنية الفكرية المتسقة التي لا تختلف في تركيبها عن الاساطير اليهودية الدينية، وقد تشكلت تلك البنية من الاسطورة الدينية ومن موروث اليهود في الشتات وماقبله، وموروث الشعوب العائشة في البلدان التي احتضنتهم وجمعت شتاتهم، وتأثرت كذلك بحركات التنوير الاوروبية »الهسكلاه«، بالاضافة الى ثقافة الجيتو واللغة العبرية والمؤثرات التي اثرت وتفاعلت معها، لذلك هي افكار تمزج بين القومي والاثني، وبين المقدس والمدنس، وقد جسد ذلك الاطار العقيدي بيئة امتزاج واذابة واندماج، حيث تمتزج الذات مع الجماعة، ويندمج الفرد مع الكل، وتذوب الانا مع الكلية، وتظهر على السطح الذات الجماعية المقدسة (ذات الشعب اليهودي المختار). وبالرغم من تعدد الرؤى والاتجاهات داخل الصهيونية كمشروع يؤسس من اجل تقديم حل للمسألة اليهودية في اوروبا، الا انه يمكن تسكين تلك الرؤى والاجتهادات تحت مدرستين رئيسيتين داخل الصهيونية وهما: 1 ــ الصهيونية السياسية: وهي التي عبر عنها »هرتزل«، وتؤمن بأن العدالة تستوجب حل المسألة اليهودية والتي تختص باليهود غير القادرين على الاندماج، وذلك بأن يصبح اليهود شعبا مثل كل الشعوب، وقومية مثل كل القوميات. وبالطبع تتعدد الاجتهادات داخل تلك المدرسة لتشمل الصهيونية التصحيحية، والصهيونية اللا دينية، والصهيونية الاشتراكية (العمالية) والاخيرة ترى ان المسألة اليهودية هي مشكلة فائض سكان يهود غير قابلين للاندماج، وترجع ذلك الى التركيب الاجتماعي الحضاري لليهود، والذي يختلف عن الشعوب الاخرى المقيمين بين ظهرانيها، ومن هنا تأتي أهمية الارض لهذا الشعب اليهودي. 2 ــ الصهيونية الدينية والثقافية: حيث ينادي اتباعها بعدم الفصل بين اليهودية والصهيونية، حيث يؤدي الفصل الى نهاية اليهودية وفشل الصهيونية، وينقسم اتباع الصهيونية الدينية الى اتجاهين الاتجاه الاول رفض الصهيونية في بادىء الامر ثم ما لبث ان عاد وانضم اليها، والاتجاه الثاني رأى ان الصهيونية السياسية ــ رغم علمانيتها ــ ستساهم بالضرورة في احكام قبضة القيم الدينية على الوجدان اليهودي، وكان من بين رموز ذلك الاتجاه الثاني: الحاخام كالبشر، والحاخام الروسي صمويل موهليفر. وفي عام 1902 تأسست حركة مزراحي تحت شعار »ارض اسرائيل لشعب اسرائيل حسب شريعة توراة اسرائيل« كما تم تلخيص الشعار في »التوراة والعمل«. اما الاتجاه الصهيوني الديني الذي رفض في البدء الصهيونية وعاد وانضم اليها، يتمثل في جماعة (اجودات اسرائيل)، والتي ترى ان اليهود أمة دينية، وليست امة قومية، وانها لا يمكن ان تتحول الى امة بالمعنى الكامل الا بمقدم »الماشيح«، لكنها تحولت عن ذلك وشاركت في عمليات الاستيطان، كما شاركت بممثلين لها في الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة. واخيرا تبقى الصهيونية الثقافية، وهي الفلسفة التي اخذت مكانة بارزة في الفكر الصهيوني، وقد دعا اليها كل من »احاد هاعم« و»مارتن بوبر« وترى