شيخ حارة مصر! بقلم محمود السعدني

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مثل هذه الايام منذ29عاما رحل عن دنيانا الزعيم البطل جمال عبدالناصر, مات في الثانية والخمسين من عمره, في الوقت الذي عاش فيه المعلم قطب82عاما مع انه كان ينام على الرصيف في مواجهة كازينو الحمام بالجيزة, وكان يكتفي في طعامه بما يجود به الكرماء , عاش عبدالناصر لمصر ومات من اجلها, وخلال حياته التي مرت كالحلم كان اشهى طعام لديه هو الجبنة البيضاء, وافخر رحلاته الترفيهية إلى برج العرب, واحلى سهراته في السينما الملحقة بمنزله, وبعد موته بسنوات طويلة شن بعد الارازل من المصريين حملة شعواء ضد البطل فاتهمه احدهم بأنه حرامي, واتهمه احدهم بالاتجار في العملة الصعبة! العجيب ان هؤلاء السادة الاشاوس عاشوا في عهد عبدالناصر يمشون على العجين ما يلخبطوهش, وبعضهم ارسل للرجل برقيات التأييد وعرائض النفاق والمديح, وبعض الذين هاجموا البطل كتبوا ونشروا عقب وفاته مباشرة قصائد المدح في مناقبه, سألت احدهم مرة, لماذا مدحت عبدالناصر في حياته؟ ولماذا هاجمته بعد ذلك؟ أجابني الاشوس اياه: لانني كنت خائفا وهو حي, ومن حق الخائف ان يحمي نفسه من باب التقية! سألت احد الاطباء النفسانيين فأجاب: لابد من دراسة كل حالة على حدة, لان الناس تختلف والاسباب ايضا, ولم اتفق مع الاستاذ الطبيب في الرأي, ربما لانني اعرف السبب الحقيقي في مثل هذا التصرف, فهؤلاء السادة الاشاوس الذين قبضوا بأيديهم على سكاكينهم وهات يا تشريح في جثة عبدالناصر بعد ان مات وشبع موتا في قبره, انما يفعلون ذلك جميعا لسبب واحد, هو قلة الاصل. موسى ويونس شباب هذه الايام قد لا يعرف شيئا عن نظام شيخ الحارة الذي كان معمولا به في مصر حتى نهاية الخمسينات, وشيخ الحارة كان واحدا من الرعية, ولكنه يتمتع بسمعة طيبة بين الناس ويحظى ايضا بالاحترام في دوائر الشرطة, وكانت المدن المصرية مقسمة إلى حارات, وكل حارة ولها شيخ, الجيزة مثلا كان لها اربع حارات, وكانت حارة رابعة هي اشهر الحارات, وهي الحارة التي انجبت خالدة الذكر المرحومة (سكسكة) اشهر فتوات الجيزة فترة طويلة من الزمان, ولايزال الاحياء من ضباط الشرطة العظام يتذكرون المرحومة سكسكة ويذكرون ما قامت به من اعمال اغرب من الخيال, اللواء الوزير السابق حسن ابوباشا عرف المرحومة سكسكة عندما عمل في قسم الجيزة في بداية عمله بالشرطة برتبة ملازم, واللواء هجرس, كان بينه وبين سكسكة حوادث وحكايات عندما كان مأمورا لقسم الجيزة, وايضا اللواء جمال شكري الذي عمل مأمورا للجيزة في الخمسينات, واذا كانت حارة رابعة هي اشهر حارات الجيزة, فان اشهر شيخ حارات الجيزة كان الحاج عوف شيخ حارة اول, ولقد تشرفت بمعرفة الحاج عوف في آخر ايام حياته, واكتشفت انه يعرف كل اسرار الجيزة وادركت لحظتها انه ليس كل انسان يصلح للمنصب, ولكن يصلح له من كان مثل الحاج عوف يعرف اسرار المنازل واسرار الناس, وكنت اظن ان هذا الطراز من الناس قد اصبح نادر الوجود الان, غير انني اكتشفت ان هناك من بين اصدقائي من يصلح لهذا المنصب, ليس شيخا للحارة على مستوى النظام القديم, ولكن شيخ حارة لمصر كلها ومن مرسى مطروح إلى اسوان, الاول هو اللواء الوزير السابق عبدالحليم موسى, وهو زعيم شعبي بكل معنى الكلمة, ويصلح رئيسا لحزب شعبي جماهيري من مستوى رفيع, اسأله احيانا عن شخص في المنصورة أو دمنهور أو دمياط أو اسيوط, ويأتيني الجواب على الفور, من أبوه؟ ومن امه؟ ومن خالته؟ ومن زوج عمته؟ ومثلا, كيف مات جده وعن اي عمر يرحمه الله؟ وعندما ترك منصبه كمحافظ لاسيوط وجاء إلى القاهرة ليتولى منصب وزير الداخلية, ترك وراءه على الاقل عدة آلاف من اهالي المحافظة يمكنك ان تصفهم بأنهم اصدقاء شخصيون, رجال سياسة وموظفون وعمد واعيان, وخفر وفلاحون وناس على باب الكريم, ذات مرة امعن النظر في صورة قديمة التقطت للعبد لله في حفل اقيم في اسيوط عام ,1970 وكان يحضر الحفل المرحوم شعراوي جمعة وعدد من لواءات الشرطة منهم اللواء رأفت البسطويسي واللواء مصطفى الكسار واللواء حسن طلعت, وبعد فترة سألني قائلا: انت تعرف الجدع ده؟ وتصورت انه يقصد أحد اللواءات, ولكني اكتشفت انه يقصد شخصا كان يقف خلف الصفوف يرتدي جلبابا صوفيا وكوفيه ويحمل بندقية على كتفه, كنت قد نسيت الرجل ولكني عدت فتذكرته, فقد كان من ضمن الذين حصلوا على مكافأة مالية في هذا الحفل بسبب ادائهم المتميز في خدمة الامن, وانطلق اللواء عبدالحليم موسى يقول: انه خفير نظامي في مركز درنكة بأسيوط, وهو ابن الرجل الشهير المعروف باسم (الخط) واذا كان والده سببا في اصابة جهاز الامن بصداع خطير ودائم, فان ابن الخط خفير نظامي ممتاز وهو شجاع ومقاتل شديد المراس وادى للامن خدمات كثيرة, سألت اللواء عبدالحليم موسى, هل تعرفه؟ قال بالطبع, وقابلته في المحافظة عدة مرات ومنحته مكافآت مالية وشهادات تقدير, واحمل له تقديرا كبيرا واحتراما شديدا كرجل يحترم كلمته ويؤدي وظيفته باخلاص شديد. شيخ حارة مصر الثاني هو المستشار عبدالحميد يونس, انه يعرف اصل وفصل 80% على الاقل من اهل مصر, كتب اخيرا فصلا مدهشا عن شخص ينتحل صفة (المستشار) مع انه لم يصل خلال حياته الوظيفية الا لدرجة مساعد مستشار وقد نشأ في مدينة ريفية ووالده كان يعمل بقالا في المدينة, وكان له قريب يشغل منصبا كبيرا في الحكومة, وخلال الحرب العالمية الاخيرة زار قريبه ليتوسط من اجل حصول والده البقال على كمية المواد التموينية المخصصة للمدينة, ولما كان طلب (المستشار) غير عادل, لان تحقيقه يعني حرمان كل البقالين في المدينة اياها من حصص التموين, لذلك رفض الباشا المسؤول الاستجابة لطلب المستشار اياه, وكان لايزال طالبا في ذلك الوقت, وعلى الفور قام الطالب الذي اصبح (مستشارا) فيما بعد بشن حملة شعواء على الوزير قريبه, وجاءت الحملة على صورة مقالات كان ينشرها في جريدة (الكتلة) لسان حال حزب الكتلة الذي كان يرأسه مكرم عبيد باشا وكان الباشا مكرم عبيد يقدم هذه المقالات بعبارة من سطر واحد (وشهد شاهد من اهلها) باعتبار ان كاتب المقال من عائلة الوزير الوفدي الذي كان من اشرف السياسيين الذين عرفتهم مصر, واتحرق شوقا الان لمقابلة شيخ حارة مصر الثاني المستشار عبدالحميد يونس لأسأله عن هذا الشخص الذي ينتحل صفة مستشار مع انه لم يكن مستشارا في اي وقت, والذي ادت به قلة الاصل إلى شن حملة ظالمة ضد عمه الوزير لانه رفض منح اخيه البقال كل كميات التموين المخصصة للمدينة الريفية. ولا ادري لماذا تذكرت الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بعد ان قرأت مقال المستشار عبدالحميد يونس, ربما هي قلة الاصل التي تربط بين (المستشار) اياه وهؤلاء الذين شنوا حملات عنترية ضد عبدالناصر بعد موته, ولكن التاريخ لا يرحم هؤلاء الناس ولا يحترمهم, لانهم غالبا جبناء وعديمو الاصل, ليت المستشار عبدالحميد يونس ـ بمناسبة ذكرى رحيل عبدالناصر ـ يقدم لنا كتابا يكشف فيه عن اصل وفصل هؤلاء الجبناء الذين هاجموا عبدالناصر بعد ان مات وشبع موتا في قبره, لعل مثل هذا الكتاب يكون عبرة لهؤلاء الذين نصبوا انفسهم فتوات على مقابر البساتين والخفير والنخال والامام الشافعي.

Email