التسامح .. قيمة تكتسب ولا تورث ، بقلم: عمران سلمان

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتابع الاوساط اللبنانية بخوف وتوجس كبيرين مسلسل الاعتداءات المتكررة على الكنائس المسيحية في شمالي لبنان, وهي اعتداءات يقول المسئولون اللبنانيون ان هدفها هو توتير العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في هذه المنطقة, ملمحين إلى دور اسرائيلي في التفجيرات, ونحن نتمنى ان يكون الامر هو كذلك فعلا ايا يكن الحال فالمسألة تصلح كفرصة للحديث عن التسامح بين الاديان والمذاهب باعتباره امرا حيويا لاستقرار المجتمعات ودليلا على تعافيها. ان الامر المهم في هذا الموضوع هو ان التسامح كقيمة ليس معطى جاهزا, فهناك كم هائل من النصائح والمواعظ والافكار التي تحث على التسامح وتدعو اليه. لكن المشكلة دائما هي في كيفية تحويل هذه النصائح والافكار إلى واقع عملي ينهجه الناس وهم مقتنعون به فعلا, بمعنى آخر كيف يشعر الناس بان التسامح مفيد لهم, وانه ضرورة لابد منها. من اسف نقول بان الانسان في العادة لا يتعظ الا من خلال التجارب, والقاسية منها تحديدا, ولا يزجى معه النصح الا حين يشعر أو يقتنع في قرارة نفسه بان بدائل التسامح, وهي التعصب والحقد تضره, واكثر بكثير من التسامح نفسه, حينها يبدأ في التفكير والتدبر في الامر بصورة ملية. ثم يأخذ هذا التفكير شكل القوانين والمؤسسات التي تدعم وترقي فكرة التسامح وتحولها مع الوقت إلى سلوك معاش. ان التجارب المضيئة في التسامح ـ في بعض البلدان ـ والتي نتغنى بها اليوم, ليست سوى ثمرة لتجارب شعوبها, ان الحروب الدينية التي خاضتها اوروبا في منتصف الالفية الثانية ثم الفظاعات التي نتجت عن الحربين العالميتين الاولى والثانية, لاسيما تلك المرتكبة ضد اليهود (الهولوكوست) وغيرهم من الاجناس, قد اوجدت الظروف الحاسمة لتحويل التسامح إلى قيمة اساسية واحد اعمدة النظام القيمي والقانوني في المجتمعات الاوروبية, وباتت نزعات التمييز والعنصرية تحارب بقسوة وبكثير من عدم الرحمة. مع ذلك فطالما ان التسامح قيمة مكتسبة فان العدول أو الرجوع عنها يظل احتمالا واردا باستمرار, ونحن نرى في كثير من المجتمعات التي عانت جراء غياب التسامح في حياة افرادها وبين كتلها الاجتماعية, تعود فتظهر في صفوفها دعوات ونزعات عنصرية تطالب باقصاء الاخر, بل حتى في منطقتنا العربية يوجد نموذج دال في هذا المجال الا وهو السودان. فهذا البلد الذي تميز طوال عقود مضت بقدرته العجيبة على اقامة التسامح بين مختلف الطوائف والاديان والاعراق والاثنيات, لم يمنع الرئيس جعفر نميري في اواخر سنوات حكمه من اعدام زعيم الجمهوريين محمود محمد طه, وهو في السبعين من عمره بسبب آرائه وافكاره الصوفية. بل لم يكد عقد الثمانينيات يتم حتى كان انقلاب الفريق عمر البشير اواخر يونيو ,89 ومن ثم يفرض على السودان نظاما شموليا, فاشي النزعة, من بين ضحاياه, بل من بين اهم ضحاياه هو التسامح الذي طبع حياة السودانيين. ومن ثم فالسؤال المهم هو ما هي الشروط التي تتضاءل في ظلها قيمة التسامح, وبدلا منها ينشط التعصب والكره والتنافر بين الاديان والمذاهب المختلفة؟ ان هذه ا لشروط يمكن اختصارها في بضع كلمات قليلة هي الافتقار إلى الامان أو الطمأنينة, وانعدام العدالة وغياب نظام الفرص المتكافئة. ان شعور الانسان ـ أي انسان ـ بانه غير آمن في حياته أو معيشته, يدفعه إلى الوقوف موقفا سلبيا مما يعتقد انه مصدر التهديد بالنسبة اليه, لا فرق في ذلك ان يكون هذا الشعور حقيقيا أو وهميا. ثم يتحول الموقف السلبي إلى مشاعر كره ونفور, سرعان ما يتطور, مع توافر عوامل وظروف ملائمة, إلى اعمال عنف غوغائية. ان الجماعات العنصرية اليوم في بعض دول اوروبا, تنطلق في عدائها واعتداءاتها ضد المهاجرين الاجانب, من شعورها بان هؤلاء يستحوذون على فرص العمل المتوافرة, كما يستحوذون على الخدمات التي تقدمها مجتمعاتهم. وفي ظل تفاقم مشكلات البطالة وبروز مصاعب اقتصادية وعدم الشعور بالامان, تتحول اعمال العداء تلك إلى اعتداءات وجرائم مروعة بحق الاجانب. ان كثيرا من الناس يشعرون احيانا بالاستغراب لانهم يستهدفون أو يزج بهم في مشكلات لا علاقة لهم بها, وهم محقون في ذلك تماما, انهم لا يعرفون بانهم قد يكونون مجرد ضحايا لاعمال هستيرية. فالغضب الناتج عن الشعور بعدم الامان, يدفع هذا الانسان إلى التنفيس عن غضبه بأية طريقة متاحة, وهو لا يعبأ في معظم الاحيان بالاثار الناجمة عن ذلك, المهم لديه هو كيف يوصل رسالة الاحتجاج المكبوتة بداخله. وما ينطبق على مسألة الامان الاجتماعي والمعيشي ينطبق كذلك على العدالة والتكافؤ في الفرص, أو ما يمكن ان نعبر عنه بمفهوم المواطنة. الواقع انه في الدول التي لا تعير هذا المفهوم اية اهمية, ولا تحرص على تحقيقه بصورة من الصور, فانها تعاني من مشكلات وقلاقل اجتماعية دائمة, ناتجة عن التنافر المستمر والحاد احيانا بين المستفيدين والمتضررين من مثل هذه الاوضاع, خصوصا حين يكون المتضررون هم السواد الاعظم من الناس. فالناس الذين يعيشون في رقعة واحدة من الارض وينتمون إلى دولة واحدة, من الصعب ان يتقبلوا معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية, أو يحال بينهم وبين ممارسة حقوقهم السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية أو الدينية على اي نحو من الانحاء. لذلك فانه ليس المهم ان نحث على التسامح أو نعتبره قيمة حيوية ومطلوبة, فهذا كله معروف ومؤكد. المهم ان نخلق الظروف الطبيعية التي تجعل بالامكان تجسيده في الواقع العملي, وبصورة تجعل الناس تقتنع بوجوده فعلا ومن ثم بفائدته وقيمته في حياتها.

Email