النظام الاداري.. مقاصد الواجب، وضمانات الحقوق، بقلم المقدم الدكتور عبدالله محمد محمود*

ت + ت - الحجم الطبيعي

اذا كان النظام الاداري يقوم اساسا على تحقيق المصلحة العامة الشاملة مستهدفا اقصى درجات الرخاء والامن للمواطنين, فليس من شك ان عماد النظام الاداري بكامله هو الموظف, ومن ثم كان الارتباط قويا ووثيقا بين قيام الموظف باداء واجباته الوظيفية بقدرة وكفاية واستقامة, وبين بلوغ الاهداف المرجوة بأقل تكلفة وأيسر طريق , وكان طبيعيا ان يبرز الاهتمام بتنسيق جهود العاملين بالادارات تنسيقا يساير المصلحة العامة لا للمصلحة الشخصية, ومن اجل ادراك الاهداف الاجتماعية والاقتصادية, الى جانب احاطة الموظفين انفسهم بسياج متين من الضمانات وحمايتهم من تعسف رؤسائهم وفرض الرقابة اللازمة على تصرفاتهم بما يضمن عدم اساءتهم لسلطات وظائفهم او انحرافهم عن جادة الصواب في تحقيق الخير المشترك. وبناء على ما تقدم يتضح ان تحقيق المصلحة العامة لايتم بالرقابة المجردة على الموظف, بل يتم من خلال منطلقين: المنطلق الاول: حسن اداء الموظف للخدمة بالسرعة والكفاية والامانة, وهو ما يعبر عنه بصالح الادارة. ويقابله منطلق آخر: هو صالح الموظف نفسه, وذلك لتوفير الضمانات الكفيلة بطمأنينته في ادائها. ومن خلال مراجعتي احد مراجع القانون استرعى انتباهي رواية عجيبة والتي وقع عليها اختياري ويتلخص مضمونها في الآتي: انه عندما غصت المصحات بجند القائد الشهير (بونابرت) اثر اصابتهم بمرض الطاعون, لاذ الممرضون بالفرار تحاشيا للعدوى, وكان نابليون اول المترددين على هؤلاء المرضى, ولما اشار عليه الاطباء بسرعة مغادرة المصحة تجنبا لالتقاط العدوى, اجابهم بهدوء قائلا: (انهم رجالي وانا قائدهم, وهذا واجبي, فالقيادة والمسؤولية والواجب كلها شيء واحد) , وليس هذا القول في نظري بعجيب على قائد دحر اعداءه بدقة فهمه قبل عظمة سلاحه وتفوقه وقتذاك. فلسفة التأديب ورب سائل يسأل, هل يحتاج التأديب الى فلسفة؟ ان التأديب كعمل مادي مجرد لا يحتاج سوى تطبيق نصوص اللوائح والقوانين المختلفة على المخالفات وهذا فهم بعيد عن الواقع لعدة اسباب نوضحها من خلال المقدمات التالية: اولا: ان النفس البشرية تنطوي على رعونات واهواء, وهي من شأنها ان تركت على سجيتها ان تحمل اصحابها وخاصة ان كانوا اصحاب شوكة على بسط اسباب الحيف والظلم, فتصبح السلطة الوظيفية مدعمة بانحراف النفس البشرية سلاحا في يد اصحابها لبسط المزيد من ألوان الاستعلاء. ثانيا: ان الناس, باتفاق العقلاء واصحاب الفكر في كل زمان ومكان, كانوا ولايزالون يبحثون عن الحقيقة, والذي يليق والذي لا يليق, وما هو خير وما هو شر, وما هو واجب وما ليس بواجب, دون ان يهتدوا الى معيار دقيق, وبسبب ذلك وقع الناس في متاهات من الاحكام والاعراف الاخرى فكان من آثار ذلك ان اصبحت مفاهيم الصواب والخطأ مجرد اجتهادات في اكثر الاحيان. ثالثا: اذا تأملنا وظيفة الانسان وحقيقة وجوده ورسالته في الارض, فانها تنبني على تكليفين اساسيين هما: 1ـ تكليف الانسان برعاية حقوق الله. 2ـ وتكليفه برعاية حقوق الناس من حوله. واذا قارنا التكليف الاول بالثاني, وجدنا الاول محدودا للغاية ويسيرا جدا وذلك في نطاق المسؤولية بالنسبة للثاني, ويمكن للقارىء الوقوف على كنه هذه الحقيقة بالرجوع الى مراجع الفقه او الشريعة او القانون للتأكد من ذلك, فضلا عن ان حقوق الله تجاه الانسان مبنية على المسامحة, وحقوق الناس مبنية على المشاحة, وبعبارة اخرى, ان اي اهمال لحقوق الله سبحانه وتعالى, او تضييع قد تجبره وتكفره توبة صادقة تتضمن عزما على عدم الرجوع الى الاهمال, اما التعالي والتسلط على الناس والقسوة عليهم وركوب متن الشطط في معاملتهم, وتضييع حقوقهم سواء المادية منها او المعنوية وتحقيرهم, انما يجبره ويغفره عودة الحق المضيع الى صاحبه. وصدق رسولنا عليه الصلاة والسلام, فيما رواه ابو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: من يأخذ عني هذه الكلمات فيعمل بهن او يعلم من يعمل بهن؛ فقال ابو هريرة, قلت انا يارسول الله, فأخذ بيدي وعد خمسا فقال: (اتق المحارم تكن اعبد الناس, وارض بما قسم الله لك تكن اغنى الناس, واحسن الى جارك تكن مؤمنا, واحب للناس ما تحبه لنفسك تكن مسلما, ولا تكثر الضحك فان كثرة الضحك تميت القلب) رواه الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة) رواه