سياسة امريكا الخارجية : بين عجز الرئاسة وتعنت الكونجرس( 2 ـ 2 )، بقلم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الادارة الامريكية الراهنة تدرك بيقين ان ثمة نزعة من الانعزالية الخطيرة باتت تتسم بها سلوكيات الساسة الجمهوريين من الحزب المعارض وهو ايضا الحزب المتوقع ان يرسل واحدا من قياداته (بوش الابن تحديدا) ليصبح رئيس الولايات المتحدة في مطالع القرن الجديد . وتتجلى مظاهر هذه الروح الانعزالية في موقف الكونجرس وبالذات مجلس الشيوخ ذي الاغلبية الجمهورية من منظمة الامم المتحدة وبخاصة من الديون المستحقة في ذمة امريكا بوصفها متأخرات فات اوان تسديدها الى خزانة المنظمة الدولية وقد كادت تصل الى مليار وثلث المليار من الدولارات. ومن عجب ان اعضاء مجلسي الكونجرس من الجمهوريين ـ مجلس النواب ومجلس الشيوخ ـ بلغت بهم هذه النزعة الانعزالية, وقد نراها نزعة استعلائية في التحليل الاخير, الى الحد الذي اصبحوا لايبالون معه بحقيقة ان امريكا معرضة حسب ميثاق المنظمة الدولية وانظمتها بان تفقد حقها في التصويت في الجمعية العامة ـ اعلى مستوى تشريعي بالامم المتحدة ـ اذا لم تبادر الى تسديد, ولو جزء من تلك المتأخرات. لن يخسروا شيئا في هذا السياق بالذات يطالعنا تحليل اخباري في احدث اعداد نيويورك تايمز ( الاحد 24/10/1999) بقلم جين بيرليتز يقول: على صعيد كابيتول هيل (دوائر الكونجرس) يؤكد الجمهوريون انهم لن يخسروا شيئا له قيمة في انتخابات هذا العام اذا ما اعربوا عن تأييدهم لانفاق الاموال على منظمة الامم المتحدة (والصحيح انها ليست اموالا سيجري انفاقها ولكنها مستحقات واجبة الدفع وكان ينبغي تقاضي فوائد تأخير نظير التقاعس عن سدادها ـ الاقواس من عند كاتب السطور). ويساور دوائر الأمن القومي في البيت الابيض وبالطبع دوائر صنع السياسات في الخارجية الامريكية قلق بالغ ازاء هذا التهديد بان تفقد امريكا, بجلالة قدرها, مقعدها بين الدول بوصفها عضوا في الجمعية العامة (المنعقدة حاليا في دورتها السنوية الرابعة والخمسين) والمسألة بالطبع ليست مجرد ابهة مظهرية ولا هي مجرد وجاهة سياسية, بل المسألة بالدرجة الاولى ان مندوبي الوفد الدائم الامريكي لدى الامم المتحدة ولجانها الست الرئيسية سيصبحون في حال من الارتباك والحرج والحيرة ازاء ماقد ينتظر بلدهم وهي الدولة العظمى الوحيدة في عالم اليوم من فقدان المقعد والعضوية والصوت, مجرد حق الادلاء بالصوت في الجمعية العامة, وهي صانعة سياسات المنظمة الدولية وتلك سابقة ربما تكون الأولى من نوعها بالنسبة لمجموعة الدول الاعضاء في المنظومة العالمية وقد بلغ عددها حسب آخر احصاء 188 دولة, فما بالك اذا كانت الدولة الممتنعة عن السداد هي البلد المضيف للامم المتحدة ويربطها بالمنظمة العالمية اتفاق البلد المضيف الموقع منذ اكثر من 50 عاما. دعوة لنقل الامم المتحدة وما بالك اذا كانت الامم المتحدة ذاتها قد تلقت دعوات باستضافة مقرها اذا مانقلته من نيويورك الى مقر جديد قد يكون بون عاصمة المانيا سابقا وقد اصبحت مبانيها الباذخة شبه خالية بعد