نسخ النسخ في اتفاقيات واي ريفر، بقلم رضي الموسوي

ت + ت - الحجم الطبيعي

المشهد مؤثر جدا, وكأنه يعبر عن الحال العربي والهاوية التي وصل اليها: مجاميع تنتظر اسرى الحرب بعد اربع اتفاقيات سلام او اكثر, وهذا هو الاستثناء الذي يتحول دائما الى قاعدة في الكيان.والفرز هنا مقصود, يأتي بعد الخلط بين الاسير والسجين الجنائي, ثم ينتهي بفصل من ينتمي الى حماس او الجهاد الاسلامي ليبقى وقتا اطول في المعتقلات, ليخرج بعد ذلك بضعة عشرات من السجن الصغير الى ما هو اكبر منه. لقد تحول المكان الى فرح ومناحة في آن واحد, ولم يكن امام المفرج عنهم الا التأكيد على استمرار العمل من اجل الافراج عن زملائهم الذين لا يزالون, وهم بالمئات, بعد ان عبد اتفاق واي ريفر المعدل الطريق لخروج هؤلاء, الذين ارادت تل ابيب من خطوتها هذه ان تبدأ عملية تقسيم جديدة في داخل المجتمع الفلسطيني دون ان تستثني القدس, حيث لم يخرج احد من ابنائها المعتقلين باعتبارها لا ترجع ولن ترجع للسيادة الفلسطينية انما, حسب تأكيدات جنرالات الجيش وزعماء الحكومة في الكيان, هي العاصمة الأبدية (لاسرائيل). اذن فهذه هي خلاصة التوقيع على التوقيع الاول لاتفاق (واي 2). فالتشذيب وتعويم الالتزامات الصهيونية للتخلص منها لاحقا كان السمة التي جعلت وزيرة الخارجية الامريكية (اولبرايت) ترفض العودة للمنطقة والامتناع عن الضغط او التدخل في تنفيذ اتفاق واي بلانتيشن تحت الرعاية الامريكية وفي عقر دارها. والتحول الامريكي هذا جاء بناء على رغبة صهيونية بالبقاء بعيدا الا في الحاجة الماسة, اي حين يرى المفاوض الصهيوني رغبة شديدة في الاستعانة بالجهد الامريكي لاثناء الفلسطينيين عن موقفهم. ولا يهم اذا تمت اقالة رئيس المفاوضين بصورة مؤقتة ثم اعادته بعد ان يتم التوقيع على نصف عدد الاسرى حسب الرغبة الصهيونية. وهنا تبدو الصورة اكثر وضوحا, حيث جرت عملية خلط الاوراق من جديد, اللعب على الوقت والتواريخ. فقد كان الكيان يصر على الدخول في مفاوضات الحل النهائي, حتى جاء اتفاق واي بلانتيشن قبل عام للملمة سير المفاوضات, ثم سقطت حكومة نتانياهو واستبشر العرب خيرا (بباراك) العمالي, فاذا هو يسير على ذات النهج الليكودي, لكنه قادر على تغيير بعض الصياغات في الفقرات التي تحوي الاتفاق, فتمكن من الشروع في مفاوضات الحل النهائي ترافقا مع الافراج عن بعض المعتقلين. والانسحاب عن جزء من الاراضي, حيث تمكنت حكومة (ايهود باراك) بالزام الجانب الفلسطيني بالدخول في مفاوضات الحل النهائي في موعد يقع بين التوقيع على الاتفاق الجديد وبين تنفيذ الانسحابات الجزئية, في الثالث من سبتمبر الماضي تذكيرا باتفاق (اوسلو) الذي وقع في نفس التاريخ قبل ست سنوات. هكذا تم نسخ اتفاق واي ريفر الاول باتفاق معدل يخضع للشروط الاسرائيلية. فما بدأ به (نتانياهو) خلص اليه (باراك) وحصل عليه, ما يؤكد عدم وجود فرق بين الليكود والعمل حين تجري المفاوضات مع الخارج الفلسطيني والسوري واللبناني وحتى الاردني. فالاستراتيجية واحدة لكن الوسائل والسبل مختلفة, والاتفاق الاخير, حسب تصريحات احدى الشخصيات القيادية في حركة فتح اضاف تنازلا جديدا ورضوخا للتفسيرات الاسرائيلية, والفلسطينيون ليس لديهم ما يتنازلوا عنه, فكل الشروط التي فرضتها تل ابيب في حوارات سابقة وانية قد حققتها بفضل قصر نظر المفاوض الفلسطيني والنهج العام الذي سارت عليه هذه المفاوضات. فاذا كانت (اوسلو) لم تشهد على وجود خرائط فلسطينية, فان الاعوام التي لحقت العام 1993م لم تكن افضل فالاتفاقات السنوية لتنفيذ الاتفاقات السابقة كانت في احسن الاحوال تجميد التنفيذ الذي هو اصلا قائم على تنازل فلسطيني. يقال ان الهاوية ليس لها قاع, ويبدو ان نقض الاتفاقيات من الجانب الصهيوني اصبح نهجا مادام هناك المزيد من التنازلات الواقعية, فلا اتفاق اوسلو نفذ, حيث وقع عليه اتفاق اخر بعد عام لتنفيذ الاتفاق الاول في القاهرة عام 1994م, ثم تلى ذلك اتفاق آخر بين الجانبين الصهيوني والفلسطيني, بعد اتفاق اوسلو رقم 2 بالبيت الابيض الامريكي وذلك