من يدفع لعازف المزمار؟كشف المستور في صراع الجواسيس، بقلم: د. محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

عادة عندما تسقط الدول, تستمر الاسرار لفترة من الزمن في الخفاء, ثم تتكشف شيئا فشيئا وتظهر, وهذا ما حدث اخيرا لاسرار الاتحاد السوفييتي السابق, فقد تبين من مذكرات ميتروخين, عميل المخابرات السوفييتي, والتي نشرت فصول منها اخيرا في بريطانيا على شكل كتاب بعنوان(ارشيف ميتروخين)ان هناك عالما خفيا في صراع الامبراطوريات في النصف الثاني من القرن العشرين, اشد ضراوة من الصراع على المستعمرات في القرن الثامن عشر, وقد اضاف هذا الكتاب لمعرفتنا اضافات جديدة في سوق رائجة هي تهريب وثائق جهاز المخابرات السوفييتي السابق إلى العالم الحر. لقد تكشف ان هناك العديد من (الجواسيس) بسبب المال أو بسبب الايديولوجيا قدموا خدماتهم للامبراطورية السوفييتية ابان احتدام الحرب الباردة, منهم على سبيل المثال (الجدة) الانجليزية البالغة من العمر سبعا وثمانين سنة اليوم, وقد خدمت الجهاز السري السوفييتي طيلة اربعة عقود متتالية دون مقابل مادي, وقضيتها الان محط نقاش في الاوساط البريطانية: هل تقدم للمحاكمة على ما فعلت بوطنها, أم ان سنها من جهة, وانهيار وذوبان الاتحاد السوفييتي من جهة اخرى يشفعان لها ما اقترفت في الماضي؟ ولم نكن نحن العرب بعيدا عن صراع (الجواسيس) , فقد كشفت مذكرات السياسيين والكتاب والوثائق المهربة عن تورط مجموعة من العرب (المناضلين) في شبكة المعلومات السوفييتية, وهي شبكة تبنت امثالها دول اوروبا الشرقية, وكذلك بعض الانظمة العربية, ناهيك عن الشبكات الغربية التي انتشرت بين ظهرانينا في فترة الحرب الباردة. واحد من الاسماء التي ظهرت إلى السطح هو وديع حداد, وهو لمن لا يعرفه من ابناء الجيل الجديد واحد من الفلسطينيين الذين تبنوا (العنف) في مسيرتهم, وخلق جهازا ضاريا, من فتيان وفتيات صغار في السبعينات لم ينج من (عملياتهم) لا الاصدقاء ولا الاعداء. وعندما تظهر هذه المذكرات ضلوع الجهاز السري السوفييتي في التعاون الكثيف مع جهاز وديع حداد, فان ذلك يترك ظلالا كثيفة على العلاقة بين النضال من اجل هدف وطني وبين الاستزلام لجهاز مخابرات اجنبي بالتأكيد اولوياته هي مصالح وطنه قبل اية مصالح اخرى. ضلوع اجهزة المخابرات في الشرق الاوسط له قصص تحكى, ففي مطالعتي لكتاب أو مذكرات طالب شبيب الذي صدر مؤخرا وهو وزير خارجية للبعث العراقي أول استلامه للحكم في بغداد في سنة 1963 وجدته يقول في تلك المذكرات ان الرئيس جمال عبدالناصر اسر له شخصا امريكيا يعمل مستشارا في بغداد, كان قد عمل في القاهرة في بداية الخمسينات وبانه (خبير في الانقلابات) ويحوزه منه, كما يذهب طالب شبيب في مذكراته ان نظامه وقت ذاك قد سلم دبابة روسية حديثة الصنع جلبها عبدالكريم قاسم من الاتحاد السوفييتي, سلمها للجهات الامريكية كي تحصل حكومته على اسلحة متطورة من الولايات المتحدة. قصة المخابرات الاجنبية في الشرق الاوسط قصة تطول, ولعل ما افشى به ابوداوود في مذكراته التي نشرت بالفرنسية, وترجمت بعض فصولها إلى العربية تعطينا دليلا واضحا على اختلاط عجيب بين (النضال من اجل قضية) وبين (العمالة لوطن اخر) والتي لا يكاد يفرق بينهما احد من متعاطي النضال الا من رحم ربي. يذكر ابو داوود في مذكراته تلك ان بعض من جرح في مطار ميونيخ من العرب بعد محاولة اختطاف الرياضيين الاسرائيليين سنة 1972 قد اصبحوا اسرى للسلطات الالمانية, وبما انهم كانوا عبئا سياسيا عليها, فقد طلبت منه الاجهزة الالمانية ان ينظم اختطافا صوريا لطائرة مدنية المانية, ولكنه ـ كما يقول ـ رفض, فلجأوا إلى وديع حداد الذي تعاون جهازه مع الجهاز السري الالماني