جمرك على تصريحات المفاوضين!بقلم محمد خالد الازعر

ت + ت - الحجم الطبيعي

بمجرد الاعلان عن استئناف ما يسمى بمفاوضات الوضع النهائي على المسار الفلسطيني اشتد تبادل القصف الكلامي بين المفاوضين الاسرائيليين والفلسطينيين وكان هذا الاشتباك الشفهي قد بدأ منذ بداية عملية التسوية لتسع سنين خلت الآن , ومع ان المتابعين باتوا يدركون بالسوابق, من هو الطرف الذي كان دوما مؤهلا للتقهقر نحو الخنادق الخلفية لحظة الالتقاء على موائد التفاوض, إلا ان المباراة الصورية حول الاهداف العليا لا تتوقف. وهكذا نسمع عن خطوط فلسطينية حمراء, فيما لا نرى سوى خطوط خضراء وبيضاء ورمادية وكثيرا ما يعن للمرء ان يضرب صفحا عن اللهاث وراء القنابل اللفظية من الوزن الثقيل, مكتفيا بتأمل ما يمكث في الارض من اتفاقات, ولكن الظاهر انه من الصعوبة بمكان الفصل بين القول والعمل وانه من الضروري اجراء محاسبة دورية للمسافة التي تفرق بينهما كلما فرغ المفاوضون من جولة لهم. والواقع ان القيام بهذه المهمة, الأقرب الى العمل البحثي الذي يعرف بتقدير الحالة على فترات زمنية, يبدو امرا سهلا للوهلة الاولى, لايحتاج إلا لرصد الاقوال والبيانات والتصريحات المسئولة وتجميعها, ثم مقابلتها في وقت لاحق بالانجازات الحقيقية وحجم الالتزام, والفارق بين الكفتين يعطي مؤشرا قويا عن درجة الصدقية والشفافية, غير ان الصعوبة هنا اكبر من المتصور, فثمة ضغوط نفسية لا تحتمل احيانا, تقع على وجدان من يضطلع بهكذا مهمة بعد الوقوف عند الحقائق عارية. تزداد حدة هذه الضغوط, عندما يذهب المسئولون الى تبرير عدم الصدقية والتجاوزات التي اقترفوها بحق اقوالهم السابقة بشتى صنوف التلاعب بالمفاهيم والالفاظ, وإسدال ستائر التعمية الدخانية, مستغلين في ذلك ما توفر لهم من ملكات صناعة الكلام, وتزيينه فيما يعرف بـ (زخرف القول) ولعل من يستحوذون على هذه الملكات هم الاكثر حظا عموما في ارتقاء وظيفة التفاوض, ذلك بأن الخروج على الرأي العام واستمالته ومخاطبته واستنزاف طاقته من الحنق ووقف ثائرته واثلاج صدوره وتسكينه باستمرار في دائرة الوعود الوردية.. هذه الخصائص, اضحت فيما يبدو دليل المفاوض الذكي في هذه المرحلة. على ان الاحباط الذي يتأتى من متابعة اقوال المفاوضين وافعالهم لا ينبغي ان يقعدنا عن المحاولة فاستشعار العجز وعدم وجود فائدة من لفت نظر هؤلاء الذين قدر للأمة ولهم ان يكونوا في مواقع التفاوض الامامية, يمكن ان يصب عمليا في اوراق العدو, واحد الآليات المقترحة للدأب على حث المفاوض التزام الصدقية ودفعه اليها دفعا, ان ننبري الى تذكيره بوعوده من فمه وبياناته بلا ملل وبكل هدوء. مثل هذه العملية قد تجعل المفاوضين امام مرآة يرون فيها انفسهم باستمرار, واضعف الايمان (النتائج) ان يشعر هؤلاء بالخجل حين يأنسون انهم ملاحقون وعن اقوالهم مساءلون, وان حصافة القول لا تغني عن جدية الفعل ومطلوب في حالة كهذه, ان يتم تقريظهم اذا