في سبتمبر من العام 1995م وبعدها بعامين تم التوقيع على اتفاق بين الفلسطينيين والصهاينة لجدولة انسحابات صهيونية مقررة سلفا من الخليل وبعض المناطق في الضفة الغربية, وفي اكتوبر من العام الماضي وقع الفلسطينيون والصهاينة وشاهد امريكي على اتفاق واي ريفر لم ينفذ منها شيء يذكر ليلحقها الاتفاق الاخير الذي تم بشروط مزدوجة بين الليكود الذي كان يحكم انذاك والعمل الذي يحكم في الوقت الراهن. هكذا تبدو المفاوضات وكأنها حالة من العبثية هدفها ابقاء الاحتلال واستمراره, حيث ان اي انسحاب محتمل يتوازى مع تجذير المستوطنات في كل الاراضي المحتلة. لماذا كل هذه التنازلات؟ قد يكون التاريخ افضل من يجاوب على هذا التساؤل فخلال العقود الاربعة الماضية والتي شهدت انطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة تحت عنوان (فتح) الواسع لم تدخل القيادة الفلسطينية في مفاوضات الا وخسرتها, ابتداء من سبتمبر 1970م وانتهاء بالاتفاق المعدل (الواي ريفر2) وبين هذا وذاك مصائب من التعهدات والاتفاقيات واللعب تحت الطاولة بعقد الصفقات العديدة. حتى الانسحاب الذي تم للمقاتلين الفلسطينيين من بيروت في شهر اغسطس من العام 1982م لم يكن ليخرج بهذه الصورة الا بعد ان جرد الجميع من كل شيء ليبقى الحق المطلق الذي لا راد لقضائه متمثلا في الشرط الصهيوني والارباك الفلسطيني الذي اوصل فلسطينيي الداخل والخارج الى جدار مسدود. فالاوليون يواجهون حالة من الفساد المستشري في صفوف السلطة الوطنية لدرجة (تبخر) ملايين الدولارات التي قدمتها الدول المانحة بما فيها دول عربية, حيث فقدت الموازنة العامة نحو نصف المبالغ بسبب التسيب الاداري والمالي, الامر الذي حدا باغلب هذه الدول التوقف والاحجام عن دفع مساعداتها للسلطة الفلسطينية, بينما فضلت دول اخرى مراقبة الاموال التي تقدمها مراقبة محكمة. وقد وجهت هيئات مستقلة وفصائل سياسية تعمل في الساحة الفلسطينية انتقادات للطريقة التي تدار بها كانتونات الحكم الذاتي ابتداء من حقوق الانسان وانتهاء بصياغة اولويات السلطة وانفاقها. وقعت الاطراف على واي ريفر 2 مطلع الشهر الماضي وبدأت مفاوضات اخرى في كيفية التنفيذ وعدد المعتقلين الذين ستفرج عنهم تل ابيب على دفعات, فيما الشرخ الفلسطيني يزداد اتساعا, اذا لم تشفع اللقاءات التي تمت بين قيادة السلطة من جهة وبين قيادات في الجبهتين الشعبية والديمقراطية, من الانتقادات العنيفة من قبل الاخيرتين للاتفاق الاخير, حيث تبين بوضوح ان رغبة الحوار مع الفصائل ليست استراتيجية تنزع لتحقيق الوطنية الفلسطينية بقدر ماهي تكتيك يهدف للتغطية على التنازلات الاضافية. ربما يتوجب الآن البدء في تحرك عربي طال انتظاره منذ سنوات, هذا التحرك لن تكون له مهمة قلب الطاولة, بل ايقاف التدهور الحاصل على جبهة المفاوضات في ظل الفرجة الواسعة, وعدم الادراك بان المقصود ليس فلسطينيي الداخل والشتات فحسب انما يتجاوز الحلم الصهيوني هذا الامر ليصل الى كيفية تحويل القدس عاصمة ابدية للكيان بالرغم من اعتراضات العالم اجمع, فترويج المدينة المقدسة في المحافل الدولية ليس الا البداية التي ربما لن تجد من يوقفها مادام الوضع القائم لم يحرك ساكنا. والمفاوضات التي يريد البعض وصول خطها النهائي لن تكون الا بهرولة وسباق ماراثوني على طريقة الذي رأيناه بعيد حرب الخليج الثانية, وكأن الرغبة الصهيونية اضحت قدرا لا راد لقضائه. والمشكلة ليس في الاتفاق الاخير فقط, انما في الاتفاقات القادمة ايضا والتي يراد لها ان تعمم على كافة المسارات والا فان التهم جاهزة ويمكن تفعيلها على طريقة الحصار وفرض العقوبات والتخريب من الداخل, فليس من الغريب, والمعطيات تسير بهذه الرتابة, ان تجرى المحاولة العلنية الاولى للضغط على لبنان للقبول بالشروط الاسرائيلية في تنفيذ اتفاق مجلس الامن الدولي بخصوص الانسحاب من الجنوب, وهي بادرة خطيرة لاتختلف عن شروط الانسحاب من الجولان. وفي سياق هذه المعمعة, ثمة طبخة اخرى في موقع ليس بعيدا تنتظر ان تنضج تجهيزا لوليمة اخرى. * كاتب بحريني

Email