توطين الفلسطينين بين الخيالي والممكن؟، بقلم د. شفيق ناظم الغبرا

ت + ت - الحجم الطبيعي

تكثر هذه الايام في العالم العربي نغمة توطين الفلسطينيين وتطرح مع الكثير من الاثارة. والتوطين موضوع قديم, طرح في الخمسينات في اطار اكثر من تصور هدفه امتصاص الدولة العربية للاجئين الفلسطينيين. وقد نظر في حينها لمسألة التوطين على أنها محاولة اسرائىلية لمنع امكانية عودة الشعب الفلسطيني الى اراضيه التي احتلت عام 1948م . ولكن بعد عقود على الصراع وبعد عدة حروب, ومع بدء مرحلة السلام العربية الاسرائىلية عاد موضوع التوطين ليطرح نفسه على الساحة العربية السياسية. لنبدأ في مسألة الحق القانوني للفلسطينيين في العودة لاراضيهم, فهذا حق تاريخي وقانوني مرتبط بالقرارات الدولية التي تسمح للاجئين في اي مكان وابنائهم بالعودة, ولكن المسألة كما اكدت عقود الصراع ليست بيد الحل القانوني, بل هي مرتبطة الآن بامكانية ملائمة هذا الحق القانوني مع الحق الواقعي. وبينما نجد ان الحق القانوني يشكل ارضية للتفاوض العربي الاسرائىلي في قضايا اللاجئين (العودة والتعويض) الا ان الحل الواقعي هو الذي يطبق على ارض الواقع, فواقعيا لن يكون هناك عودة فلسطينية بالمعنى الشامل الى اراضي 1948 بلا تحقيق نصر عسكري شامل على اسرائىل, و هذا الامر (الحل العسكري) تمت تجربته على مدى عقود الصراع منذ حرب 1948 ولم يؤد الى هذه النتيجة. ان المدقق بأوضاع الفلسطينيين في العالم سوف يجد تأقلما مع الكثير من الدول والانظمة وانتشارا يصعب جمعه في صيغة واحدة. فمن جهة نجد ان الاردن بالتحديد استوعب مئات الآلاف بل ملايين من لاجئي 1948 ولاجئي 1967, وذلك من خلال تحويلهم الى مواطنين اردنيين وهذا بحد ذاته يشكل استيعابا لاكبر نسبة من متضرري اسوأ حربين في تاريخ الصراع العربي الاسرائىلي, وهذه خطوة افادت الاردن وافادت الفلسطينيين, وعدم القيام بها كان سيخلق مشكلة دائمة لا حل لها. وسوف نجد ايضا ان الدولة الفلسطينية ستكون عندما تنشأ محطة رئيسية وحاسمة في استيعاب مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين, فمعظم سكان غزة البالغ عددهم أكثر من مليون نسمة هم بالاساس من لاجئي حرب 1948, كما ان معظم أو نصف سكان الضفة الغربية هم من لاجئي تلك الحرب, كما سيقع على الدولة الفلسطينية عبء استيعاب الكثير من اللاجئين الفلسطينيين المنتشرين الآن في مناطق عدة في العالم العربي اساسا. وقد عاد حتى الان ومنذ توقيع اتفاقات اوسلو عشرات الآلاف من الفلسطينيين كانوا في تونس وفي السودان واليمن ودول اخرى. لهذا يمكن القول ان قضية اللاجئين مرتبطة اساسا بالواقع وبما هو قابل للتطبيق والتحقيق. وفي هذا المجال نجد ان الاردن والدولة الفلسطينية بالتحديد هم الاكثر مقدرة على الاستيعاب وهذا ما يؤكده التاريخ, وان عملية الاستيعاب هذه والتي يطلق عليها (التوطين) تطورت ووقعت على مدى عدة عقود. لهذا فالصرخة الان حول الامر جاءت متأخرة وهي لن تغير كثيرا في المعادلة. ولكن ماذا عن حالة اللاجئين في كل من لبنان وسوريا, حيث تتردد صرخة اخرى حول مخاطر (التوطين) يمكن القول ان سوريا تعاملت مع الفلسطينيين على ارضية المساواة التامة, وهي من الدول العربية التي انطلقت من ان فلسطين هي سوريا الجنوبية, وتصرفت على هذا الاساس مع الفلسطينيين في كافة مجالات العمل والحياة, والموقف السوري من عدم تجنيس الفلسطينيين حتى الان مرتبط اساسا بالموقف السياسي الذي يسعى لادامة قضية اللاجئين كقضية سياسية. ولكن في نهاية