اثبتوا مطابقة بين القول والفعل, وادانتهم ان جنحوا عن ذلك. ايضا من فضائل نظرية المتابعة التفصيلية لمسيرة المفاوضين الكلامية والتطبيقية. نشوء ما يحق وصفه جدلا بـ (جمرك على التصريحات) وهذه مؤسسة افتراضية, قد تقيد ألسنة المفاوضين عن التذاكي على الرأي العام وازجاء الوعود بلا حسب انها عملية رقابية غير منظورة ولعلها منظوره ان تمت مأسستها بشكل حقيقي ـ يصبح خلالها الرأي العام قريبا جدا مما يدور على ساحة التفاوض. وليس من المبالغة الاعتقاد بأنها تقرب المسافة بين المفاوضين والرأي العام, فضلا عن كونها تهدم حاجز عدم الثقة بينهما فإنها تعزز موقف المفاوضين ولنا فيما يحدث على الجانب الاسرائيلي عبرة واسوة, فمن يطالع اعمال الصحف ومراكز البحث واراء الرموز الفكرية ناهينا عن جهود الاحزاب الرسمية, يوقن بأن المفاوضين الاسرائيليين يقعون تحت طائلة آلية محاسبية يصعب الفكاك منها, لكن هذه الآلية ذاتها تسمح لهم بالتذرع والتهرب من اداء التزامات بعينها لصالح الجانب الفلسطيني كلما عن لهم ذلك. والحق ان الفجوة بين القول والفعل هي على الضفة الاسرائيلية من المفاوضات في اضيق نطاق ممكن, فأين هذا مما يجري على الضفة الفلسطينية؟ لقد فهمنا مع كثيرين بالطبع, من واقع تصريحات نشرت بين دفتي صحيفة واحدة في يوم واحد لمفاوضين فلسطينيين كبار ما يلي: * ان وضع القدس الشرقية محسوم بالقرار 242, وان المفاوضات تتعلق بالقدس بشطريها المحتلين عامي 1948 و1967. * ان المفاوضين الفلسطينيين لن يقبلوا بشبر اقل من حدود 1996. * ولن يقبلوا بمستوطن صهيوني واحد في الدولة الفلسطينية. * ان مصدر الشرعية الوحيدة في قضية اللاجئين هو القرار 194 لعام 1948. * الكلام عن توطين اللاجئين كلام فارع فالحل النهائي هو الذي سيعيد اللاجئين الى فلسطين. * في الحل الانتقالي كنا نراكم من الصفر اما في الحل النهائي فإن اي شيء نتراجع عنه هضم من حقوقنا ولا يوجد حل سوى في الانسحاب الكامل الى حدود 1967 والمستوطنات ستلغى نهائيا, كمناطق احتلال اسرائيلي. ويمكن العثور على سيل من التصريحات النظيرة فيما يتصل بالخطوط الحمراء الفلسطينية في المفاوضات النهائية اذا نحن اطلنا فترة المتابعة. وهي مواقف نظرية تستحق الاشادة والمديح, ولكنها تمنحنا عمليا فرصة المتابعة على بينة وبصيرة, لما يتم تطبيقه في القاعات التفاوضية فعندئذ يستبين الخيط الابيض من الخيط الاسود والحديث المستهلك من الحديث الجاد. نود القول انه عن طريق تجميع تصريحات الاخوة المفاوضين وتبويبها بحسب قضايا التفاوض على مدى زمني معين, ثم مقارنتها باداء هؤلاء اثناء المفاوضات, يمكن اختبار صدقيتهم مع انفسهم وجماهيرهم, وتمثل نتيجة هذا الاختبار الذي يمكن اجراؤه بشكل دوري كشف حسب للاداء التفاوضي يضع البطولة الكلامية على المحك وميزة هذا الاختبار ان اي مهتم بسير المفاوضات يستطيع القيام به عبر قصاصات الصحف لا اكثر. * كاتب وباحث فلسطيني ـ القاهرة

Email