على هامش نوبل والدكتور زويل بين المجتمع العلمي ومهرجانات الحماسة، بقلم جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

ارجو ألا تتحول مناسبة فوز الدكتور احمد زويل بجائزة نوبل الى مجرد(مولد)وصاحبه في امريكا, او الى مهرجان للحماسة و (المصريين اهمه) فقط لاغير, المطلوب قبل ذلك وبعده ان تكون المناسبة فرصة لبحث اوضاع البحث العلمي عندنا, وكيفية تحقيق النهضة العلمية المطلوبة, والتي لابديل عنها اذا اردنا ان يكون لنا مكان في عالم الغد . ان مصر لاينقصها الامكانيات البشرية, ولدينا كفاءات نادرة في كل المجالات, واذا كان البعض من علمائنا الذين استقروا في الخارج (مثل الدكتور زويل) قد صادفوا نجاحا هائلا فان اساسهم العلمي قد تم تكوينه في مصر ثم استغلوا الفرصة والامكانيات فبرزوا, ولكن ذلك لاينفي ان عندنا الآلاف من العلماء القادرين على الابداع يقاومون الظروف السيئة للبحث العلمي عندنا ويفعلون المستحيل لكي يحققوا شيئا له قيمة, وكثيرا ماينجحون في ذلك. ومصر لاتنقصها الامكانيات المادية ورغم الظروف الاقتصادية التي نعلهما فاننا نستطيع توفير امكانيات البحث العلمي الذي مازالت ميزانياته (رغم مضاعفتها في الاعوام الاخيرة) لاتصلح لاحداث النهضة المطلوبة, ان شيئا من الترشيد وحسن توزيع الامكانيات المتاحة يمكن ان يجعل الوضع افضل بكثير. ولقد فعلت ذلك دولة مثل الهند ( وظروفها كما نعلم) وحققت الكثير في مجال العلوم والتكنولوجيا . ان الانفاق على المظهريات ينبغي ان يتوقف, والانفاق السفيه للاشخاص أو المؤسسات لاينبغي ان يكون له مكان, والقطاع الخاص من ينبغي ان يشارك الدولة في رعاية البحث العلمي وان يدرك ان كل قرش ينفقه في هذا المجال سيعود عليه وعلى الوطن بالكثير. اننا نتحدث الآن عن نهضة تكنولوجية ندخل عالم صناعة الكمبيوتر ونشارك في ثورة الاتصالات, وهناك هدف ان نصدر منها خلال سنوات خمسة عشر مليار دولار في كل عام, وليس هذا الا وجها واحدا للنهضة العلمية الشاملة التي لابد من تحقيقها والتي نملك كل امكانياتها الا شيئا واحدا اشار اليه الدكتور زويل بعد حصوله على الجائزة, حين اكد ان كل الانجازات العلمية التي تتحقق الآن, لاتتحقق الا من خلال مجتمع علمي, بكل ماتعنيه كلمة العلم من معنى .. سواء في التفكير او السلوك العام أوالخاص. هذا هو اهم ماينقصنا .. المجتمع العلمي الذي يعلي شأن العقل ويمنح البحث العلمي كل للدعم وكل الحرية ـ والذي يساند الابداع في كل المجالات, والذي يضع كل شيء في خدمة هذا الهدف .. فلا يصطدم بتعليم يقتل القدرة على التفكير, ولا باعلام ينشر الخرافة والتخلف, ولا بثقافة تفهم الاصالة على انها التجرد وتفهم المعاصرة على انها الجري وراء التقاليع. المجتمع العلمي لايتحمل سلوكا عاما ينفق الملايين في اعلانات النفاق بدلا من صرفها على التعليم والصحة والاسكان, ولايتحمل سلوكا خاصا يتم فيه انفاق الملايين في استيراد الآيس كريم وطعام الكلاب واحذية القطط, بينما مراكز البحث العلمي تتعطل دراساتها بسبب النقص الفادح في الامكانيات. المجتمع العلمي الذي نحتاجه هو ذلك الذي يشجع على العمل الجماعي وروح الفريق في نفس الوقت الذي يمنح دعمه للتفوق والابداع الشخصي, وهو المجتمع الذي يحدد اهدافه بدقة ويسعى اليها بدأب, ويعرف كيف يستثمر امكانياته البشرية والمادية اعظم استثمار, وهو