اندونيسيا.. الجمع بين الاخوة الأعداء، بقلم عبدالكريم محمد

ت + ت - الحجم الطبيعي

بقدر ما كانت الأوضاع الاندونيسية صعبة ومعقدة, تنذر بالكثير من المتغيرات والمفاجآت, خاصة بعد النتائج المخيبة للآمال التي منيت بها اندونيسيا, فيما يتعلق بأمنها القومي, والمتمثلة بسلخ جزيرة تيمور الشرقية, والمترافقة مع رزمة الأزمات التي تجتاحها من الداخل, بذات القدر جاءت نتائج الانتخابات لتبعث على الراحة والطمأنينة لصانعي القرار السياسي من كلا الاتجاهين العسكري والسياسي. فقد شكل الرئيس الشيخ عبد الرحمن وحيد نقطة الالتقاء فيما بين القوى العلمانية والاتجاهات القومية واليسارية, والقوى الاسلامية على مختلف اتجاهاتها بما يتضمن ذلك الجيش وقيادته, التي تحظى بعلاقات وطيدة مع بعض هذه الاتجاهات, والتي سنأتي بمعرض حديثنا على اهمها. وقد لا يكون التوافق الذي نتكلم عنه محض الصدفة, بقدر ما هو حقيقة واقعة, فالرئيس الجديد شيخ متنور, درس في القاهرة في الستينيات وأمضى فترة في بغداد, يتوافق مع الرؤية العلمانية, وهو ليس داعية للتطرف.. بقدر ما هو داعية لوحدة المجتمع الاندونيسي. ويمثل لدى الغالبية العظمى من سواد الشعب المسلم خط الوسط الاسلامي الذي يجمع بين معظم الاتجاهات والتيارات الاسلامية في البلاد. فهو من جهة تربطه علاقة تحالف وطيدة وقديمة, مع رئيس جمعية (نهضة العلماء) التي تعتبر أكبر جمعية دينية في اندونيسيا والأقدم بين الجمعيات, اذ يعود تاريخ تأسيسها الى العقد الثاني من القرن الجاري. وهي رغم عدم كونها جمعية سياسية بالمعنى المألوف للكلمة, الا أنها اضطلعت بدور مهم جداً في قيادة العمل الوطني ضد الاستعمار الهولندي للجزر الاندونيسية, واستمرت عبر نشاطها الديني التقليدي (غير الأصولي), حتى استحوذت على أهمية كبيرة في الحياة العامة للبلاد. بالاضافة الى علاقته التي لاتقل أهمية عن الأولى مع أمين ريس الذي يتزعم منظمة (الحركة المحمدية) والتي يقارب عدد أعضائها ثلاثين مليون شخص حسب التصريحات التي صدرت عن العديد من مسئوليها, بمن فيهم (ريس) . وتتوفر لديها ممتلكات وأرصدة تناهز المليار دولار, ولها حضور قوي حيث يوجد سكان اندونيسيا, أي أن حضورها يغطي كافة الجزر المأهولة. وعلى الرغم مما كان (ريس) يشيعه حول نفسه بأنه ليس لديه مطامح سياسية, إلا أن تحالفه القوي مع الرئيس الجديد (وحيد) أظهر بشكل واضح ما كان يرسم له, وأن انتقاداته لسوهارتو التي كان قد وجهها اثر اهتزاز هيبة نظامه, دلت على ما كان يخطط له لكن على نار هادئة. خاصة وأن (ريس) خريج الجامعات الأمريكية, وأن تخصصه العلوم السياسية, وهؤلاء في غالبيتهم ينظرون الى السياسة على أنها فن الممكن, ويضمرون بعكس ما يظهرون, أي انهم أشبه ما يكونون كالسلحفاة التي تتحرك ببطء, لكنها تصطاد فريستها حتى لو كلفها الامر اياما طويلة من الانتظار وانهم يتعاملون مع القضايا ببراغماتية منقطعة النظير. ولعل استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات كلها صبت في اتجاه ريس (الوديع) بانه سيقتسم اكثر من 60% بالشراكة مع النائبة الجديدة للرئيس عبدالرحمن من التأييد الشعبي في المناطق الحضرية. لكنه لم يغفل من اجندته اهمية اقامة علاقات حميمة بظل اسوأ الظروف واحسنها, مع الجنرال برابوو سوبيانتو صهر الرئيس سوهارتو الذي اقيل من منصبه في نهاية ابريل 1998 كقائد للوحدات الخاصة كما ويتلقى دعما من رئيس الاركان الجنرال فيصل تانجونج (وزير الامن الحالي) وعلى ما يبدو ان الاسلاميين على اختلاف مشاربهم والذين يتوزعون على اكثر من عشرين حزبا وجمعية, قد شكلوا تحالفا مع كبار الضباط, خاصة وان العسكر في كل دول العالم الثالث يبحثون عن تحالف سياسي يظلهم. بالاضافة الى التحالف القوى مع الحركة الطلابية والتي تحظى هي الاخرى بسطوة قوية في البلاد وانها تعتبر الفئة الاكثر قدرة على التعبير كونها من الفئة العمرية الشابة والتي سخرت معظمها لخدمة الرئيس الجديد في مواجهة اي احتمال طارىء. اما من