الخلل المقيم.. خللنا دون منازع! بقلم عمران سلمان

ت + ت - الحجم الطبيعي

ربما اخطأ الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في أمور كثيرة, غير انه أدرك بحدس المجرب والمحنك, بعد ان استوعب جيدا تجربة النضال الفلسطيني منذ خمسين عاما, الطريق الصحيح الذي ينبغي عليه ان يسلكه.قد لا يكون هو الطريق الأمثل, لكنه الوحيد المتاح والممكن في الظرف الاقليمي والدولي الراهن . وهذا للأسف ما لم يدركه معارضوه من الفلسطينيين والعرب, فبقوا يمارسون هذرتهم الفارغة والمجانية. ان اهم ما يمكن لانسان ان يبصره, ان كان يبصر حقا, ان القضية الفلسطينية كانت تسير من سيىء إلى أسوأ. وهي بدأت كبيرة وعزيزة, ومقدسة, لكنها أخذت تصغر وتهون وتدنس, عاما بعد عام وعقدا بعد عقد, ولذلك أسباب كثيرة ربما لا يتاح المجال هنا للتفصيل فيها. وفي حين انها بدأت بحروب عربية شاملة ضد اسرائيل, تقلصت إلى حروب موضعية, ممثلة في دول الطوق, ما لبثت ان اقتصرت بصورة أو بأخرى على واحدة من أضعف الدول العربية وهي لبنان, وفي وقتنا الحاضر لم يعد أحد يحارب اسرائيل لا قولا ولا فعلا (تقريبا منذ حرب 1973). وفي حين كانت منظمة التحرير الفلسطينية تملأ الدنيا صخبا وحركة في السبيعينات أضحت بعد ذلك هياكل ومجموعات تبحث عن ملجأ ومعيل! ومن دول عربية كبيرة مثل مصر والعراق, انتقل الثقل الفلسطيني إلى الأردن, ثم إلى لبنان ثم الى تونس, وفي هذه الأخيرة لم يعد في الواقع (ثقلا) , وانما مكاتب وموظفين فحسب. هذا التسلسل الانحداري في القضية الفلسطينية لا يسأل عنه الفلسطينيين وحدهم وانما يسأل عنه جميع العرب. ومن نافل القول بأن من لم يتعلم كيف يكسب الصراعات والحروب طوال خمسين عاما, لا يمكنه ان يكسبها الآن. يرجع الاسلاميون هذه الهزائم الى كون القيادة العربية التي تصدت لادارة الصراع مع اسرائيل كانت من القوميين العرب واليساريين وانها لو كانت من الاسلاميين لاختلفت النتائج وتحقق الانتصار المظفر. وقبلهم كان القوميون واليساريون يقولون نفس الكلام فيرجعون الهزائم الى كون القيادة العربية والفلسطينية تشكلت اساسا من قوى اليمين التقليدية والاقطاعيين. الحقيقة هي ان هناك دولا عربية يدين سكانها (او معظمهم) بالاسلام وهناك دول تنتمى الى قوميات اخرى ويدين سكانها (او معظمهم ايضا) بالاسلام والاسلام هو القاسم المشترك بين هذه الدول, لكنه ليس القاسم الاقوى او الحاسم. والمسألة ليست مسألة حكام او انظمة وانما مسألة شعوب ايضا فلكل من الشعوب اولوياته ومشاكله التي تجعله بمنأي عن كل ما عداها, وما يقال عن هذه الشعوب يقال كذلك عن الشعوب والانظمة العربية وهذه حقائق تؤكدها الحياة كل يوم في شتى مظاهرها. فلم تعد هذه الشعوب تخرج في المظاهرات ضد اسرائيل وامريكا ولم تعد تتنادى او تسير خلف (الزعماء الملهمين) ولم تعد (تضحي) او تبذل الغالي والنفيس في سبيل (القضايا المصيرية) وانما هي مشغولة فحسب بهمومها ومشاكلها الداخلية. وهذا يعني في جوهره ان هذه الشعوب نضجت واستوعبت دروس الحياة لكن وحدهم اولئك المعلقة عيونهم علي (البقايا الاثرية) لا يرون ذلك ولا يستوعبونه. والمفارقة انهم لا يكتفون بهذا وانما يطلبون لغيرهم العمى والخبل ايضا. وعلى سبيل المثال فانهم يطلبون من السلطة الفلسطينية ان تتخلى عن اتفاقيات السلام, وان تنسحب من المفاوضات مع اسرائيل