معركة النصوص وتفسيرها تحتدم في ايران، بقلم د. محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في ايران تدور معركة محتدمة حول النصوص وتفسيرها, وهي معركة ظاهرها الثقافة والفكر وباطنها السياسة والأثرة, وهي جزء من معركة لاتقع في ايران وحدها, بل في العالم الاسلامي قاطبة, خاصة في مناطق التشنج والتغيير فيه, وهي البلاد العربية, وأيضاً تركيا وايران . لذا, فان الحديث عن ايران هو حديث المثل, وليس حديث الحصر. ولأن ايران قريبة منا, ويعنينا كثيراً تطورها السلمي واستقرارها السياسي, فإن الحديث عن تجربتها ليس هو حديث الأباعد, بل الأقربين, وليس حديث العبرة بل حديث الدرس. ولقد شكل النص وتفسيره عمود التغيير والصراع في ايران, منذ فترة تاريخية ليست بالقصيرة. ولعلنا نتذكر ان الثورة الاسلامية في ايران كان أحد العوامل المحركة لها هو (نص) كتبه وزير الاعلام الايراني زمن الشاه في شكل مقال منشور ضد الامام الخميني عندما كان في النجف, وكان المقال قاسياً وغير موضوعي, الى درجة ان بعض أنصار الإمام تظاهروا ضده, فقتل في تلك التظاهرة شخص, احتفل بمقتله بتظاهرة اخرى بعد اربعين يوماً, فقتل فيها عدة أشخاص, ثم بعد أربعين يوماً قتل أكثر, وهكذا الى ان وصل الحال الى ثورة شعبية, شاملة. لا أريد هنا أن يخرج القارىء بانطباع خاطىء بأن ذلك كان كل أسباب الثورة الاسلامية ودوافعها, بالتأكيد كانت هناك عناصر عديدة تدفع شعب ايران للتذمر, ولكني أشير الى ان (النص) وتفسيره, قد لعبا دوراً في التحضير للثورة الاسلامية, كما لعبا أيضا في تطورها بعد ذلك, ولايزالان. ولم يفارق (تفسير النص) مسيرة الثورة الايرانية, فقد كان الاختلاف بين الجماعات والتيارات والمدارس, التي قامت بالثورة أو ساعدت في نجاحها, هو اختلاف على تفسير (النصوص) , ظاهر هذا الاختلاف ـ كما قلت ـ ثقافي وباطنه سياسي, وكان هذا الاختلاف هو بمثابة العض على الاصابع بين تيارات الثورة والمجتمع الايراني التعددي, وكانت الثقافة هي المجال الأوسع للاختلاف والتنافس والصراع. في الثالث والعشرين من مايو سنة 1997 حملت الجماهير الايرانية محمد خاتمي لرئاسة الجمهورية, وقد كانت بذلك تتحزب لتيار من تفسير النصوص مختلف عن التيار الآخر, كلاهما مسلم ولكن له تفسير آخر غير ما يذهب اليه الآخر, وكان ذلك التفسير الذي تحزب اليه أغلبية الايرانيين في مايو سنة 97 هو الذي أخرج الرجل نفسه محمد خاتمي من وزارة الارشاد الاسلامي في سنة ,1993 وهو تفسير منفتح ومواكب للعصر. حتى من كان له موقف حاد من الجمهورية الاسلامية يعترف بأن هناك شيئا من الديمقراطية يمارس في ايران, أفضل بكثير من ممارسات عديدة في العالم الثالث, ولكن الديمقراطية هي أكثر المسائل تعقيداً فيما وصل اليه الفكر الانساني, والممارسة في ايران ـ على أهميتها ـ تثير سمات غير منتظمة تصب ممارساتها تارة في وعاء الديمقراطية, كما يفهم بشكل عام, وتحوم حول الوعاء تارة أخرى, تغيب عنه في مرحلة وتغدو على سطحه في مرحلة أخرى, والأساس في هذا الصعود والهبوط هو (النص) وتفسيراته المختلفة. على الرغم من ان ايران الاسلامية وضعت نصوصاً مختلفة للاحتكام اليها ـ فهناك دستور وقوانين, ومسارات فكرية للمجتمع ـ فإن الممارسة تجعل من تفسير هذه النصوص أمراً مختلفا عليه الى درجة التشدد واللجوء الى الشارع وتسيير التظاهرات ورفع الشعارات. تاريخ الاختلاف على النصوص تعدد في ايران, فقد سحب البرلمان الايراني الثقة من وزير الداخلية السابق عبدالله نوري الذي عينه الرئيس محمد خاتمي, ثم مالبث ان عاد الى العمل نتيجة انتخاب حر في انتخابات البلديات التي تمت في فبراير هذا العام, أعاده الناس البسطاء والناخبون المؤمنون بما يطرحه وأمثاله للمستقبل الايراني, ثم قدم رئيس البلدية غلوم حسين كرباتشي الى المحاكمة, وهو مهندس حملة خاتمي الانتخابية, ورئيس بلدية طهران (عمدة طهران) الذي اعترف له بعمل شبه أسطوري لتجميل وتحسين طهران بعد