الصهيونية الثقافية ان المشكلة تنحصر في الخطر الحقيقي المهدد للاستمرارية اليهودية، والمتجسد في فقدان اليهود الاحساس بالوحدة والترابط وضعف تمسكهم بالقيم والتقاليد: ويخلص »احاد هاعم« الى ان المطلوب ليس ملجأ يهاجر اليه جميع اليهود ليحتموا به من الاضطهاد، وانما المطلوب دولة صهيونية تكون بمثابة المركز الروحي لليهود. وهكذا عبرت الصهيونية عن اتجاهات مختلفة انتظمت جميعها تحت سقف واحد هو الأمة، وقد عبر »موشيه ليلينلوم« عن ذلك قائلا: »ان الأمة كلها أعز علينا من كل التقسيمات المتصلبة والمتعلقة بالأمور الارثوذكسية أو الليبرالية في الدين، عندما يتعلق الأمر بالأمة يجب أن تختفي الطائفية، فلا مؤمنون ولا كفار، بل الجميع ابناء ابراهيم واسحاق ويعقوب.. لأننا كلنا مقدسون«. ويكشف لنا تعليق »رابين« زعيم حزب العمل ورئيس الحكومة الاسرائيلية الأسبق والمقتول على يد أحد أعضاء الصهيونية السياسية والصهيونية الدينية معا »انني مؤمن بالحق التاريخي للشعب اليهودي في العيش على جميع أرض اسرائيل، ولذلك فلا يمكن ان تقام الدولة اليهودية إلا في هذا المكان لأسباب دينية وتاريخية وأخلاقية.. ولست أهتم بسيادة اسرائيل على كل الأرض، لماذا؟ ليس لأن العالم أو العرب يعارضون ذلك، لكني أرغب في دولة يهودية تقررها الحدود، ودولة يهودية يقررها أسلوب حياتها«. ويعلن بن جوريون بكل وضوح تبنيه للأسطورة، أسطورة العودة عندما يقول ان ما يربط بين اليهود ليس الدين اليهودي بدليل ان الحركة الصهيونية فيها يهود متدينون ويهود لادينيون، أي يهود ملحدون لا يمؤمنون بوجود الله، ولا يربط اليهود العنصر الواحد بعد هذا الشتات الواسع بين اليهود في شتى البلاد والقوميات، ولا اللغة الواحدة بدليل ان اللغة العبرية كادت ان تختفي تماما قرونا طويلة ومعظم يهود العالم لا يعرفونها ولا يتكلمونها، ان ما يربط اليهود وجعل تلك الصفات الأخرى كالدين والعنصر واللغة، صفات قابلة لأن تجمعهم من جديد، صفة أخرى أساسية هي رؤيا العودة.. والإيمان بأن الخلاص في العودة إلى جبل صهيون حيث أقام داؤود معبده الأول ــ أي إلى أرض اسرائيل. وهذا يتكشف لنا ان الأسطورة الدينية فاعل رئيسي في تشكيل الصهيونية وتبين لنا ان الصهيونية قامت على التقمص النظامي لليهودية وعناصر أخرى كثيرة، ويهمنا هنا أيضا ان نؤكد ان الصهيونية الثقافية والتي نشأت بين يهود أوروبا الشرقية أواخر القرن التاسع عشر هي بمثابة الاطار الفكري والمرجعية الأصولية لمعسكر السلام الصهيوني، والذي بدأ بالحديث عن التعايش المشترك والدولة ثنائية القومية، وانتهى عند الاعتراف بامكانية قيام دولة فلسطينية ذات علم ونشيد. مما سبق يتبين ان مختلف التكوينات السياسية والتفريعات الأيديولوجية الصهيونية والشرائح الاجتماعية ساهمت بشكل كبير في تشكيل ثقافة سياسية واضحة المعالم، لها مكونات عديدة، ولها غايات محددة، لذلك كانت ومازالت الشخصية الاسرائيلية أشد تعقيدا وتركيبا، وعن