صرعة الابهار وصناعة النجوم، بقلم محمد خالد الازعر

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل فترة خصصت محطة(سي.ان.ان)الامريكية اسبوعا كاملا من وقتها الفضائي الثمين, لمتابعة حادث مصرع جون كنيدي الابن غرقا في المحيط الاطلسي.من هذه التغطية الاخبارية التي شاركت فيها ايضا كل وسائل الاعلام الغربية المسيطرة محليا وعالميا, عرفنا مع مئات الملايين كل شيء تقريبا عن حياة القتيل وزوجته وشقيقتها من المهد الى اللحد . لم يكتف المعنيون بالسيرة الذاتية للقتيل, بل امتدوا بأثر رجعي لحياة امه وابيه وبقية ذويه من آل كنيدي المنكوبين الى سابع جد. وهناك من ذهب في حديث مستطرد حول منبت العائلة وتاريخها في ايرلندا, وفي ذلك كله سعى الاعلاميون جهدهم الى استدرار مشاعر الحزن وطلب الرحمة من البشرية جمعاء للراحلين من هذه العائلة. وامعانا في اضفاء الصفة العالمية على الحدث, وجدنا الرئيس الامريكي يكتسي السواد ويرسم ملامح الأسى الشديد, وهو يؤبن المغدور ويتأمل في وفاته المأساوية, وكان ذلك مهما لتبرير تحرك اجهزة الدولة الاولى في العالم, بقواتها البحرية والجوية للبحث عن جثة جون ومرافقيه. والواقع انه لولا هذه التغطية الاعلامية السياسية المهووسة, لما عرف احد خارج دائرة امريكية مخملية محدودة شيئا عن القتيل, الذي خرج يلهو بطائرة لا يجيد قيادتها, لقد جر المشاهدون في كل مكان عنوة الى قضية لاتعنيهم في كثير ولا قليل, واثناء نظر هذه القضية كانت عشرات الاحداث الاكثر حاجة لمثل هذا التركيز, تتفاعل في جهات الارض الاربع, وتنادي السياسة الامريكية بخاصة ان توليها قدرا من الابعاد العاطفية التي استهلكتها واشنطن في متابعة ما لا ينفع الناس او يمكث في الارض. اعتذار الرئيس ويبدو ان الاحساس الدفين في صدر الرئيس كلينتون بتفاهة الامر كله, هو ما جعله يعتذر للشعب الامريكي عن استخدام قواته المسلحة لهذا العمل الاستثنائي, وكأن لسان حاله يقول: انني مثلكم مسوق بموجة الانفعال وصناعة الاخبار المثيرة التي تمتهنها مؤسسات اعلامية جبارة. وهذا هو بيت القصيد في السياق, فشخصية مغمورة لعوب لا تحمل قضية عامة انسانية المضمون, يمكن ان تصبح في قلب الاهتمامات العالمية على الصعيد الرسمي او بين تضاعيف الرأي العام, يستطيع اصحاب مؤسسات الاعلام, ولاسيما فرع صناعة النجوم والاحداث, ان يفعلوا ذلك عبر شبكاتهم الاخبارية الاخطبوطية, وقد شاع هذا التوجه الاخرق منذ تطور الاعلام المرئي, لكنه اخذ طابع الصرعة في كنف ما يسمى بالعولمة. فالحدث الذي يبدو عرضا والشخص الذي لايحمل اي معنى قيمي, بوسعهما ان يتحولا الى محور الانتباه, ليس في الاطر المحلية او الوطنية الضيقة, وانما في المجالات الاقليمية او الدولية, وتتحدد المساحات المطلوب ايقاعها في احابيل الانشغال اللحظي او الموسمي, المنقطع او المستمر, وفق اجندة لايعلم كنهها الا اصحاب المصلحة والمستفيدون من (الفرقعة) . ونحسب انه يقوم على هذه الصرعة الآن في عالم الغرب بخاصة بخلاف مؤسسات الاعلام, مراكز استطلاع الرأي العام وتوجهه, فضلا عن دوائر وثيقة الصلة بالاستخبارات واجهزة الحكم والسياسة ورجالات المال والاعمال وتتعامل هذه الدوائر على الارجح من منطلق منطق المنفعة بلا اي وازع آخر, والمنفعة هنا قد لا تكون بالضرورة ذات محتوى مادي صرف, وانما تشتمل على جوانب معنوية. ان تشويه صورة الخصم الاقتصادي او السياسي او حتى السينمائي او الرياضي.. الخ, بالتلصص على خصوصياته واثارة الضوضاء حول نقاط ضعفه, تدخل في هذا الباب الاخير. والعكس صحيح وموجود, فثمة من تستدعي المصلحة تلميعه, ينطبق ذلك على