وان ترفع من جديد راية الكفاح المسلح وان تخرج من اراضي الضفة وغزة.. الخ. ولن نسأل كيف ولماذا حسبنا ان نقول: ابحث عن العقل والمنطق في هذا الكلام فإن وجدتهما احتفظ بهما ولا تسلمهما لاحد. ان من المؤسف حقا وامام سيل الانتكاسات التي عانتها القضية الفلسطينية فإن محاولة جادة وصادقة للتأمل وانتقاد الذات لم تحصل. ونقول جادة بمعنى البحث عن الاسباب خارج دائرة الاعداء التقليديين (الاستعمار, امريكا, اسرائيل) او عدم قصرها على هؤلاء. فنحن نفترض ويجب ان نفترض ألا يقف هؤلاء مكتوفي الايدي ازاء أي تهديد لما يعتبرونه مصالحهم الحيوية او يديروا ظهورهم للفرص والامكانيات المتاحة امامهم. لا يوجد انسان طبيعي في اي مكان من العالم يتصرف على نحو مخالف, وبالتأكيد فإن هؤلاء الذين يجري الحديث عنهم هم اناس يتصرفون في حدود المنطق الطبيعي للاشياء, وهم مقتدرون في الوقت نفسه ماديا وسياسيا وعسكريا. والحديث عن الاعداء وكيف يتصرفون ليس اكتشافا جديدا, فالعدو هو العدو في اي وقت او مكان ولا ينتظر منه شيء غير ذلك. من يجب ان تتوجه اليه الانظار اذن هو الانسان نفسه والذي عليه ان يكتشف عيوبه واخطاءه بنفسه وبصدق وشجاعة ولا ينبغي ان ينتظر او يتوقع ان يقوم شخص آخر بهذه المهمة نيابة عنه. المشكلة اذن هي في الجانب العربي والفلسطيني فهو المعني الاول والاخير بمصالحه ومستقبله ومصير قضيته. وهو المعني من ثم بالدفاع عن تلك المصالح وذلك المستقبل وتلك القضية, بالطرق التي تؤمن له الغلبة وتحقيق الاهداف. ليس الغلبة بالمعنى المطلق والشامل, وانما في اطار الزمان والمكان وفي اطار موازين القوى والظروف السائدة في العالم. ونعود لنقول بأنه من المؤسف ان شيئا جديا من هذا لم يفكر فيه, قبل هذا العقد, وانما انصبت جميع الجهود والامكانيات على اهداف تقع خارج اطار التاريخ واطار الزمان والمكان. وربما لو لم تندلع الانتفاضة الفلسطينية, ولو لم تنشب حرب الخليج الثانية وينهار الاتحاد السوفييتي السابق وينشأ وضع جديد يفرض على الجميع عربا واسرائيليين, التفكير بصورة مختلفة في حل هذا النزاع, لربما ظللنا حتى اليوم ندور في نفس الحلقة المفرغة. حيث مواجهة ولا مواجهة وحيث تحرير ولا تحرير وحيث نضال ولا نضال وحيث لا حرب ولا سلم ولا استقرار ولا تنمية ولا اصلاح. طبعا مرحلة السلام ليس حريا بها ان تنتج كل ذلك وهي لن تتجه بصورة تلقائية على اي حال, فالسلام لا يلغي حالة الصراع والتنافس الطبيعية بين البشر والدول. لكن السلام في المرحلة الراهنة يسمي على الاقل الاشياء باسمائها الحقيقية, ويقلل من تأثير الادعاءات والدعاوى الايديولوجية. ومن ثم هو يتيحه لمن يشاء ان يجرب طريقا آخر فلعل وعسى ان ينتصر في السلام من لم ينتصر في الحرب. ومع اننا نشك في صحة ذلك, غير اننا نلاحظ كما يلاحظ الآخرون بأن نهج السلام وليس الحرب, هو اليوم والى امد ليس قصيرا سيكون النهج المقبول اقليميا ودوليا. وبالتالي فالحلول الناتجة عنه هي القابلة للحياة والاستمرار. والحال ان هذا الطريق هو الوحيد المتاح امامنا وامام غيرنا, شئنا ذلك ام ابينا, وبدلا من البكاء على الاطلال او الحنين الى الماضي, الذي لن يعود ينبغي علينا ان نفكر في الحاضر وكيفية الخروج منه بأعظم المكاسب واقل الخسائر, رغم اختلال موازين القوى ورغم الصعوبات النفسية المؤلمة احيانا والتي ترافق ذلك.

Email