ذلك يقول الدكتور حسن ظاظا في مجلة عالم الفكر يناير 1980، تحت عنوان »الشخصية الاسرائيلية« : الشخصية الاسرائيلية أشد تعقيدا، تدخل في تركيبها عناصر شتى، تجمعت في ظروف شديدة التنوع والتباين، عبر مسافات شاسعة بعيدة في الزمان والمكان، حتى أصبح من أصعب الأمور ان يصف الباحث الحدود الخارجية لهذه الشخصية، فضلا عن القسمات الدقيقة، والملامح الجزئية، وصفا ناطقا بحقيقتها، جامعا مانعا مقنعا«. ومن هنا فإن تناول جماعات السلام الصهيوني بالدراسة الجادة يتطلب ان نتناول بالبحث الثقافة السياسية السائدة في الكيان الاسرائيلي الصهيوني والمفردات الداخلة في تشكيلها، وأثر كل ذلك على السلام ومفهومه وحدوده. الثقافة السياسية السائدة في التجمع الاسرائيلي: المقصود بالثقافة المعاني الجماعية التي تخلقها الفئات الاجتماعية وتشترك بها وتعبر عنها بصورة جماعية، وهي أسلوب حياة تتشكل على مر الأجيال، وهي تنبع من الطبيعة الخاصة لشرائح اجتماعية تتعايش مع بعضها البعض، ومن الظروف الحاضنة لهذا التعايش، وتجارب الحياة المختلفة والعلاقات مع الغير، واللغة المستخدمة فيما بينها للتواصل، والتقاليد الموروثة وطريقة وطقوس الايمان والتعرف على المطلق. اذن الثقافة اسلوب حياة ونظرة لها، تتأثر بكافة المتغيرات الحادثة في الواقع المعاش وتؤثر فيه بقوة اما الثقافة السياسية فهي المعاني التي تسبغ الشرعية على المجتمع ككل او على النظام الذي يوزع السلطات والقيم داخل المجتع وتشتمل على اسطورة تتعلق بالمنشأ والاصول التي ينحدر منها الشعب وكيفية خلق الامة وتكوين المجتمع من هنا يتم تأويل التاريخ والوقائع والاحداث كما يتم تحميل الشخصيات القيم المطلوب غرسها في الجماعة وتعميق الانتماء لها وتجذير نموذجها كقدوة ومثل ونموذج ومن كل ذلك وعبره تتشكل الايديولوجيا. وهكذا فإن ثقافة التجمع الصهيوني على ارض فلسطين »اسرائيل« قد صبغت بالشكل السياسي والغرض الايديولوجي الذي يساهم في الحشد والتعبئة، كما انه يشكل الفرد والجماعة ويدفعهما لتحقيق الغرض، لذلك يرى بعض المتخصصين في اليهودية والصهيونية كفكرة وكحركة »ان الثقافة الحقيقية في اسرائيل هي ثقافة الاستيطان«. ويرى د. ابراهيم البحراوي ان الثقافة تعني الرؤية وهو تعريف متصل بمجموعة من التصورات والمفاهيم والقيم التي افرزتها الايديولوجيا الصهيونية لتبرير مشروعها وتوجيه الانسان الاسرائيلي وجهة الهجوم العدواني على الكيان العربي. والثقافة ـــ اي ثقافة ــــ ليست قبة سماوية مقدسة الا انها تحوي المقدس وغير المقدس واليمين واليسار والديني والعلماني والعنصري والانساني، والتقدمي والرجعي وبالتأكيد فإن الثقافة السياسية في اسرائيل مثلها مثل اي ثقافة اخرى تحتوي على تنويعات وتباينات الا انها لا تظهر على السطح لانها مؤطرة مغلفة بالايديولوجيا الصهيونية اي انها اختارت طريقا تعبر فيه عن نفسها ويحقق لها غرض وجودها ويوظف لها كل المفردات المشكلة