سنوات الاهمال, وحكم عليه في محاكمة علنية تناقلت تفاصيلها وسائل الاعلام الدولية. لقد اثبتت آلية الحكم في ايران قربها من المسألة العامة, فقد شهدت الساحة الايرانية استجواب وزير الخارجية السابق علي اكبر ولايتي, كما شهدت محاكمات علنية لرؤساء تحرير صحف ورؤساء دوائر رسمية, وهي آلية ديمقراطية حسنة ان كان لها ضوابط واجراءات دقيقة, وهي سلبية ان استخدمت استخداما سياسيا بحتا لتصفية المعارضين السياسيين. ثم عادت مشكلة النصوص من جديد في تقديم عطاء الله مهاجراني وزير الارشاد الإسلامي (الاعلام والثقافة) إلى الاستجواب في بداية شهر مارس الماضي, وحصل على الثقة بعد مرافعة ثقافية متميزة, اعتقد انها سوف تبقى في التاريخ السياسي الايراني لفترة طويلة, واخيرا في الاسابيع القليلة الماضية اصبح (النص المسرحي) الذي نشرته احدى الصحف هو محور المعركة السياسية والثقافية التي نشهدها اليوم في طهران. معركة النصوص في ايران سوف تبقى, على الاقل, إلى أن يقرر المجتمع الايراني اي توجه يريد ان يسلك, ولعل الانتخابات المقبلة لمجلس الشورى الايراني سوف تفصل إلى حد كبير في هذا النقاش الدائم بين من يعرفون الان بالاصلاحيين والمتشددين, وكلا الفريقين, بالمناسبة, يعطي وصفا اكثر حدة لمعارضيه, ولكن ايضا سيبقى الجدل قائما في البحث عن طريق مناسب لتحقيق معادلة التنمية والعدل والحريات في المجتمعات الاسلامية, وسيبقى الصراع الفكري قائما, تحاول جميع فئاته ان تلتحف بعباءة الاسلام, وتقديم الادلة على وجهة نظرها بطريق متسامح أو غير ذلك, اي باستخدام العنف, وكل ذلك من خلال (نصوص) . قلت ان مرافعة عطاء الله مهاجراني في مجلس الشورى الايراني في مارس الماضي (وهو يحمل لقب آية الله) ستبقى دليلا على قدرة المسلم المثقف ثقافة عالية أن يقدم الدليل التاريخي على التسامح الذي اسس عليه الاسلام, فقد استخدم في مرافعته تلك جزءا من الخزين الاسلامي المؤسس على التسامح الفني الثقافي وهو كثير لا يتسع المقام الا لرواية بعضه, فاخبر ناقديه ان (امير المؤمنين علي بن ابي طالب رضي الله عنه سئل عن افضل الشعراء واحسنهم شعرا لديه فقال: امرؤ القيس, على الرغم من انه كتب قصيدة من الشعر ضمنها احاسيسه ووصفه للسكر والغزل, والرعد والبرق, كان هذا رأي امير المؤمنين في امرىء القيس بالرغم من علمه بشعره وبشعر غيره من الشعراء. الا ان اخطر قراءة فيما قدمه مهاجراني ما قاله عن السماح لنشر الكتب, فقد قال في تلك المرافعة (ان مساعد وزير الارشاد قد كتب رسالة إلى آية الله بهشتي (محافظ) باعتباره رئيسا للسلطة القضائية, سأله فيها هل من حقنا ان نطالع مضامين الكتب قبل طبعها, فأجاب بالنفي, هذه الشهادة تدلل للمتابع على ان الخلاف سياسي اكثر منه شيئا اخر, كما تؤكد على موقف اسلامي من حرية التعبير. الخزين الاسلامي في التسامح الثقافي وقبول الاخر وتمكين المخالفين من طرح الرأي ومقابلته بالرأي الاخر, والدعوة بالحسنى وتآلف القلوب هو معين لا ينضب لمن يريد ان يعرف أو يتعرف على السلوك الثقافي في الاسلام, وان كانت الدعوة بالحسنى تنطبق على الدعوة للدين الحنيف فهي دون شك واجبة ان تنطبق على غيرها من الممارسات الانسانية الاخرى والتي هي بطبعها خلافية واجتهادية. الاشكالية الاساسية المطروحة على الجميع في ايران وخارجها, ليست هي التفسير الجامد للنصوص, وانما اعمال روحها, لان هذا الاعمال هو الذي يساير متطلبات الزمان والمكان, وهو الذي يتيح للانسان, الذي استخلفه الله على الارض, الفرصة لتحقيق انسانيته, واعمار الارض, واعلاء قيم الخير والعدل. معركة المستنيرين في ايران هي معركة الاغلبية الايرانية, وهي ايضا معركة العديد من المسلمين في ارجاء العالم الواسع, وهي ليست معركة سهلة يسيرة, خاصة ان من يخوضها من الاطراف فيهم بعض من تنقصه الثقافة والقدرة على التسامح, ومن لا يتحلى بالصبر والأناة وهي معركة, بجانب كونها ثقافية, لها جذور واهداف سياسية ايضا.

Email