قضايا بعينها او شخوص او جماعات او اماكن او مؤسسات.. وفي هذا الاطار, علينا ألا نستهجن او نستبعد اضطلاع صناع الابهار ومحترفي اعلام الموضة وتكوين اتجاهات الرأي, بتحويل رجال مافيا وجواسيس ونصابين ولصوص ومفسدين للحرث والنسل في الارض بغير حق.. واندادهم, الى ابطال ومصلحين يستحقون التحية والتبجيل وهم احياء والعزاء والحزن عند الموت. الاعلام والعولمة لقد ادخل الغرب بشدة في هذه الظاهرة وراح يروج لها ويسوقها بحكم هيمنته على وسائط الاعلام, ولا ندري لعل هناك صلة بين مفهومي الاعلام والعولمة! وويل في حالة كهذه لمن تقصده هذه الوسائط لسبب او آخر بالملاحقة, انه يتحول الى رهينة لها في كل الحالات, فهي ان تناولته بالخير والتمجيد واصبح حديثها وموضوعاتها بتكرارية وتواتر, اوصار ضيفا مستديما لبرامجها بمناسبة وبغير مناسبة فلعله يدمن الاضواء والثناء ويطرب لذلك, وقد يتصور ان لديه فضائل غير معتادة, ويقع في تيه الغرور. حتى اذا انحسرت عنه الموجة اصابه هم مقيم وكآبة تودى به, كثير من نجوم المجتمعات والصالونات السياسية والفنية وقعوا في اسار هذه الزاوية. كما ان آخرين راحوا ضحية تقديمهم من الزاوية المعاكسة, حين عرضت الوسائط ذاتها بهم, واضفت عليها ما ليس فيهم من المساوىء والعيوب بشكل مباشر او غير مباشر مقدمة اياهم بصور كريهة وواصفة اياهم بألسن حداد. وللموضوعية, فان وسائط الاعلام وتسويق النجومية والصور ليست مدانة دوما, فثمة مسؤولية تقع على بعض الخلق, ممن احترفوا بدورهم ان يكونوا حديث الناس اجمعين اذا سنحت لهم الفرصة ويسعى هؤلاء حثيثا لهذه الفرصة, طلبا للشهرة او بحثا عما يجعلهم ناسا آخرين, مدهشين وغرباء الطبائع وهم في سبيل ذلك يأتون العجيب من السلوكيات والافعال دون استثناء ما ظهر منها وما بطن. لكن الملاحظ ان هذا الصنف, الاكثر استجابة لاغراء الاضواء, هو ايضا الاكثر وقوعا في محاذيرها واحابيلها في لحظة ما.. قيل مثل ذلك في غمرة البحث عن المسؤول في حادثة الاميرة ديانا وصديقها عماد الفايد منذ عامين, ولعله يصدق بشكل ما اثناء تعليل حادثة جون كنيدي الابن. على ان لصناعة النجومية ضحايا لاجريرة لهم او ذنب, هناك اولا القضايا الجادة, التي هي اولى بلفت النظر اليها وتسليط الاضواء, القضايا التي تهم عشرات ومئات الملايين من سواد الناس في هذه الدنيا, كالحروب بلا هدف او معنى, والكوارث التي يسببها ظلم الانسان للانسان, والفقر والمرض والامية والديون وانتهاك حقوق الطبيعة والانسان,, وهناك ثانيا, صناع الحياة الحقيقيون الذين يعملون بصمت ودأب لمعالجة هذه القضايا ومثلها في جهات الدنيا, وهناك ثالثا وقبل كل شيء الحقيقة ذاتها التي تغيب في ضباب الاوهام الكبرى حول النجوم المفبركين اعلاميا بلا فائدة ترتجى لعامة الناس. على كل حال, يبقى لكل امة شرعتها ومنهاجها في استخدام ادوات الاعلام والدعاية والدعوة وتسخيرها, وقد ادركنا الآن بما فيه الكفاية الكيفية التي تتعامل بها الامم الغربية, الامريكية بخاصة في هذا الشأن. وتقديرنا ان هذه الكيفية لاتصلح لمجتمعاتنا ولا تناسب قيمنا الحضارية, هذا ان كانت تصلح لأحد, من العالمين اصلا. لكن الذي يستدعى وقفة حذر, هذا الانزلاق المتواتر, بمعدلات زمنية متسارعة من جانب بعض المؤسسات الاعلامية العربية, على طريق المنهجية الغربية الممقوتة ذاتها. انه اتجاه لا تخطئه بصيرة من يتابع مثلا برامج كثير من الفضائيات العربية, التي تمطرنا بشخوص وقضايا لا موضع لها من الاعراب بالنسبة لهمومنا الحقيقية وتحسب انها تحسن صنعا, وهي قضية تستأهل حديثا خاصا. * كاتب وباحث فلسطيني مقيم في القاهرة

Email