البخاري. تناقض خادع ثابت عند علماء الاجتماع والحضارة الانسانية, ان عناصر الحياة الانسانية لهذا الكون تتمثل في كليات ثلاث: الانسان, الحياة, الكون, وان الانسان هو قطب رحاها ومدار سموها او انحدارها, وهو الجزء الذي يفسر الكل والذي لايصلح الكل بدونه. ولما كان النهوض بهذه المهمة للانسان متوقفا على تسامي نفسه فوق ذاتها فقد نبهته الشرائع الى حقيقتين وبصرته بشيئين, داخلين في تركيبه وبنائه العضوي والنفسي وبينهما في الظاهر ما يشبه التعارض والتنافر. الاولى: انه مخلوق اصله من تراب, وسلالته بعد ذلك من ماء مهين, ويغلب عليه مع ذلك انه متكبر ومتغطرس, ومجادل, ومكابر, ومعاند. الثانية: رغم الحقيقة الاولى المؤلمة فهناك حقيقة اخرى مضمونها ان الانسان مخلوق مكرم على سائر المخلوقات وان الله سبحانه امر الملائكة بتعظيمه والسجود له, وسلحه الله بالعقل والتفكير ووضع في يده مفاتيح القدرة على ادارة الامور وتسيير الاعمال. ولسائل ان يسأل: كيف يجتمع هذان المتناقضان ضمن تشكيل عضوي واحد, وما اثر لفت نظر الانسان الى اتصافه بكليهما؟ وجه ذلك ـ والله سبحانه اعلم ـ ان الانسان مهما بلغت رتبته من السمو ومهما اتصف به من نبوغ, فليس شيء من ذلك نابع من ذاته, وانما جاءه كل ذلك منحة من الله عز وجل وامانة استودعت عنده الى حين غير ان الله عندما اراد ان يختاره لعمارة الارض وكلفه بتأليف اسرة انسانية كبيرة يقيم بها ومن خلالها ميزان العدالة, جهزه بملكات وقدرات لاتوجد في غيره. اما وجه تذكير الشرائع للانسان دائما وابدا بهاتين الحقيقتين معا: ضآلة اصله, مع علو شأنه, فلان الانسان الذي يريده الله هو الذي نشأ في ظل هاتين الحقيقتين وعاش يستلهم غذاءه الروحي من معرفة اصله وحقيقته وضآلة شأنه, ثم من معرفة ما انعم به عليه الخالق سبحانه مع ذلك من صفات وملكات, وما شرفه به من مسؤولية اقامة العدل في الارض. قصدان متكاملان وعلى سبيل الاجمال فان الشأم فيمن لم ينتبه الى مجموع كيانه وهويته ان يتطرق به الامر اما الى سبيل التكبر وظلم الآخرين ان امكنته الفرصة, واما الى سبيل المهانة والخنوع ان خذلته الآمال ولم تسنح له الفرص, ومن هذين السبيلين يتحقق ما نسميه الظلم والافساد. فالموضوع في جملته وتفصيله ليس الا الوصفة العلاجية الواقية من كلا هذين الوبائين: الاستعلاء, والاستخذاء ونحن نقدر هذا في مجتمعاتنا الشرقية التي سادت فيها اعراف غلبت في كثير من الاحيان منطق العاطفة على منطق العقل, ومنطق الشائعة على منطق الصدق والحقيقة, ومنطق الاتهام قبل منطق البراءة وتكتيف صوت الحق. لذا فقد راعى المشرع ان يحاط التحقيق بشيء من الضمانات التي تراعي كرامة الموظف جنبا الى جنبا مع كرامة الوظيفة, فليس المقصود من التحقيق القاء التهم على الابرياء جزافا وهذه الضمانات قصد بها الادارة وقصد بها الموظف. اما عن قصد الادارة: فالانسان خلق ضعيفا, موظفا صغيرا كان ام مسؤولا كبيرا, والسلطة تغري بالشطط وتجاوز الحدود, فاذا حدث ان تجاوزت الادارة حدودها مع الموظف ثم فاءت الى رشدها ورجعت عن شططها, قد يكون من المتعذر رد الامور الى نصابها واعادة الحقوق الى اصحابها. اما عن قصد الموظف: فهو ان كان مقيدا بقيود تفرضها عليه وظيفته فليس معنى ذلك ان يهون او يذل لغيره, فهذه آفة اي عمل اداري او غير اداري. فالعمل الناجح والادارة الناجحة لا يمكن ان تتحصل مطلقا من مركبي الاستكبار والخنوع, ولكن النجاح الحقيقي يتحصل من معرفة كل طرف من الطرفين اين يبدأ واجبه واين ينتهي ومن صدق هذه المعرفة تنبثق بذور التعاون الصادق والعمل المثمر الناجح,فاذا كانت الادارة جهازا علميا رائعا لقضاء المصالح وانجاز المهام وتسيير الاعمال لما فيه المصلحة العامة, فان اهم اداة هذا الجهاز هو الانسان, بل هو مفتاح اي سلوك اداري ناجح, فاذا فقد ذلك المفتاح او تهشمت اسنانه او ادير في موضعه من باب الادارة بعنف, سرعان ما ينكسر او يتحطم فلا ابقت الادارة على المفتاح ولا هي انجزت المهام الموكلة اليها, بل ان التجربة العملية اثبتت انه كلما زاد حجم العمل الاداري اتساعا ودقة كلما برز دور ذلك المفتاح فيه. وصدق الله العظيم اذ يقول في كتابه الكريم: (قل لا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا اقول لكم اني ملك ان اتبع الا ما يوحى الي قل هل يستوي الاعمى والبصير افلا تتفكرون) . سور الانعام (50) * الكليات والمعاهد بشرطة دبي

Email