ليلة التنكيل بالبروفيسور، بقلم: محمد الخولي البروفيسور روبير فوريسون اسم تقرأه فتلاحظ للوهلة الأولى أنه مركب من إيقاع فرنسي ثم إيقاع إنجليزي. والملاحظة صحيحة ومردها أن الرجل من مواليد إنجلترا ومن مهاجري فرنسا وهو يحمل الجنسيتين الإنجليزية والفرنسية وقد اتخذ سكنه في منطقة فيشي في فرنسا فيما اتخذ مهنته أستاذا لكرسي التاريخ والعلوم السياسية في جامعة السوربون العريقة في باريس

ت + ت - الحجم الطبيعي

. وربما ظلت الريح تمضي رخاء في شراع الأستاذ روبير فوريسون طيلة العقدين اللذين شغل فيهما كرسي الأستاذية المرموق, إلى أن جاء عقد التسعينيات من القرن الماضي حين وجد هذا الأكاديمي البارز نفسه مبعدا عن جامعته وعن تلاميذه وعن نشاطه الفكري والبحثي التي تدخل في عداد الجرائم أو الخطايا أو الكبائر كما قد نقول. ما هي إذن الخطيئة الشنيعة التي ارتكبها الأستاذ روبير فوريسون حتى أبعدوه عن كرسي الأستاذية في كبرى جامعات فرنسا؟ الجواب: أن الرجل ارتكب أمرا إدا, لأنه تجاسر وهو العالم المحقق على التشكيك في جوانب, بعض جوانب, رواية الهولوكوست. مجرد شك والمعنى أن البروفيسور الفرنسي لم يرفض حدوث جريمة اضطهاد اليهود ولا غيرهم في معسكرات الاعتقال أو التجميع التي نصبها النازي خلال حقبة الحرب العالمية الثانية, وكل ما فعله الرجل بوصفه باحثا في علم التاريخ السياسي أنه أصغى إلى صوت ضميره العلمي ثم أعلن رأيه في أن حكاية المحارق الهولوكوست يشوبها قدر لم يطمئن إليه ضمير الأستاذ من المبالغة أو طمس الحقائق أو الالتباس أو الخلط أو الاختلاق. ملف الدعوى ونحن نكتب هذه السطور وبين أيدينا ملف الدعوى التي رفعها البروفيسور روبير فوريسون أمام اللجنة الدولية لحقوق الإنسان وتاريخ رفع هذه الدعوى هو 8/12/1996 وقد جاء في سطور الدعوى ما يلي: إدراكا من المدعي لما تتسم به جريمة الهولوكوست من أهمية تاريخية, فقد عقد العزم على أن يتحصل على القرائن الدالة على استخدام وسائل وأساليب بعينها لقتل الأفراد وبخاصة ما يتعلق بخنقهم في أفران الغاز, ومع أن المدعي لا ينكر (كما استبان له من خلال البحث العلمي) ما تم من استخدام الغاز لأغراض التعقيم (التطهير من الجراثيم) فأنه يشك في أنه كان هناك وجود من الأساس لأفران غاز استخدمت من أجل إبادة البشر سواء في معسكر أوشفيتز أو في غيره من معسكرات الإعتقال التي أقامها أعوان النظام النازي. تهديدات بالموت انك حين تتصفح ملف القضية التي نشير إليها فأنت ترى بيقين كيف أن القوم في فرنسا نصبوا هولوكوست من نوع خبيث وجديد لهذا الأستاذ الذي لم يجن شيئا ولا اقترف ذنبا إلا أنه قال أنه يشك, مجرد الشك في مقولة الهولوكوست. لقد أعلن رأيه العلمي هذا عام 1978 وظل على امتداد سنوات عدة هدفا كما قال في سطور دعواه لرسائل ومكالمات هاتفية هددته بالموت, ناهيك عن تعرضه وهو الأستاذ معلم الأجيال الذي شارف السبعين للتهجم والإعتداء البدني ثماني مرات, وهو يعيش