المطاف لا تواجه سوريا مشكلة حقيقية في استيعاب الفلسطينيين اذ تم استيعابهم في سوريا منذ عقود. أما في لبنان فقد اختلف الوضع. وهناك توازنات طائفية وتخوف من الاخلال بالتركيبة الطائفية وبفرص الوظيفة للبنانيين اضافة الى التخوف من الدور السياسي الذي لعبه الفلسطينيون في العقود السابقة, لهذا يأخذ موضوع التوطين في لبنان ابعادا اكبر حجما ويعاني من تضخيم وهو محمل بأرث الماضي بأكثر مما هو محمل بآفاق المستقبل الايجابي الذي ينتظر لبنان ويجب ان ينتظر المنطقة في المرحلة المقبلة. وبالرغم من حساسية الحالة اللبنانية الفلسطينيية الا انه من الضروري التعامل مع المشكلة بالكثير من الواقعية. ان الوجود المدني الفلسطيني في لبنان هو جزء من الواقع الاجتماعي في لبنان, وان الحل الانساني والسياسي يجب ان يكون السقف الذي يعمل لبنان من اجله. وهذا الحل يجب ان يقف في نقطة وسط بين سياسة الرفض الكامل للوجود المدني الفلسطيني او سياسة القبول الشامل بهذا الوجود مع تبعاته السياسية. بل من الافضل ان يسعى لبنان لتجزأة المشكلة والتعامل معها من خلال اعطاء الفلسطينيين في لبنان حقوقا في الاقامة مع السعي لاستيعابهم في الاقتصاد الخاص واعتبارهم بنفس الوقت مواطنين في الدولة الفلسطينية. بمعنى آخر: بالامكان استيعاب الكتلة الفلسطينية بطريقة تحفظ للبنانيين التوازنات السياسية الرئيسية وتعطي للبنان بعده الحضاري وبنفس الوقت تقدم للفلسطينيين في لبنان الامن الاجتماعي والاقتصادي والانساني القائم على الانخراط بالعمل والانتاج. وفي واحدة من القضايا التي تتردد حول موضوع التوطين اثارة امكانية قيام العراق باستيعاب ربع مليون فلسطيني في اراضيه.. وتقول بعض الاوساط ان هذه طريقة العراق لرفع العقوبات ولتطبيع علاقاته الامريكية, وانها ورقة يرميها العراق للولايات المتحدة, ولكن المدقق بالعلاقة الامريكية العراقية والمدقق بالواقع العراقي والوضع الفلسطيني يرى في هذا المشروع بعدا كبيرا عن الواقع. ونتذكر جيدا ماذا حل بالمليون مصري الذين ذهبوا للعراق واستقروا في زراعة الارض فقد خرجوا من العراق وسط ظروف غامضة وصعبة, من جهة اخرى لن يكون للعراق مقدرة على الاستيعاب في ظل ظروفه الراهنة الاقتصادية والانسانية, من جهة ثالثة لن تتحرك مشاريع من هذا القبيل في ظل حكم الرئىس العراقي.. ومن جهة رابعة من الصعب تحريك كتلة بشرية كبيرة من مكان الى آخر كما تؤكد معظم شواهد التاريخ الحديث في البلاد العربية بدون وقوع احداث عسكرية وامنية كبيرة.. واخيرا من الصعب على الفلسطينيين في لبنان أو سوريا أو غيرهما القبول بالانتقال كتجمع بشري الى العراق في الظروف الراهنة أو المستقبلية الا على اساس تعاقد فردي وحر. التوطين اذن مسألة قديمة, ولكن النظر اليها في اطار تجزئتها الى عدة ابعاد ومستويات يساعدنا على التعامل معها بواقعية اكبر.. وقد ينجح الجانب العربي والمفاوض من اكثر من دولة عربية في فرض بعض صيغ العودة على اسرائىل (لم الشمل) وقد ينجح في فرض التعويضات بشكل أو بآخر بصيغة أو باخرى, ولكن لن ينجح في تقديم حل متكامل لهذا الامر يقوم على مبدأ العودة الشاملة. مرة ثانية تثار في الخطاب السياسي العربي قضايا تتجاوز ما نستطيع تحقيقه, وهذا يقودنا لمنطق التضخيم, في نهاية الطريق هناك حل سياسي للصراع العربي الاسرائىلي وقضايا اللاجئين سوف يتم التعامل معها وسط تعقيدات هذا الحل السياسي والصراع على شكله النهائي. استاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة الكويت

Email