المجتمع الذي لايبدد وقته في المعارك الوهمية ولا يتصور ان الكلام يمكن ان يكون بديلا عن العمل, وان الدعاية الكاذبة يمكن ان تخفي العجز والتراجع. المجتمع العلمي هو الذي يواجه اخطاءه بشجاعة, ويصححها قبل ان تستفحل, ويحث الجميع على الاجتهاد ويطلب من الجميع ان يترجموا حبهم لهذا الوطن الى عمل جاد وانجاز يتحقق. واخيرا .. فان المجتمع العلمي هو الذي يستطيع ان يحول مناسبة مثل فوز الدكتور زويل بجائزة نوبل الى فرصة لمراجعة احوال وتشخيص امراضه ووضع الحلول لمشكلاته .. فهل نفعل , ام نكتفي بهذا (المولد) ثم يعود وكل شيء كما كان؟! الامر لابد ان يختلف هذه المرة, وخلال ايام يعلن الرئيس مبارك عن تشكيل اللجنة العليا للتنمية التكنولوجية في مصر برئاسته شخصيا, حيث اكد انه سوف يرأس اجتماعات اللجنة ليتابع تنفيذ مشروع توطين وانشاء صناعة تكنولوجية متطورة. وفي الوقت نفسه طالب الرئيس مبارك البنوك بدعم هذه الصناعات وتقديم القروض الميسرة وتشجيع رجال الاعمال والاستثمارات الاجنبية التي تريد الدخول في مشروعات مشتركة مع الشركات المصرية, وكذلك تقديم الحوافز الجمركية والضرائبية مع تطوير اتفاقيات الشراكة مع امريكا ودول اوروبا وآسيا لتشمل نقل وتطويع وتطوير التكنولوجيا في الساعات التي تمتلك مصر ميزة تنافسية عالية فيها. ان ذلك يستلزم بلاشك تعاون الكثير من اجهزة الدولة, والالتزام بخطط محددة لتحقيق المشروعات الطموحة, ولكنه يستلزم ايضا بذل كل جهد ممكن لخلق المجتمع العلمي الذي اشرنا اليه, وهذا هو اصعب المهام في هذا المشروع وفي كل مشروع مشابه. ورغم ان الجهد الاساسي في اي مشروع من مشروعات النهضة العلمية المطلوبة سوف يبقى لعلماء وخبراء الداخل (ومصر تملك منهم ذخيرة هائلة) الا ان علماء مصر في الخارج لابد ان يكون لهم دور, ولا اظن ان احدا منهم سيتخلف عن نداء الوطن, ولهم في علماء الصين والهند وغيرها, اسوة حسنة, فقد ساهموا في نقل خبراتهم من البلاد الاوروبية, الامريكية التي هاجروا اليها, واستطاعوا ان يضعوا بلادهم على الطريق الصحيح للتقدم العلمي,, وضحى بعضهم بالكثير عندما احتاجته بلاده. وعلماء مصر في الخارج مدينون لها بكل شيء, وحديث الدكتور زويل عن اعتزازه بمصريته بعد فوزه بنوبل لم يأت من فراغ, فمصر هي التي ربته وعلمته, ومصر هي التي اقتطعت من لحمها الحي في اصعب الظروف عند نكسة 67 لكي تواصل تقدمها العلمي, وارسلت زويل ليستكمل دراساته بعد حصوله على الماجستير في مصر عام 1969, وما يصدق على الدكتور زويل يصدق على الكثيرين من النوابغ المصريين في المهجر, واظن انهم جميعا يريدون رد الجميل لوطنهم, ويطمحون الى نهضة علمية لا شك ان مصر تملك مؤهلاتها الاساسية. ومشكلة هؤلاء العلماء هي جزء من مشكلة البحث العلمي في اوطاننا في غيبة الاهتمام الرسمي والمجتمعي طوال السنوات الماضية. فلاتوجد مؤسسة تتعامل مع هؤلاء العلماء وتنظم جهودهم, وتحدد ماتحتاجه مصر منهم, ويتحول الامر في النهاية الى جهد تطوعي وفردي من هؤلاء العلماء قد يجد الترحيب او لايجد! لا توجد مؤسسة تحصر الكفاءات العلمية بدقة في الداخل والخارج, وتحدد أوجه الاستفادة منها, وتضع كل باحث في مكانه وتوفر له الامكانات. ولا توجد مؤسسة تمد حبل التواصل بين النوابغ من علماء مصر في الخارج وبين وطنهم. ولقد كانت هناك في بعض الاحيان وزارة