كما هو مفترض في مجتمع متحضر ولا يقيم في غابة سكان أصليين في أدغال استراليا أو غابات الأمازون, كما أنه أحاط اللجنة الدولية لحقوق الإنسان بما لقيه من عنت أدبي وتشهير معنوي حين عمدت صحف كثيرة في فرنسا وخارجها إلى تسفيه آرائه بل حين تخلى عنه كثير من الرفاق الباحثين والعلماء المنتمين إلى الأوساط الأكاديمية. ونضيف في معرض تعليقنا متسائلين في هذا السياق: كيف لا يتخلون عن زميلهم وقد عمد أصحاب النفوذ اليهودي الصهيوني في فرنسا وخارجها إلى جعل زميلهم البروفيسور عبرة وأمثولة ورأس ذئب كما يقول المثل السائر لمن تسول له نفسه أن يعرب عن مكنون ضميره خاصة إذا مس في هذا شعرة في يهودي أو مشاعر صهيوني. ونحسب أنه ليس في الأمر مبالغة وإلا فانظر وتأمل تصريحات رئيس وزراء فرنسا الأخيرة التي أقامت العالم العربي ولم تقعده حين عمد وهو السياسي المحنك المسئول عن مقاليد دولة كبرى إلى قلب الحقائق فكان أن وصف المعتدي الإسرائيلي بالضحية المجني عليها فيما دمغ مقاتلي المقاومة اللبنانية المدافعين عن وطنهم ضد الإحتلال بانهم إرهابيون. ورغم أن القوم في فرنسا وفي الغرب صدعوا رؤوسنا بشعار سيادة القانون, فالذي حدث أن الأستاذ روبير قدم عشرات الشكاوى بصدد ما تعرض له من اعتداءات إلى سلطات الشرعية و إنفاذ القانون في بلاده, لكنها كما قال في دعواه التي أشرنا إليها لم تجر في أي شكوى منها تحقيقا أصوليا جادا, فلا أوقفت جانيا ولا لاحقت معتديا ولا وجهت اتهاما إلى إنسان. صدور قانون مخصوص بل من العجب أن يحدث العكس تماما, لقد وضعت قضية البروفيسور روبير فوريسون تحت الأضواء.. وبدلا من أن تخف السطات إلى حماية الرجل وصون حقه المشروع في البحث الأكاديمي والتحقيق والتمحيص التاريخي, إذا بالجمعية الوطنية برلمان فرنسا الذي يتيهون به على خلق الله بحكم تاريخه الطويل منذ ثورة فرنسا الكبرى عام 1789 تجتمع وتتناول موضوع الهولوكوست بالبحث على ضوء الملابسات التي ارتبطت بقضية البروفيسور روبير فوريسون, وبدلا من إنصاف الرجل أو بالأدق الانتصاف لحرية ونزاهة البحث العلمي أو مشروعية الشك الأكاديمي (لا تنسى ـ عزيزنا القارئ ـ أن الثقافة الغربية الهيلينية في فرنسا وغيرها من أصقاع أوروبا تجيز الشك في أمور العقائد الدينية بل والرسالات السماوية بدعوى البحث العلمي), نقول بدلا من هذا كله فقد أصدرت الجمعية الفرنسية في يوليو 1990 وثيقة تشريعية في غاية الغرابة والخطورة في آن معا وتحمل العنوان التالي: (قانون جايسون) وبمقتضى القانون الجديد تم تجريم وتأثيم أي فعل بالقول أو الكتابة أو ما إليهما يؤدي إلى فئة الجرائم التي جرى على أساسها محاكمة زعماء النازي أعوان أدولف هتلر في نورمبرج عام ,1945 ومنها ما أسموه جرائم إبادة الجنس أو إبادة البشر وقد حمل بعضها صفة الهولوكوست. هنالك ظل السيد فوريسون أستاذ السوربون السابق المطرود يشد ما تبقى من شعر رأسه وكان أن جلس إلى مكتبه ليودع ملف دعواه