ان انتقلت عاصمة المانيا الموحدة الى برلين. والحاصل ان هذه الدعوة بنقل مقر الامم المتحدة بدأت تتجدد مؤخرا وتكتسب زخما اضافيا من الالحاح وربما المصداقية لاسيما بعد ان تنادت اوساط شتى, هندسية وسياسية وبيئية في الآونة الاخيرة الى دعوة التحذير من تقادم العهد على هيكل ودعائم مبنى علبة الكبريت الشهير الذي يحتله مقر الأمم المتحدة على ضفاف الاليست في الشارع الاول من جزيرة مانهاتن في نيويورك. آراء مستشار الرئيس في ضوء هذا كله, ارتفع مؤخرا صوت (ساندي بيرجر) مستشار الرئيس الامريكي لشئون الامن القومي داعيا الى حوار قومي حول ابعاد غايات السياسة الخارجية ـ الدولية للولايات المتحدة .. وهي محاولة يرى المراقبون ان هدفها هو نقل الحوار حول هذه القضايا الجوهرية في سياسة امريكا من الانحصار في دوامة النزاع الحزبي الضيق بين جمهوريين معارضين وديمقراطيين حاكمين الى حيث يصبح الحوار قضية قومية تشارك فيها الميديا ومراكز البحوث ودوائر هندسة وتشكيل السياسات, وبالطبع تشارك شبكات المصالح الاقتصادية ومنها ـ كما يتصور ساندي بيرجر ـ مصالح تؤيد انفتاح امريكا على العالم الخارجي وتبني البيت الابيض والكونجرس سياسة خارجية تعارض روح الانعزالية والانغلاق ومن ثم تواصل واشنطن, مع سنوات القرن المقبل, وتحمل مسئولياتها الجسام على الساحة الدولية رافعة بطبيعة الحال شعارات ظاهرها الشهامة او البراءة من قبيل فض النزاعات الاقليمية المسلحة او اتقاء نشوبها او حفظ الاستقرار وتكريس الديمقراطية واقرار حقوق الانسان وصون السلم والامن الدوليين وكلها شعارات لايختلف عليها احد ولكنها تصلح ستارا تستر به المصالح الاقتصادية الامريكية مراميها الحقيقية في الحفاظ على اسواق التصدير وفي ادامة مصادر المواد الأولية الخام وفي ضمان الامدادات الحيوية لادارة اولويات الحياة في امريكا والغرب, وفي مقدمتها نوعان اساسيان من تلك الامدادات. (1) الطاقة ولاسيما البترول ومشتقاته(2) الكفاءات والطاقات البشرية . اخطاء البيت الابيض من جانب ثان, يلاحظ الراصدون لاحوال السياسة الامريكية الراهنة ان محاولة السيد بيرجر استثارة حوار قومي حول السياسة الخارجية لبلاده سبق اليها الدكتور هنري كيسنجر خلال ادارة الرئيس الاسبق نيكسون حين عمد كيسنجر الى تهيئة السبل لحوار حول دور امريكا في فيتنام. من جانب ثالث يلاحظ المراقبون كذلك ان البيت الابيض لم يبذل جهودا لها قيمتها ولا وضع اجندة معقولة على وجه من العمق والتفصيل بالنسبة لخطوط حركة امريكا أو الاهداف التي توخى تحقيقها في مضمار السياسة الخارجية. ويحاول تحليل اخر بقلم جيد بيرلتيز (نيويورك تايمز, عدد 17/10/1999) ان يلخص ابرز نقاط هذه الاجندة السياسية أو ابرز اهدافها المنشودة على النحو التالي: تحقيق تسوية سلمية شاملة في الشرق الاوسط (وهو ما يقتضي كما يضيف التحليل عشرات المليارات من الدولارات, على شكل مساعدات تقدم إلى اسرائيل والفلسطينيين من امريكا واوروبا على السواء, ادخال الصين شريكا فاعلا في قضايا العالم الراهنة, الاقتصادية بالذات سواء في ضوء ادراك امريكا