الجانب الآخر والمهم جدا بالنسبة لاستقرار الاوضاع الصعبة الناشئة في البلاد, فهو نجاح ميجاواتي سوكارتو بوتري ابنة الرئيس السابق احمد سوكارنو مؤسس اندونيسيا المستقلة واول رئيس للبلاد, الذي يطلق على عهده (العصر الذهبي) رغم الفساد والخروقات الواضحة, لا يزال الاندونيسيون يذكرونه وقورا محبا للخير ويعرف كيف يحترم شعبه, ولعله اشبه بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر, في اثارة الحماسة عند الجمهور وفي تفانيه القومي, حسب ما يعلق بعض المتخصصين بالشأن الآسيوي. ورغم ان البعض اعتبر نجاح ميجاواتي, جاء بسبب نسبها اكثر من برنامجها الانتخابي او سياستها المعلنة, وان الذين انتخبوا حزبها النضال من اجل الديمقراطية انتخبوا في الحقيقة ارث والدها الا انها بنجاحها قد ارضت حلفاءها اليساريين, بالاضافة الى انها تمثل خمسة احزاب قومية منضوية في اطار الحزب الديمقراطي الذي تقوده برضى كامل من قيادات هذه الاحزاب للاستفادة كما اسلفنا من ارث والدها, بعد ان رفض اخوها واختها العروض المطروحة من قبل هذه التجمعات. ومن نافلة القول ان انتخاب ميجاواتي نائبة للرئيس قد يرضي ما يعادل 10 احزاب قومية و13 حزبا يساريا بالاضافة الى الثلاثة احزاب المسيحية والتي من ابرزها الحزب النصراني القومي الاندونيسي. بينما انتخاب وحيد رئيسا للبلاد قد ارضى حوالي 20 حزبا اسلاميا, بما في ذلك غالبية ضباط الجيش وجزء لا يستهان به من سواد الشعب الذي قد يصل الى حوالي الستين بالمائة. ولعل المراهنات على بداية صراعات سياسية قد تودي بمستقبل اندونيسيا باتت مستبعدة على اقل تقدير على المدى المنظور لان كل الاحزاب المكونة للخارطة السياسية حيادا عن تفاوت حجومها السياسية وجدت من يمثلها وبحرية كاملة في مؤسسات السلطة, ان كان لجهة مجلس الشعب الاستشاري, والذي يتكون من 462 نائبا و38 عسكريا, و135 من الأقاليم و65 آخرين تعينهم الحكومة. وهذه بحد ذاتها تعطي الحكومة حرية التصرف والحركة, لتوزيع جوائز ترضية لبعض الأحزاب الصغيرة التي قد لا تجد لها مقعدا بين الحيتان الاسلاميين والقوميين وأسماك القرش اليسارية. بالاضافة الى العامل الخارجي الذي يتطلع بعين الرضا الى كل ما يجري, وما يهم الخارج هو الرضوخ الى شروط البنك الدولي, وحليف عبدالرحمن وحيد الرئيس الجديد للبلاد, حسب ما تشيع المصادر المطلعة, أي أمين ريس, معروف بعلاقته الوطيدة بأوساط البنك الدولي وصندوق النقد. وكان البرنامج السياسي والاقتصادي للحزب الذي أسسه, بعد سقوط سوهارتو, يتبنى بنود البرنامج الشهير للبنك والصندوق الذي طرحناه على سوهارتو ورفضه ثم تحول الى برنامج اصلاحي ملخصه: محاربة الفساد, انهاء الاحتكارات الكبرى, اعادة هيكلة القطاع المصرفي المسئول الأول عن ازمة الانهيار المالي 1997, تعزيز الشفافية, الحفاظ على الشكل الديمقراطي الجديد وإرساء قيم مجتمعية راقية. من جانب آخر باتت قضية انتقال عدوى تيمور الشرقية الى الأقاليم الأخرى التي تشهد حراكا باتجاه انفصالها مثل اتشاي وأريان جايا واشيه, أمرا مستبعدا ولن تلقى هذه القضية الصراعية المؤجلة آذانا صاغية, من قبل القوى السياسية الفاعلة على المدى المنظور, على اقل تقدير. وان مطالب العالم الغربي وفي المقدمة الولايات المتحدة الامريكية, قد تحققت راهنا في لملمة البيت الاندونيسي من الداخل الذي سيؤمن الشروط المطلوبة للدخول الى الألفية الثالثة. والأسئلة التي لابد من طرحها, هل تحمل هذه التحالفات أهدافا نزيهة بالوصول الى المجتمع الاندونيسي الى بر الأمان؟ أم ان هذه التحالفات مجرد خطوة موسمية, هدف كل واحد الخروج من عنق الزجاجة؟ وهل بمقدور النظام الجديد اذا ما تسنى له الأمن والاستقرار الخروج بالمجتمع الاندونيسي من مجتمع يعيش الفوارق الطبقية الكبيرة والواضحة, الى مجتمع يتمتع بنظام الكفاية حتى ولو كان على الطريقة الصينية أو حتى اقل منها شأنا؟ كل هذا يبقى رهن الأيام المقبلة, وما ستنتجه هذه التحالفات. * كاتب فلسطيني مقيم بدمشق

Email