لتلك الثقافة لصالح مشروعها السياسي. هذا بالاضافة الى ان هذا المشروع تعبير عن استعمار استيطاني احلالي عنصري، اقام نفسه مستندا على مجموعة مفاهيم اسطورية عنصرية مثل شعب الله المختار، و »الارض الموعودة« »والحق الالهي« و »الوعد الالهي« الخ، وقد تم اعمال تلك الشعارات على الارض الفلسطينية بطرد اهلها واستعمار الارض واستيطانها وتشريد اهلها عبر المذابح والمجازر المشهورة والمسجلة في التاريخ وباعترافاتهم في مذكرات قادتهم. من هنا لاتستطيع العين العربية ان تميز تبيانات الرؤى الثقافية تلك لان الكل مشترك في الاستعمار والاستيطان والتهويد والترحيل القسري والمذابح فالكل صهيوني. وقد شكلت رؤى الحركات الصهيونية المختلفة رؤى شمولية كونية، حتى تستطيع ان توظف ذلك لصالح حركتها ورؤيتها فهناك الصهيونية العلمانية الاشتراكية الديمقراطية الاممية التي عملت من خلال حزب العمل على بناء الدولة والاستيطان والتوسع والترحل القسري وهناك التصحيحيون اتباع »جابوتنسكي« الذين رفعوا شعار الحديد والنار، وتبنوا العنف في تأسيس اسرائيل ونادوا بالحرية الفردية والتجارة الحرة، وهناك من يرى اسرائيل ومن عليها من يهود صهاينة هم شعب الله الذي عليه ان يطبق كل ماجاء في التوراة ويعمل من اجل مجيء »الماشيح«. كل حركة تنظم المقولات والمفاهيم الموروثة والمستجدة حسب رؤيتها وحسب فائدتها لاهدافها واغراضها لذلك كان »وايزمان« محقا عندما قال الشيء الوحيد الذي يتغير بصورة جذرية للغاية في اسرائيل هو الماضي. ويقدم لنا د.حامد ربيع في كتابه »من يحكم في تل ابيب« تفسيره طبيعة العلاقة الايدلوجية والمصادر الفكرية للتقاليد الصهيونية قائلا: تقاليد الحكرة الصهيونية النظامية تنبع من طبيعة عملية الالتقاء بين المواطن اليهودي الاوروبي والحركة الصهيونية.. فاليهودي الذي اقبل علي الانتماء للصهيونية هو مؤمن اولا بالدعوة الصهيونية، وقابل ثانيا بإرادته الحرة المختارة بتلك الدعوة ومن ثم فإن ذلك اليهودي الصهيوني لاينظر فقط الى الصهوينية على انها علاقة ارادية ايديولوجية بل انه متعصب في انتمائه يذكرنا ذلك بحقيقة الفارق بين الرأي والسلوك. ومن هنا تبدو لنا اهمية تناول العناصر التي تشكل الثقافة السياسية السائدة في التجمع الاسرائيلي الصهيوني وهي عناصر متعددة وروافد ثابتة ومتغيرة في ازمان مختلفة، كان في كل منها ثابت ومتغير ثابت تم الحفاظ عليه عبر الاطار الايديولوجي، ومتغير تعرض للدولة وتفاعل معها. وتأتي اهمية تناول تلك العناصر الرئيسية المشكلة للثقافة الصهيونية بالتشريح العلمي والموضوعي من الكشف عن تأثيرها في ثقافة الفرد والجماعة الصهيونية وبالتالي في التعرف على ثقافة جماعات السلام الصهيونية وحقيقة دوافعها ومدى عمق تناولها وايمانها بقضية السلام مع العرب، وعلى اي اساس سوف يتم التعايش وفرض السلام، وماهو حدوده. وسوف نتناول في مقالاتنا القادمة العناصر الرئيسية لتشكيل تلك الثقافة.

Email