أمام لجنة حقوق الإنسان سطورا قال فيها: ان قانون جايسون المذكور أعلاه يؤدي إلى الإرتقاء بأحكام محكمة نورمبرج إلى مصاف العقيدة ويفرض عقوبات جنائية على من يجسر على تفنيد أو دحض ما خلصت إليه تلك المحاكمات من نتائج وما توصلت إليه من اجتهادات أو افتراضات.. وأنا شخصيا (الأستاذ فوريسون) عندي من الأسباب ما يحملني على الاعتقاد بأنه حتى الأدلة التي استخدمت أيامها بحق قادة النازي أدلة مشكوك في صحتها من ناحية, وهذا الشك يصدق أيضا, في رأيي على عدد الضحايا الذين قيل أنهم تعرضوا للإبادة في معسكر اعتقال أوشفيتز. ثم أنني كأستاذ جامعي وباحث أكاديمي أرى أن قانون جايسون يشكل تهديدا لحرية البحث العلمي وافتئاتا على حرية التعبير. ماذا قال البروفيسور ؟ طبعا, من جانبها عمدت دوائر الصهيونية وأعوان إسرائيل في فرنسا إلى حشد قواها لملاحقة الرجل وتمثلت هذه الملاحقة في قضايا رفعوها ضده أمام المحاكم الفرنسية, وما كان من المحاكم إلا أن اصدرت أحكامها بإدانة البروفيسور المسكين.. لماذا؟ لأنه قال: أيها السادة لن يجعلني أحد أسلم بأن أثنين وأثنين يساوي خمسة.. أو أن الأرض مسطحة وليست كروية أو أن محكمة نورمبرج كانت منزهة عن الخطأ. ولأنه قال أيضا: أرجو أن أعيش لأشهد اليوم الذي يدرك فيه جميع الفرنسيين أن حكاية الغاز (في محارق الهولوكوست التي راح ضحيتها ملايين اليهود) لا تعدو أن تكون حديث خرافة ناجما عن تلفيق يفتقر إلى النزاهة وقد اصطنعته ودعمته الدولة المنتصرة بعد أن وضعت الحرب أوزارها في منتصف عقد الأربعينيات. وكان من الطبيعي ألا تكتفي المحاكم الفرنسية بأحكام الإدانة وربما شعرت بالرأفة إزاء السن المتقدمة للأكاديمي المدان فلم تسقه ـ كثر الله خيرها ـ إلى غياهب السجن, ولكن اكتفت بغرامة حكمت عليه أن يدفعها من دم قلبه ومن ثم كان مفروضا عليه وهو المطرود من وظيفته التي يتكسب منها أن يدفع من الفرنكات الفرنسية ما يعادل أكثر من 3 ملايين من دولارات الولايات المتحدة. من ناحية أخرى, نظرت اللجنة الدولية لحقوق الإنسان في الدعوى أو الشكوى المرفوعة من الأستاذ فوريسون وأصدرت قرارها المبدئي بصدد ما وصفته بأنه (مقبولية الدعوى) .. ولما كان الرجل قد اختصم دولة طرفا في صكوك حقوق الإنسان والمواثيق الدولية المتعلقة بها, فقد اقتضى الأمر أن تقدم الدولة المذكورة فرنسا في هذا السياق آراءها التي بررت بها صدور قانون جايسون إياه فكان أن أوضحت أنها عمدت في عقد الثمانينيات الماضي إلى إصدار تشريعات لمكافحة العنصرية مستهدفة أمورا شتى منها كما قلت ملاحقة ومعاقبة كل من يهون من شأنه جرائم النازية خلال الحرب العالمية الثانية, لكن استجد في عقد التسعينيات عامل آخر تجسد في نشوء مدرسة فكرية أو هو تيار أو اتجاه بحثي يحمل شعار المراجعة أو التنقيح التاريخي و مؤداه أن يقوم الباحثون بإعادة فحص الطروحات التي ظلت موضعا للتسليم دون تمحيص كاف أو تدقيق وهي عملية من الممارسة العلمية التي