النظام التعليمي وسيلة الوعي المجتمعي والاسلام وضع الأسس، بقلم المستشار د. عمر فاروق فحل

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعلنا لن نجد ضمانا لحماية حقوق الانسان من الإنسان نفسه بالعمل على تدريس حقوق الانسان على مختلف مراحل التعليم وأخص بالذكر في الجامعات.لان قضية حقوق الانسان ليست مجرد قضية مواثيق وتوصيات لمؤتمرات دولية, وإنما هي قضية وعي بهذه الحقوق وممارستها, وبالتالي فإن تعريف الانسان ذاته بهذه الحقوق وتربيته على احترامها يجب أن يحتل اولوية خاصة في البرامج التعليمية في الأقطار العربية كافة . إن حماية حقوق الانسان هي مشكلة العصر, وقد دأبت التشريعات منذ الازل على وضع ضمانات لحماية حقوق الانسان من خلال القوانين والأنظمة التي تصدرها السلطة الشرعية في المجتمعات والدول قاطبة, الا أن هذه التشريعات والأنظمة قد تبقى في إطار النصوص المدونة دون ان تجد لها مجالا للتطبيق في عالم الواقع, وكفاح الانسان من اجل تثبيت وتطبيق حقوق الانسان كان المركز الذي دارت حوله كافة محاور الحركة في تاريخ المجتمعات البشرية, وقد كان سعي الانسان الى اقرار حقه في الوجود على امتداد المراحل التاريخية المختلفة وفي جميع الاوطان. وقد حقق النضال البشري انتصارات كبيرة كان من أبرزها, الانتصارات التي كرستها الاديان السماوية, والمكاسب التي احرزتها الحضارات الكبرى في تاريخ المجتمعات الانسانية مثل الحضارة اليونانية القديمة, والحضارة الاسلامية في العصور الوسطى, والحضارة الاوروبية في العصر الحديث. وتؤكد الشريعة الاسلامية ان جوهر الاسلام دعوته الى كفالة حقوق الانسان, وخاصة حفظ حقوق الجماعات غير المسلمة التي لقيت في كنف المجتمع العربي الاسلامي اكرم معاملة دونما تفرقة او تعصب بسبب الدين, او الأصل العرقي او الجنس, قال تعالى (ان اكرمكم عند الله اتقاكم) . ان حقوق الانسان في الاسلام ليست منحة من ملك او حاكم, او قرارا صادرا عن سلطة محلية او منظمة دولية, وانما هي حقوق ملزمة بحكم مصدرها الالهي. لا تقبل الحذف ولا النسخ ولا التعطيل, ولا يسمح بالاعتداء عليها ولا يجوز التنازل عنها. ولازالت الشريعة الاسلامية بما اوردته من تنظيم رائع لحقوق الانسان في الزواج والارث وغيرها, محط انظار التشريعات الاخرى. وفي الحضارة الاوروبية الحديثة تحققت علامات بارزة على طريق تأكيد حقوق الانسان, نذكر منها وثيقة (الماجناكارتا) التي صدرت عام 1215, لتسجل حقوق شعب انجلترا, ووثيقة اعلان الاستقلال الامريكي عام 1776 التي صاغها الرئيس جفرسون متأثرا بآراء الفلاسفة الاوروبيين امثال جون لوك, روسو, فولتير, والتي جاء في مقدمتها (اننا نعتقد ان الناس خلقوا متساوين, وقد منحهم خالقهم حق الحياة والحرية, والسعي نحو السعادة) . كذلك نذكر وثيقة حقوق الانسان التي صدرت بعد الثورة الفرنسية, والتي سفهت نظرية الحق الالهي للملوك, ولتؤكد حق الناس جميعا في المساواة. ومن مقارنة ما ورد مع احكام الشريعة الاسلامية نجد ان الشريعة الاسلامية ومنذ اربعة عشر قرنا مضت, قد سبقت الجميع في إقرار حق المساواة بين الناس بقوله صلى الله عليه وسلم (الناس سواسية كأسنان المشط) . الاعلان العالمي ان الخطوة الكبرى على طريق تقنين وتدوين حقوق الانسان كان في اصدار (الاعلان العالمي لحقوق الانسان) الذي اقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من شهر ديسمبر عام 1948. وقد كانت هذه الخطوة تعبيرا عن عصر التنظيم الدولي, وقد جاء هذا الاعلان انعكاسا للدور الجديد الذي باتت تلعبه الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة والمنظمات الدولية والاقليمية في الحياة الدولية. وقد ولد الاعلان العالمي لحقوق الانسان بعد حربين عالميتين, قاست من ويلاتهما البشرية كلها, ويمتاز الاعلان العالمي المذكور على ما سبقه من وثائق دولية بعالميته وشموله وجاء ليكون قمة التطور في هذا النطاق بوصفه مستوى مشتركا, لجميع شعوب العالم. وقد كرس الاعلان عدة مبادئ اساسية: الحق في المساواة, فلا تفرقة بين بني البشر بسبب العنصر او اللغة, او الدين, او بسبب الوضع السياسي او الاجتماعي, او الجنس, وقد نصت المادة الاولى من الاعلان: (يولد الناس احرارا, متساوين في الكرامة والحقوق, وقد وهبوا عقلا وضميرا, وعليهم ان يعامل بعضهم بعضا بروح الاخاء) كما قررت المادة الثانية ان (لكل انسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات, الواردة في هذا الاعلان, دون اي تمييز بسبب العنصر, او الدين, او اللون, او الجنس, او النوع او الرأي) . وقد فصل الاعلان بعد ذلك الحقوق وقسمها الى نوعين: الحقوق المدنية والسياسية من جهة, والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من جهة اخرى, وبعد مضي نحو ثلاثين عاما على اصدار الاعلان العالمي لحقوق الانسان وضعت موضع التنفيذ الوثائق الدولية الصادرة عام 1948 وتشمل الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية وهناك نص رئيسي, لم يرد في الاعلان العالمي لحقوق الانسان وهو حق جميع الشعوب في تقرير المصير, والاستفادة من ثرواتها ومصادرها الطبيعية. ولعل من أهم ما تتميز به هذه الوثائق ما ورد فيها من إجراءات محددة ضمانا لتنفيذ احكامهما, مثل قيام لجنة خاصة لبحث التقارير التي تقدمها الدول الاعضاء عن مدى احترامها للحقوق المدنية والسياسية لمواطنيها. ميثاق عربي على المستوى العربي اتخذت عدة مبادرات, وعقدت لقاءات ومؤتمرات حول حقوق الانسان في الوطن العربي, ومن بين هذه اللقاءات المؤتمر المنعقد في (سيراكوزا) عام 1986, والذي اعد مشروع ميثاق عربي لحقوق الانسان, نص على انه: نظرا لما يجمع بين أبناء الامة العربية في جميع اقطارها من روابط قومية لا تنفصم تتمثل في وحدة القيم والتراث والتاريخ والحضارة والمصالح, والتي كرم الله ارضها بان جعلها مهد الرسالات السماوية, وبحكم الآمال التي يتطلعون اليها من اجل استئناف المشاركة في بناء الحضارة الانسانية وتقدمها. ومن حيث ان تجاهل الحقوق الجماعية للأمة العربية وحقوق الانسان في ارضها قد افضى الى كوارث لا حصر لها, بدءا من احتلال فلسطين وإقامة كيان عنصري غريب فيها واقتلاع شعبها منها, وانتهاء باستباحة الارض العربية كلها وإهدار مواردها البشرية والمادية وربط مقدراتها ومصيرها بقوى خارجة عنها, وبالتالي عجزها عن مجابهة نموها واستقلالها وتحقيق امانيها المشروعة. وتأكيدا لإيمان الدولة بمبادئ الامم المتحدة, وشرعة حقوق الانسان الدولية, فقد تمت صياغة مشروع ميثاق عربي لحقوق الانسان والشعب العربي, من قبل خبراء الامة العربية من اهل الفكر والقانون الملتزمين بقضاياها والحريصين على مستقبلها