حجم انجازات الصين المرموقة في مجالات التنمية, مع ادراكها في الوقت نفسه مدى الوهن والمشاكل التي بدأت تصيب الاقتصاد الياباني, او ان واشنطن تريد معادلة النفوذ الياباني, بالوجود الصيني بما قد يصب في نهاية المطاف في صالح امريكا, وايا كانت المقاصد فقد تبلورت الاهداف الامريكية في هذا الخصوص في العمل حثيثا على ادخال الصين طرفا في منظمة التجارة العالمية. هذا الجو المسموم ومن عجب ان العليمين ببواطن امور العاصمة الامريكية يقولون برأي غريب ابعد ما يكون في تصورنا عن حلبة السياسة واهتمامات السياسيين, انهم يشيرون إلى أن الكونجرس يرفض سياسة الرئيس كلينتون وقد يفعل ذلك على طول الخط, يتقاعس عن رصد الاموال اللازمة لدعم (عملية) السلام في الشرق الاوسط ويرفض تنفيذ ما وعد به الرئيس كلينتون من سداد متأخرات امريكا المستحقة لحساب الامم المتحدة, ويتصرف الكونجرس بمنطق التعنت والتصلب, بغير مبرر منطقي أو مسوغ معقول في بعض الاحيان, فيقضي الامر مثلا ان تبذل ادارة كلينتون جهودا تستغرق سنة باكملها لكي يوافق الكونجرس على مجرد دخول ثلاث دول من الكتلة السوفييتية السابقة كأعضاء جدد في اطار توسيع منظمة حلف الاطلسي. لماذا كل هذا العنت والتربص والرفض والعناد لدرجة وصلت إلى احراج مقام الرئاسة؟ يجيب المخضرمون في دوائر الكابيتول هول: لان العلاقة بين الكونجرس والرئيس كلينتون اصبحت علاقة مسمومة! وذلك من ايام (فشل) الكونجرس الجمهوري في محاكمة الرئيس كلينتون خلال قضية لوينسكي الشهيرة, وهو فشل تابعته كل جماهير الشعب الامريكي والعالم وبلغ الامر إلى حد احراج اعضاء الاتهام من الجمهوريين, وشعورهم بالخيبة بل بالمهانة والاحباط وهو شعور مازال يدفعهم للاصرار على ملاحقة رئيس الجمهورية الذي افلت من قبضتهم بل وافلت بصعود نجمه وارتفاع اسهمه في استطلاعات الرأي العام. في هذا الخصوص يقول ليزلي غيلب وهو من الخبراء الثقات في السياسة الخارجية, كان مساعدا لوزير الخارجية خلال ادارة الرئيس كارتر وهو في الاصل كاتب عمود سياسي: انهم لم يفلحوا في محاكمته وعزله في قضية لوينسكي, ومن ثم فقد عمدوا إلى محاكمته والحجز عليه في قضية معاهدة حظر التجارب النووية التي رفضوا بالامس القريب التصديق عليها رغم ما بذله الرئيس كلينتون شخصيا من محاولات بل ومناشدات. ونحسب ان الامر اعمق من مجرد علاقة أصبحت مسمومة بين رأس السلطة التنفيذية (كلينتون) وبين منظومة السلطة التشريعية (الكونجرس) دع عنك ان تكون العلاقة قد تسممت بفعل الانحرافات السلوكية التي شابت مسألة المتدربة السابقة مونيكا لوينسكي المسألة كما نراها, ويراها كذلك مراقبون ومحللون آخرون, ان الرئيس كلينتون يفتقر الى فريق قوي, فاهم وقادر على المناورة والاقناع والانجاز في مجال السياسة الخارجية صحيح ان رفض اقرار المعاهدة النووية كان ضربة قاسية موجهة الى الدور القيادي المفروض ان تضطلع به الولايات المتحدة على الساحة الدولية (كما كتب مؤخرا روبرت جيتس المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الامريكية) لكن الصحيح ايضا ان هناك من توقع مثل هذه الضربات.. لماذا؟ لان الفريق الذي يعاون الرئيس كلينتون ليس على المستوى المطلوب بالنسبة لتلك المهام الجسام. فلا مستشارى للامن القومى ساندى بيرغر استطاع ان يقنع زعماء الجمهوريين في الكونجرس بجدول التصديق على معاهدة حظر التجارب النووية, ولا وزيرته للشئون الخارجية بذلت جهودا يعتد بها في مجال حشد (اللوبي) المؤيد للحكومة وكذلك (اللوبى) المؤيد لنزع السلاح وحظر الاسلحة النووية لتحرير المعاهدة داخل اروقة الكونجرس.. والقوم في هذا الخصوص يعقدون مقارنات بين مستشار الامن القومي الحالي بيرغر وسلفه في نفس الموقع لدى الرئيس نيكسون واسمه هنرى كيسنجر بكل كفاءته وقدراته على صعيدي التنظير الاكاديمي والتنفيذ الميداني ونفس المقارنة يعقدونها بين السيدة اولبرايت في وزارة الخارجية حاليا وبين سلفها في نفس الموقع بادارة بوش وهو جيمس بيكر مهندس التحالف الدولي الشهير الذي خاضت به امريكا حرب الخليج وتحرير الكويت وتحجيم صدام حسين. امريكا ومفترق الطرق خلاصة القول فان السياسة الخارجية للولايات المتحدة باتت في رأينا عند مفترق طريقين: * الاول هو التغني بانجازاتها, وفي هذا المجال يعدد (ديفيد ليفي) الناطق باسم مجلس الامن القومي بالبيت الابيض امجاد رئيسه كلينتون ما بين تأمين نظام يلتسين في روسيا (وطبعا لنا اكثر من تحفظ على بقاء مثل هذا النظام وقد نخر الفساد في بنيته), وما بين التحولات السياسية والاقتصادية التي تشهدها الصين (ولا نتصور ان الصين تخوض هذه التحولات (بوحي) واشنطن او لتنفيذ توجيهاتها وانما تفعل ذلك في ضوء المصالح القومية للصين ذاتها ومن خلال ادراكها لمنطق العصر ومتغيراته) ثم هناك من امجاد كلينتون توسيع آفاق التجارة الحرة وتخفيف التوتر بين الهند وباكستان الى تحقيق سلم شامل في الشرق الاوسط. وبصرف النظر عن ان حكاية السلم الشامل في الشرق الاوسط مازالت هدفا عصيا على التحقيق.. الا ان مقالة جين بيرليتز التي ألمحنا اليها في مستهل هذا الحديث نقف مليا للحديث عن حلم الرئيس كلينتون بالجمع بين الرئيس السوري حافظ الاسد ورئيس وزراء اسرائيل ايهود باراك في مصافحة مجددة تعيد الى الاذهان مصافحة عرفات رابين الشهيرة في حديقة الورود بالبيت الابيض. لكن الامور تبدو متعثرة كما يضيف التحليل الامريكي ـ فالاسد مازال يمعن في حساباته واسرائيل تطالب تحت شعار الامن بثمن باهظ مقابل مثل هذا الانسحاب من الجولان يصل الى عدة مليارات من الدولارات وبأكثر مما قد يتحمل الكونجرس اقراره في الميزانية المقبلة.. بل ان مبلغ 400 الف دولار الموعودة للفلسطينيين بمقتضى اتفاقات واي ريفر لم يتم اعتماده بعد من جانب الكونجرس وهو امر دعا (ليزلي غليب) المحلل السياسي الى ان يقول ـ العام المقبل سيكون من الصعوبة بمكان في مجال السياسة الخارجية في امريكا.. ذلك لان أية سياسة واي قرارات قد تحاول رسمها او اتخاذها ادارة الرئيس كلينتون لابد وان تمر عبر شرطين او ظرفين اساسيين وهما: موافقة الكونجرس ثم اقرار مبالغ طائلة من الاعتمادات وكلا الامرين صعب بالغ التعقيد. * كاتب سياسي مصري

Email