تليق بالبحث الأكاديمي وكان ينبغي أن يكفل لها كل أسباب الحماية أن لم يكن دواعي التشجيع والمؤازرة باعتباراها مفضية إلى الحقيقة حسب الاجتهاد البشري في التحليل الأخير. خطيئة معاداة السامية ويبدو أن المسألة كان ينطبق عليها القول البليغ المأثور: كلمة حق يراد بها باطل.. وهكذا تحول الأمر من مكافحة العنصرية وتأثيم المناداة بها قولا أو سلوكا, إلى مجال آخر هو ما وصفوه بأنه مكافحة اللاسامية ومن ثم تأثيم و تجريم أي نزعة يصدق عليها شعار معاداة السامية وهو شعار مرادف تماما في العرف الغربي لكراهية اليهود, فضلا عن أن اليهود وليس غيرهم يعمدون وقد فعلوا إلى رفع درجة حرارة هذا الشعار وإمداده بكل أسباب الحمى والإبتزاز والإرهاب إلى حيث يصبح معناه عدم المساس بمصالح اليهود مشروعة وغير مشروعة وعدم التعرض لمخططات الصهيونية مهما بلغت من الخبث وسوء الطوية.. وهكذا أفضى الأمر كما أوضحت فرنسا في مذكرتها المرفوعة أمام لجنة حقوق الإنسان إلى أن الشارع (واضع القانون) الفرنسي ظلت تراوده هواجس إزاء ما يقدم عليه أفراد نصبوا أنفسهم بوصفهم مؤرخين, وتمادوا في بحوثهم القائمة على المراجعة والتنقيح وإعادة النظر, فكان أن أنكروا وجود الهولوكوست وهو ما رآه المشرع والحكومة الفرنسية صورة مستترة من صور معاداة السامية التي استوجبت تشريعا جديدا من أجل تأثيمها, فكان أن صدر قانون جايسون المذكور أعلاه. قرار اللجنة الموقرة أخيرا تمكنت اللجنة الدولية لحقوق الإنسان من تدارس القضية بجوانبها المختلفة وعلى ضوء الدفوع التي قدمها البروفيسور فوريسون من جهة وقدمتها دولة فرنسا من جهة أخرى. فهل تريد أن تعرف نوعية الحكم الذي توصلت إليه اللجنة الدولية الموقرة؟ لقد رأت اللجنة في الشكوك التي أعرب عنها الأكاديمي الفرنسي أو الإنجليزي, سيان, بشأن حدوث الهولوكوست تعديا على حقوق وسمعة الآخرين ومن ثم لم تجد أي غبار على ما ذهبت إليه المحاكم الفرنسية, على اختلاف درجات التقاضي من إدانة الباحث المؤرخ وتغريمه طائل الفرنكات, بل ولم تر اللجنة في قانون جايسون الصادر لإدانة كل من تسول له نفسه التشكيك في حدوث الهولوكوست ومن ثم كل من يحاول الجدل فيما رواه اليهود بشأن محارق النازي (وبالتالي فيما طلبوه ومازالوا يطالبون به من تعويضات واعتذارات) لم تر اللجنة الدولية في هذا القانون أي تعارض مع حرية التعبير ولا أي حجر على ممارسة البحث العلمي ولكنها رأت أن القانون المذكور كما قالت اللجنة في قرارها الأخير يتسق مع أحكام النصوص والصكوك والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. هكذا خسر الباحث السوربوني قضيته وأصبح عبرة للآخرين. ولله الأمر من قبل ومن بعد. (وكان من الطبيعي ألا تكتفي المحاكم الفرنسية بأحكام الإدانة وربما شعرت بالرأفة إزاء السن المتقدمة للأكاديمي المدان فلم تسقه ـ كثر الله خيرها ـ إلى غياهب السجن, ولكن اكتفت بغرامة حكمت عليه أن يدفعها من دم قلبه) .

Email