للهجرة, يفترض انها ترعى شئون المصريين في الخارج. وكان الوزراء الذين يتولونها ينفقون من المرحلة الاولى من تولي هذه الوزارة في البحث عن الاختصاصات والمقرات والموظفين.. فلا يجدون شيئا, وفي النهاية يكتفي وزير الهجرة بالمنصب ويتفرغ لما هو أجدى (أحدهم كان ينفق وقته في نظم القصائد السيئة التي تجد طريقها للنشر بسبب المنصب, وآخر اكتفى بلعب الطاولة مع رئيس الوزراء)!! وكانت هناك مؤتمرات تحاول جمع المغتربين في وطنهم. ولكن غياب التنسيق بين الأجهزة المختلفة, وغياب الرؤية الصحيحة لما هو مطلوب, حولت هذه المؤتمرات الى اجتماعات للمغامرين في عالم (البيزنس) وكانت النتيجة ابتعاد العلماء, وتفجر الصراعات بين الآخرين, وفي النهاية اختفاء المؤتمرات نفسها! وكان لبعض العلماء المصريين المغتربين اياد بيضاء كثيرة, سواء في مساعدة الباحثين الشبان لاستكمال دراساتهم بالخارج, او في تقديم بعض جهدهم للوطن كما يفعل الدكتور مجدي يعقوب وغيره من كبار الاطباء المصريين المغتربين الذين يجيئون للوطن بين الحين والحين ليقوموا بإجراء عمليات جراحية دقيقة تطوعا, ولكن ذلك كله يأتي في اطار الجهود الفردية, ودون تخطيط شامل يجعل كل عمل جاد جزءا من عمل اكبر تتحقق به الاستفادة الكاملة, فلا تتبعثر الجهود ولا يضيع الهدف الأساسي. وقد آن لذلك كله ان يتغير اذا أردنا نهضة علمية حقيقية. ان اقتحام الصناعات التكنولوجية المتطورة ومحاولة توطينها مهمة عظيمة. ولكن الأهم منها ان نقوم بتوطين النظرة العلمية في كل خلايا المجتمع, وان ننشر المناخ الذي يحترم الحقيقة ويعلي من شأن العقل, ويحارب الجهالة, ويدير الحوار الحر حول كل شئون الحياة من اجل الافضل والانفع. هذا المناخ العلمي هو الذي يستطيع ان يحقق المعجزة العلمية, وينشر النهضة في كل المجالات, فلا يصبح العلماء غرباء في أوطانهم, بينما الأضواء والثروة والشهرة لمطربات يجدن الرقص لا الغناء, وللاعبي كرة يتعادلون بالعافية مع فريق الأسد المرعب, ولدجالين يحتلون أرصفة الثقافة بمؤلفاتهم الثمينة عن السحر والجان! والطريق الى ذلك ليس سهلا, ولكننا ـ بكل تأكيد ـ قادرون على اجتيازه. ولعل الصدفة التي جمعت بين الحديث عن نهضة تكنولوجية مطلوبة وبدء العمل في مشروعاتها, وبين فوز الدكتور زويل بجائزة نوبل, هي البشرى الطيبة التي تؤكد القدرة المصرية (والعربية) على تحقيق المعجزة العلمية المطلوبة, فلسنا أقل من الهند التي نجحت في هذا المجال. ولقد كنا في منتصف الستينيات احدى ثلاث دول مرشحة للنهضة في صناعة المعلومات (مصر واليابان وجنوب افريقيا) ولكن الظروف المعاكسة أوقفت النهضة, لتتقدم اليابان ثم تنضم اليها الهند والنمور الآسيوية. وليس هذا إلا مجالا واحدا من مجالات التقدم العلمي المنشود. وصحيح ان الاعمال ليست بالنيات, ولكن بالجهد والابداع, ولكننا لا نستطيع ان نغفل مغزى ان تكون في الحكومة الجديدة وزارة للاتصالات والمعلومات, وأخرى للتنمية التكنولوجية, وان يكون على رأس وزارة الكهرباء عالم نووي. ثم يأتي فوز الدكتور زويل بجائزة نوبل ليضع البحث العلمي في بؤرة الاحداث. وكل ما نرجوه ان يظل الامر كذلك حتى يتحقق المطلوب, ويقوم المجتمع العلمي الذي لا ينتظر الفرج على أيدي (شمهورش) الذي يشفي المريض ويحقق المعجزات وينتصر على الاعداء.. بينما نحن نتفرج على التلفزيون!

Email