لاختطاف طائرة المانية سهل له اختطافها, وطالب بالمعتقلين, واخذ ايضا بجانبهم خمسة عشر مليون دولار. قصة المخابرات السوفييتية تظهر اكثر مأساوية في الشرق الاوسط في الركن الجنوبي من الجزيرة العربية, وفي الاحداث الدامية التي تمت في سنة 1986 والتي ظهرت في الوثائق التي نشرتها بعض الشخصيات السوفييتية السابقة ورد عليها السيد علي ناصر, رئيس الجمهورية في (جمهورية اليمن الشعبية السابقة) موضحاً لملابساتها الدامية والحزينة. في تلك الوثائق, هناك دليل قاطع على التدخل الواسع للاتحاد السوفييتي في الشؤون الداخلية لليمن الجنوبي وقت ذاك, من أجل الحفاظ على مصالحه والتمتع بوضع أفضل في جنوب الجزيرة العربية الاستراتيجي وفي الشرق الأوسط, وقام بتأليب فئة يمنية في الحكم ضد فئة اخرى مشاركة لها من أجل استمرار مصالحه, مستغلاً خلافاتهم من جهة, وثقتهم به من جهة أخرى, وكانت الضحية عشرات الالاف من القتلى وتدمير وطن. بيت القصيد أن الشرق الأوسط إبان الحرب الباردة كان ساحة صراع بين القوتين الأكبر وحلفاء كل منهما, واستخدم في هذا الصراع كل أساليب المناورة والغدر والرشوة والاستزلام, وقد يكون ذلك كله ممكناً ومبرراً بشكل ما نتيجة ما اتسم به الصراع من ضراوة, ولكن غير المبرر أن يتم هذا الصراع تحت شعارات يخدع بها العامة والبسطاء, شعارات قومية ووطنية ونضالية, كانت الجماهير تصدقها وتسير خلفها. ولم يكن الغرب بعيداً عن استخدام الكثير من الوسائل العديدة في تأجيج هذا الصراع, فقد وقع في يدي كتاب أرجو أن يعذرني القارىء ان قلت أنه مذهل في موضوعه, وقد صدر هذا العام بعنوان (من يدفع لعازف المزمار؟) وهو عنوان تقريبي بالعربية, أرجو أن أعود للكتاب تفصيلا في وقت لاحق. إلا أن موضوع الكتاب بعجالة هو: كيف دفعت المخابرات الأمريكية بلايين الدولارات, لإنشاء مؤسسات, ولإصدار كتب ومجلات وإنشاء محطات تلفزيونية وشراء كتب ومؤلفين في كل الفنون, كل ذلك من أجل السيطرة على الرأي العام وتوجيهه كي يكون (معادياً) للأفكار الشيوعية. وكانت هذه المؤشرات موجهة أساساً للجمهور الغربي, وأخرى لبعض مناطق العالم الثالث. لست من محبي الترويج لنظرية (المؤامرة) ولكني أيضاً لست من أولئك الناس الذين إذا ما وجدوا الحقائق عارية وناطقة كذبوها لأسباب أيديولوجية أو عاطفية. لذا فإن القناعة تتزايد عندي بأن العالم العربي كان إبان الحرب الباردة ساحة صراع ضار بين الأطراف المختلفة, ليس بالضرورة أن مصالحنا محسوبة فيها بدقة أو على وجه التقريب, ولا أظن ان الساحة قد انتفى فيها الصراع اليوم, كما أني اعتقد أن البعض قادر على الاستفادة من صراعات جانبية لتحقيق مصالحه, وقد كفانا نحن العرب صراعات جانبية ليس لها نتائج غير افقارنا وتأخيرنا عن ركب الحضارة. من المؤسف أننا يمكن أن نقرأ الماضي القريب بكثير من الدقة نتيجة ظهور الوقائق والاعترافات التي تصل الينا, ولكننا نستطيع أن نستنتج من الماضي تفسيراً لحوادث اليوم. فالتأزم الذي يسببه النظام العراقي في العلاقات العربية ـ على سبيل المثال ـ هو لاشك جزء من الصراع الماضي, الصراع الأيديولوجي العبثي الذي لاطائل منه, وربما تفاجئنا الأيام المقبلة بما لايستطيع خيالنا التنبؤ به اليوم أو حتى هضمه, ولكن السؤال يبقى ومفاده: لماذا بعد أن تمكن النظام العراقي من رئاسة دورة الجامعة العربية الأخيرة قتل جنديان كويتيان على الحدود؟ وعطل انتخاب مواطن ينتمي الى المملكة العربية السعودية كأمين عام لمنظمة الأوبك؟ والتي هي ـ أي السعودية ـ مؤهلة لها وتستحقها, قد تفسر لنا الوثائق التي ستظهر بعض ما خفي من السلوك السياسي, وغداً لناظره قريب. * أمين عام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت

Email