ومصيرها المجتمعين في مدينة (سيراكوزا) بجمهورية ايطاليا في الفترة من 5 ـ 12 ديسمبر عام 1986, ويتوجهون الى أبناء الامة العربية في أقطارها كافة لتبنيه كمثل تبلغه. وقد تم إقرار هذا المشروع في اجتماع الهيئة العامة لاتحاد المحامين العرب بدولة الكويت في ابريل عام 1987, الذي اوصى بعرضه على جامعة الدول العربية للأخذ به. وجدير بالذكر, ان عددا قليلا جدا من الدول العربية قام بالتصديق على الاتفاقيتين الدوليتين الصادرتين عام 1966 عن الأمم المتحدة, اما باقي الدول فلم تقم بذلك. وتقديرنا ان قيام الدول العربية بالتصديق او تبني المواد الواردة في مشروع الميثاق العربي لحقوق الانسان والشعب العربي, او التصديق على الاتفاقيتين الدوليتين المذكورتين آنفا, قد اصبح اليوم مطلبا اوليا ملحا يمثل الحد الادنى لإثبات ايمانها بحقوق الانسان. ويذكر في هذا المجال ان المؤتمر الدولي لحقوق الانسان المنعقد عام 1968 كان قد طلب إعادة بحث موضوع تربية الشباب على فهم حقوق الانسان وحرياته الاساسية, كما دعت اليونسكو الى ندوة دولية عقدت في القاهرة عام 1979 حول تدريس حقوق الانسان على مختلف مراحل التعليم, ونشر برامج تهدف الى بث الوعي لدى التلاميذ, منذ دخولهم المدارس بحقوق الانسان وحرياته, ونشر مبادئ الاعلان العالمي لحقوق الانسان في كل مراحل التعليم العالي. كما دعا المؤتمر الاجهزة الفنية المختصة في الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة المعنية, لدراسة الوسائل الكفيلة بتوعية الشباب بحقوق الانسان ودعم احترامهم لها, وفي هذا الصدد أجرت هذه الأجهزة والوكالات مجموعة من الدراسات التي انتهت بعدة توصيات, استجاب لها عدد من الدول. كما ان المعهد العالي للدراسات الجنائية قد دعا الى مؤتمر دولي عقد في مدينة سيراكوزا في الفترة من 1 ـ 7 ديسمبر 1985, حول العدالة الجزائية والتعليم والاصلاح وحماية حقوق الانسان في العالم العربي وانتهى الى اقرار عدد من التوصيات الهامة التي تضمنت التشديد على تكوين العقلية القانونية للطالب وتكوين قدرته على التطبيق العملي لخدمة المجتمع والنهوض به وضمان احترام حقوق الانسان, وانشاء مراكز للبحوث في إطار كليات الحقوق لتدعيم البحث العلمي وبخاصة في مجال حقوق الانسان, مع الاستعانة بتجارب الدول المختلفة, واهتمام اساتذة القانون بوضع مراجع علمية وطنية شاملة باللغة العربية في مختلف فروع القانون فيما يتعلق باحترام حقوق الانسان. كما تضمنت التوصيات التأكيد على الاهتمام بتدريس حقوق الانسان والرقابة على دستورية القوانين وبيان مضمون هذه الحقوق في مجال دراسة مختلف فروع القانون, والعناية بمرحلة الدراسات العليا لإثراء البحث العلمي وبخاصة في مجال حقوق الانسان. وأكد المؤتمر ان المحافظة على حقوق الانسان لا تتأتى بغير العمل الفعلي من أجل نشر الوعي بها, وتثبيت جذورها في الضمير الحي لكل مواطن, مشيرا الى وسائل عديدة لذلك, من بينها: دور اجهزة التثقيف بالمعنى الواسع في نشر الثقافات الموالية لحقوق الانسان, دور النظام الاعلامي من صحف ومجلات واذاعة وتلفزيون في بث وطبع البرامج التعليمية الموالية لاحترام حقوق الانسان, التأكيد على أهمية الاعداد السابق ـ في مناط حقوق الانسان بالنسبة لمن يرشحون لتولي مهمة القضاء او النيابة العامة وكذلك بالنسبة للقائمين