أبجديات: بقلم عائشة إبراهيم سلطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

للمدينة طقوسها وتفاصيلها, وللحياة في المدن طعم ورائحة يختلفان من مدينة لأخرى, وكلما سافرت وأدمنت الترحال في عمق الأمكنة, ازدادت ثقتك بأهمية التفاصيل التي تضفي لونا آخر مزيجا من التاريخ والجغرافيا والانسان, تحسه, وتختزنه في مكان ما من ذاكرتك . وقد لا تتصالح مع كل المدن والأمكنة, وقد تنفر من بعضها وتعشق بعضها الآخر دونما سبب ظاهر, لكنه منتشر في كل التفاصيل الصغيرة المبثوثة بين مفاصل الأشياء, وهذه لا تعرفها ببساطة, لكنك تكتشفها كل يوم كلما مررت عليها ولامستها بقلبك وروحك في جولات ونزهات دافئة وخلوية سرقتها من عمر الزمن. الساحات العامة من التفاصيل التي يحبها الكثيرون في بعض المدن التي يسافرون اليها, ويظل حنينهم لها باقيا وهادرا في الاعماق كلما ذهبت عقولهم ترسم اجزاء الصورة وترش عليها من مكنون الذاكرة شيئا من الموسيقى وكثيرا من الأصوات المتداخلة والضجيج وثرثرات المقاهي وألوان العيون والثياب ومشروبات رواد المقاهي, لتبدو فجأة على امتداد الأفق مدينة بأكملها اختصرتها أنت في مقهى صغير في ساحة عامة. في كل المدن هنالك ساحات, ولكل ساحة اسمها ونشاطها وطابعها وتاريخها ووقعها على النفس, وكلما تصالح الناس في تلك المدن مع مفردات واقعهم وطقوسهم وشطحات عقولهم, كلما ازدادت تلك الساحات تنوعا وغنى ووجدت فيها الكثير مما يستحق الملاحظة والمعايشة, انها الساحات التي قد تتحول فجأة الى متحف كبير أو مصنع ضخم ينتج لك اشكالا من الحياة قد لا تتكرر امامك في مكان آخر. متحف الساحات العامة يحكي لك بهدوء ذاكرة التاريخ الماثلة في هذه المباني التاريخية العظيمة في حجمها والمدهشة في فنون عمارتها وزخارفها, كما يهمس لك بحكايات الناس البسطاء الذين احتجوا هنا ذات يوم, وتظاهروا ضد حكامهم ثم أعدموهم في هذه الساحة نفسها! ذاكرة التاريخ تقول لك ان الساحات العامة لم تظهر فجأة ولم تظهر عبثا وكذلك لم تبق بمحض الصدفة, انها كانت ولا تزال جزءا من صناعة ضخمة أنتجت شعوبا ودولا وتاريخا. كم ساحة عامة من هذه الساحات تسكعت فيها ماشيا أو متأملا في الوجوه والمباني وواجهات المحلات أو جالسا على مقاهي الأرصفة لأيام وأيام حينما تستعيد تفاصيله اليوم تجد ان آلاف الوجوه التي مرت بك في تلك الساحات قد امحت تماما, وبأنك ما زلت تتذكر على وجه الدقة موسيقى عازف البيانو والكمان, وبعض الآلات الغربية الأخرى, تماما كما تتذكر ضحكات الأطفال وبكاءهم كأنهم ما زالوا يتراكضون خلفك في هذه اللحظة. انك تتذكر وقع اقدام الصبايا والشباب الضاجين ضحكا وعبثا لكنك عبثا تحاول ان تتذكر وجه تلك الصبية التي جسلت بجوارك زمنا وهي تحتسي كأس شرابها أو تلك العجوز التي ظلت تحتجز طاولة المقهى ساعات, وهي ترشف فنجان الكابوتشينو حتى لا يطلب منها النادل مغادرة الطاولة لأجل زبون آخر ينتظر! ذاكرة الساحات العامة تختزن رائحة المكان وصوته وموسيقاه, وهي ذاكرة قائمة بذاتها تشتعل فيك بحميمية ودفء وربما تبقى النكهة الوحيدة التي تعبث في تلافيف دماغك محرضة إياك على اعادة الكرة والسعي ثانية الى حيث توجد.. ساحة عامة.

Email