دبابة لكل مستوطن، بقلم: د. محمد خالد الازعر

ت + ت - الحجم الطبيعي

كل انماط السلوك الاسرائيلي مع المحيط الاقليمي العربي, اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا, تمثل تطبيعا حرفيا لمقولات نظرية الاستعمار الاستيطاني. ومن ثم لا يستهجن هذه الانماط ويرهقه تفسيرها, الا من تعوزه معرفة هذه النظرية . فالكيانات الاستيطانية تأبى تماما الا ان تقوم وتبقى على اساس التميز في محيطها الاقليمي على جميع الصعد وهي تنظر إلى عمليات التساوي مع ـ او التقهقر عن ـ المستويات التي تعيشها قوى هذا المحيط كمؤشرات تنذر بالخطر على حياتها ووجودها ذاتيهما. يتصور المستوطنون انهم يتأبطون رسالة ما, وان عليهم نشر هذه الرسالة في الاقاليم التي ينتقونها لوضع رحالهم. فكرة رسالة الرجل الابيض لتحضير الاخرين وتمدينهم معروفة في هذا السياق. لكن الصهيونية اضافت من عندياتها ابعادا دينية لرسالتها المزعومة, واحالت مشروعها الى وعود سماوية تخرج عن طاقة البشر. في غير فلسطين, انتهت هذه المزاعم اما باستئصال القوى المحيطة, كما حدث في امريكا الشمالية واما بسيطرة المستوطنين على المجتمعات الاصلية واما بعزلهم, كما حدث في استراليا, واما بمحاولة الاندماج في المجتمع الاصل مع الحفاظ على خاصة التميز والقبض على زمام مصادر القوة والهيمنة, كما الحال في امريكا الجنوبية او حتى ايرلندا الشمالية. ويتوقف نجاح المستوطنين في تمرير رؤيتهم للعلاقة مع المجتمعات الاصلية ومحيطها الاقليمي على عوامل محددة.. كعدد المستوطنين مقارنة بالمحيطين والمستوى الحضاري للمجتمعات الاصلية وصلة المستوطنين بمجتمعاتهم الام, والمدد الذي يتوفر للغزاة المستوطنين مقارنة بالمجتمعات والاماكن المقصودة بالاستيطان. ولعل هاجس الامن الذاتي للمستوطنين وكياناتهم السياسية, هو اهم المعالم المحددة لتعاملهم الاقليمي فالكيانات الاستيطانية تستمد في مراحلها الانشائية الاولى شعورها بالأمن والتفوق العسكري من صلتها بالمجتمعات الام, التي تتولى رعايتها وتتكفل بحمايتها لكن ما ان يشتد عودها ويستوي حتى تحاول صيانة امنها بارادتها الذاتية ما امكنها ذلك. ولا يصعب تعليل ملازمة قضية الامن والتوجس من المستقبل الامني لدى هذه الكيانات لفترة غير معلومة.. اذ يرتد هذا الحرص الى استشعار المستوطنين لجريمتهم الاولى, وخشيتهم الدفينة من استنفار المجتمعات الاصلية, مدعومة بمحيطها الاقليمي, للانتقام واسترداد الحقوق, والثابت من نماذج هذه الكيانات ان عقدة الذنب والمخاوف مما يحمله اليوم التالي, تظل تلاحق المستوطنين جيلا بعد جيل يتوارثها الاحفاد عن الاجداد. لا سيما ان كانت المجتمعات الاصلية قد ظلت قيد الحياة واحتفظت بذاكرة حية قوية, او كان المحيط الاقليمي للكيانات الاستيطانية يرتبط بأرومة او رابطة ما مع هذه المجتمعات. من وحي هذه النماذج نستطيع ان نقدر اي نوع من الدوافع تحث الكيان الصهيوني على اعلاء شأن الامن وقتي السلم والحرب واللاسلم واللاحرب. ففي التجربة الاستيطانية الامريكية الشمالية والاسترالية, ثم حل قضية الامن تحديدا باستئصال المجتمع الاصل وابادة ابنائه عن اخرهم تقريبا. وفي امريكا الجنوبية كادت المجتمعات الاصلية ان تختفي بالتهجين والتزاوج مع المستوطنين. وفي افريقيا الجنوبية توصل المستوطنون البيض الى تسوية مع الافارقة بعد صراع مرير. الامر بالنسبة للكيان الصهيوني مختلف فموقع هذا الكيان في فلسطين غير مناسب لنجاح احد الحلول المذكورة اذ ان حملات الابادة والتشريد لم تقض على الشعب الفلسطيني, وهو شعب ينتمي لقومية عربية ترفده بعمق حضاري وسكاني تعز السيطرة عليه من المستوطنين الصهاينة المحددين بسقف سكاني لا يستطيعون تحديده بسهولة, وهذه خصائص تحول دون حل الاستئصال الكامل الذي جرى مع هنود امريكا الحمر او الشعب الاصل في استراليا. ومن ناحية اخرى, فان الانعزالية الصهيونية اليهودية كملمح مميز للمستوطنين الصهاينة, تمنعهم عن الاختلاط والاندماج في المحيط العربي. مما يعقد حل الاندماج والذوبان الذي نجح مع الاستيطان الغربي في امريكا الجنوبية, كما ان الرغبة المشبوبة في الاستئثار بفلسطين كدولة يهودية, وعدم القبول الصهيوني بالحل الديمقراطي للصراع مع المجتمع الفلسطيني او العربي عموما, عطل ولا يزال الحل السلمي المشابه للحالة في جنوب افريقيا. في اطار هذه المعضلات يعض الكيان الصهيوني على منطق التفوق العسكري بالنواجذ, ونراه يمعن في تضخيم قضية امنه الذاتي الى حد الهوس, وتتفاقم لديه هذه القضية كلما تذكر الصهاينة حقيقتين: الاولى: قدرة المنطقة العربية الاسلامية على دحر الوجود الاستيطاني الافرنجي ذات يوم, حين استجمعت هذه المنطقة قواها. الثانية: ان الرابطة القومية الدينية بين الفلسطينيين ومحيطهم الاقليمي تستدعي توسيع نطاق المواجهة مع الوجود الاستيطاني الصهيوني, ومن ثم يرى الكيان الصهيوني (اسرائيل) ان مراكمة القوة امر ضروري لحياته في هذا المحيط. ولهذا بالذات, فان مطالب هذا الكيان الامنية ستظل بلا حدود, وعندما نراجع قوائم مطالبه المزمنة حتى في غمرة العملية السلمية او محاولة التسوية مع الفلسطينيين والعرب نراها تزدحم بمصادر القوة والمنعة العسكرية: صواريخ ودبابات وطائرات واجهزة رادار واستشعار وغواصات...الخ. ولأن الاستقواء بالتسليح لا يوفر الامن النفسي بالمطلق, وليس من شأنه سوى مفاقمة سباق التسلح مع المحيط العربي, وايضا لان اية مراكمة للسلاح والعتاد لها سقف وقاع, لا يمكن اختراقهما بالنسبة لاي مجتمع, لهذا ولغيره, لا نحسب ان توفير دبابة لكل مستوطن صهيوني يمكن ان تطمئن الكيان الصهيوني الى مستقبله.. وتقديرنا, ان اتجاه مستوطني هذا الكيان للبحث عن موادعة سلمية عادلة حقيقية مع العرب هو افضل لهم بكثير من التداوي امنيا بالسلاح والخوف والتربص, ألا يلاحظ هؤلاء انهم الاقل احساسا بالامن مقارنة بكل يهود العالم!؟

Email