على التحقيق او جمع الاستدلالات والعاملين بالجهات المعاونة للقضاء الجزائي, إنشاء وتدعيم مراكز الدراسات والمعاهد المتخصصة التي من شأنها الاهتمام بحقوق الانسان وصيانتها. ولعل الصواب ان لا يقتصر تدريس وتعليم حقوق الانسان في الجامعات على كلية الحقوق, بل يمتد تدريس وتعليم مادة حقوق الانسان الى جميع الكليات, وخاصة كليات الطب والصيدلة التي تتعامل مع جسم الانسان مباشرة وحقه في الحياة, لان حياة الانسان مقدسة ولا يجوز لاحد ان يعتدي عليها: (من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعا) . كما ان كيان الانسان المادي والمعنوي تحميه القوانين والشرائع السماوية في حياته, وبعد مماته, ومن حقه الترفق والتكريم في التعامل مع جثمانه: (اذا كفن احدكم اخاه فليحسن كفنه) كما في الحديث, والناس كلهم في القيمة الانسانية سواء (كلكم لآدم وآدم من تراب) . صياغة الوعي من هنا يتضح لنا موقع النظام التعليمي باعتباره احد القنوات الرئيسية التي يمكن ان تصوغ الوعي الاجتماعي وتدربه على حماية مرتكزات حياته الانسانية الحقة. وفي قمة الهرم التعليمي, تأتي الجامعات العربية, اذ يكون لها دور اساسي, في التنوير والتثبيت لحقوق الانسان في الفكر والسلوك الاجتماعي. والحقيقة انه يتم تدريس حقوق الانسان في المراحل قبل الجامعية, حيث يتم تناوله ـ بشكل غير مباشر ـ من خلال الدراسة اللغوية والأدبية والتاريخية, وذلك في المرحلتين الابتدائية والاعدادية, ثم يتم تدريسه بشكل مباشر ـ وان كان جزئيا ـ بالمرحلة الثانوية, ضمن مادتي الفلسفة والتاريخ, غير ان تدريس حقوق الانسان, على النحو السابق ليس كافيا, اذ من الضروري احداث مزيد من التوسع لرقعة الاهتمام بهذا التدريس, ومزيد من التعميق لهذه الرؤية, بحيث تمهد الجامعات, حقا, لتكوين رأي عام, موال لحقوق الانسان الاساسية وبحيث يشكل جدارا منيعا ضد أي انتهاك لها. ونخلص مما تقدم الى ضرورة توسيع رقعة تدريس حقوق الانسان بحيث تتناول كامل الشرائح الاجتماعية, اضافة الى ان تشجيع الجامعات على إنشاء جمعيات ثقافية وعلمية, من طلاب الكليات سواء العملية او النظرية, تكرس موضوع حقوق الانسان وتدعو لمحاضرات وندوات يتولى الشرح في بعضها اساتذة القانون, والعلوم السياسية, والمعنيون بقضية حقوق الانسان علما وعملا, وان يشارك قطاع الاعلام في هذه الندوات, والمحاضرات لتشمل من حيث النتيجة غالبية فئات الشعب. ان مثل هذه الدراسات النظرية كفيلة بزيادة وعي المواطن العربي بحقوقه, ويدعم هذه الحقوق داخل الانظمة العربية, الا انه يجب الا يغيب عن البال, لحظة واحدة, ان قضايا حقوق الانسان وتأكيدها والتصدي لحمايتها والدفاع عنها, تبقى مسؤولية كل الاحرار في كل زمان ومكان, ومهما كانت التضحيات. ولا شك ان امتنا العربية لابد سائرة دائما على طريق التجسيد الكامل لمبادئ الانسانية ومثلها العليا, فهذه المبادئ والمثل, فوق انها تتفق مع آمال التطور العصري, هي تأكيد لما يحمله تراثنا القومي من أصالة, وارتباط وثيق مع اهداف الشرائع السماوية. ولعل الشريعة الاسلامية بما ورد فيها من أحكام خير منارة لنا في تدريس حقوق الانسان (وبعهد الله اوفوا, ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون, وان هذا صراطي مستقيما فأتبعوه) . * عضو الجمعية الدولية لقانون العقوبات

Email