بين (بطالة الوعي) وعقلية اسعار المحلات، بقلم: مجدي أبو زيد

ت + ت - الحجم الطبيعي

استميح القارىء عذرا في ان اخص نفسي ببضع كلمات, مع وعد بأن هذه الكلمات الخاصة لن تخرج عن مقاصدنا من هذه المقالة.منذ فترة قصيرة اكتشفت ـ فجأة ـ انني اكتب مسودات كتاباتي بالحبر الأحمر, وهو امر لم أعهده من قبل. وكعادتي الرومانسية في تفسير بعض الامور قلت ربما هناك نزيف ينتظرني!!, وما الحبر الأحمر إلا مصافحة تعارف على لون الدم , وعندما حاولت ان اكذِّب رومانسيتي تلك وعشقي للحزن, وذلك بان اكتب هذه المقالة الصغيرة واسودها في صيغتها النهائية بالحبر الازرق أو الاسود, فشلت فشلا ذريعا. فلقد تأكدت ان الكتابة عن الأوطان تبدأ من (تحت الجلد) , سواء من داخل شعور (مزنزن) , أو من قلب شعور فرح وطليق. ومادام حديث الشجون ينز من تحت الجلد, فإن أي اهمال لاي فيروس أو جرثومة سوف يؤدي بالجسد كله.. جسد الاحساس بالوطن. ماهو الوطن؟ بداية, هناك جنايتان على كلمة (الوطن) > الاولى, ان سمعة الوطن ـ من سوء الحظ ـ دائما ما تكون ضحية الياقات البيضاء, هؤلاء المزروعون (كالربو) في رئات الوطن/ الحدود. والجناية الثانية هي من ارتكاب اللغة, فمن الصعب ان نتصور ان كلمة (الوطن) محسوبة ـ نطقا وكتابة ـ على صفة (المذكر) .. فإذا كانت اللغة قد (أنثت) كلمة (الأم) , أليس حريا بكلمة الوطن أن تؤنث؟! الوطن هو ذلك المكان الذي أينما حركت فيه رأسك (قطفت) محبة وكرامة / ك ر ا م ة. والوطن ـ ايضا هو الضمة لخطواتك حيا, ولموتك قبرا. لا تستهينوا بالذي يطلب ان يدفن في مكان غير وطنه, لا تستهينوا, فهو يرفض رؤية ابناء جلدته ووطنه حتى وهو ميت!!!, ويحيد عن تراب الوطن لأنه تعفر في بقعة اخرى بحفنة محبةو جرعة كرامة.. وكأنه يقول: وداعا يا من لاتملكون شيئا من أجلي. قالوا للسفر فوائد كثيرة وان الغربة هي مجرد ترك المكان, وافتقاد للوطن ينتابك فيما بعد, وهو تعريف مخل حيث أن الغربة هي المشاهدة عن (بعد) , حيث القبض على شذرات بعينها, هي بمثابة (تبر الوجع) , ليس في مقدور انغماسك في زحام الوطن التقاطها, وتدخلك الغربة والمسافة في تفاصيل مغايرة ومختلفة في الشكل والايقاع.. لتجد نفسك متورطا في حسبة المقارنة, وبودك ان تزف وطنك لوحده الى احساسك, وحاجتك ان تفتل ضلوعك جسرا له. لكن الياقات البيضاء تنتظرك بغبائها, حيث يقبعون في عنق الزجاجة واضعين في اعتبارهم انك (فيل) عليه ان يمر من هذا العنق و(بكل رشاقة) !! تبدأ (الحدوتة) كالتالي: تحزم حقائبك, وفي مقدورك ان تتساهل مع نسيانك لاشياء كثيرة إلا جواز سفرك, فهو المرور الى الضفة الأخرى, ضفة القلب وسارية الروح, ثم تركب طائرة, او باخرة, او سيارة.. لكن بساطك الاكبر هو الشوق العارم للذكريات والاحضان التي تتهيأ لزرعك داخلها, تشعر وكأنك تريد أن تكون طائرا اسطوريا بالف جناح يغلب الزمن ومناكفة الريح. وما أن تصل الى بوابة الوطن حتى يبدأ النزف, وهرس عناقيد اللهفة تحت سنابك اناس لا تعلم من أي عدوانية قدّت ملامحهم, ولا من اي رهبوت صنعوا نظراتهم البوليسية؟ ولا ماهي الوظيفة الحقيقية المنوطة بهم؟ انت لاتريد استقبال الفاتحين. فقد تطمح الى انتظارك متعبا, وباحثا عن استراحة المحارب المغترب, وهذا الطموح يجعلك تضع تعبيرات وجهك في ثلاجة وإلا تعرضت لاجراءات (التنمر) , تلك التي يمكن ان تتربصك, وتهيل الغبار على سيرة الوطن الدافئة, تجد نفسك بعدئذ منساقا وراء رغبة تفريغ قلبك من كل الاشواق, لكي تتجشم امر انقاذ كرامتك, فكل شيء تم اجهاضه في العلن, ولم يبق الا الاجهاض في الخفاء ذلك المرمز بصمتك مقابل طوق النجاةج لآدميتك. الثمن الباهظ هل تعرفون ما ثمن انقاذ الكرامة في معظم بوابات الوطن الكبير؟ هل تعلمون ما الجحيم الذي ارادوه لنا ملكوتا؟ فقط هو ان نتعلم التكلبب, والتبلد, والتقرد, والتخنزر على حد تعبيرات هيراقليطس في كتابه (جدل الحب والحرب) . فأي ايماءة منك بغضب, أو اية اشارة باحتجاج, أو اي ايحاء بقرف, سيكون الثمن غاليا!! انت لن تدخل السجن, ولن تلفق لك تهمة, ولن تصفع, أو تسبب أو تلعن, فشعارات حقوق الانسان تتخم سماوات الوطن الكبير, وان كنا لم نر حتى الآن برقا في السماء, ولا مطرا على الارض. فقط سوف يقومون بتعطيل انتظاراتك للوطن من لهفة وشوق وحضن, وهي جريمة لا تعرفها القوانين العربية لأنها مشغولة بـ (ثقافة الجباية) كجباية الضرائب والجمارك, وغالبا جباية الانتماء. يتم ذلك عبر تصرفات كيدية تختبىء في التطبيق الحرفي والخانق لقوانين (الاستقبال) , وهو مسلك حق يراد به باطل ما دمت لا تعرف طريق صالة كبار الزوار, والتليفونات العاجلة, والنجوم الفاقعة, أو فن (اغضاءات) الطرف!! الموظفون في معظم منافذ الحدود العربية يتمتعون بقدرة غريبة على وأد (لقاء الوطن) , فضلا عن (عكننة) وجدانك الشاهق, وذلك عن طريق منظومة الجهل والتجهيل والتجاهل. الجهل بدورهم الحقيقي, والتجهيل باحترامك كإنسان عربي جاء ليرتمي في رحمه الحقيقي, والتجاهل باستخفاف غربتك وتعبك ولهاثك وراء ادنى احلام المستقبل. رب قائل: ألا يبدو يا صاح انك تنطق من موقف شخصي أو مشهد فردي؟ لكننا سوف نرد بالقول الآتي: لماذا تقوم قيامة الدنيا ولا تقعد اذا علمنا ان هناك من (يخون) الوطن, أو يتجسس لصالح دولة معادية؟ حتى ليكاد المرء ان يرى محاكمات بعدد افراد الشعب المغدور في اسراره. أليس من (يشهوه) سمعة الوطن هو خائن ايضا وان كان يرفل في (أناقة الوظيفة) ؟ ففي الحالتين شخص واحد أو اكثر بقليل يقوم بالجريمة نفسها, احدهما يقوم (بتسريب) اسرار الوطن, والآخر يتولى مهمة (تهريب) احساسك تجاه الوطن لجهة لا يهمه ما هي (!) فهو اسير اللحظة الراهنة (لحظته) , ووريث (عشى الآتي) . انها ازمة احساس بالمستقبل, الآتي عندنا هو السنة المقبلة, أو العقد المقبل, او القرن المقبل, في حين ان المستقبل لحظة, لحظة الآني الأبدي على حد تعبير المعلم ايكهارت, زمن الرؤية والاستشراف. فأنت تستطيع في لحظة حاضرة ان تفجر شعورا بالغثيان يمتد لآماد طويلة. وهل الحروب والأحقاد الا نتاج لحظة آنية سممت مستقبلها وداسته؟ لم نفهم ذلك بعد. لم نفهم ان تطريب الحاضر من مسوغات المستقبل. يا سائلي: ان السؤال الصحيح هو نصف الاجابة, فلماذا لا تسأل: لماذا يحدث هذا؟ بدلا من سؤالك: لمن حدث هذا؟ ان هناك اماكن لا تتحمل (مشاغبات) الملاعب الرياضية.. مرة هتاف وأخرى سباب.. تارة قبلات وتارة اخرى صفعات.. طورا نشيد وطورا آخر نحيب. انها اماكن تلفظ ارجوحة المشاعر, وتتقيأ مد السلوك وجذره. فالسفارات والمطارات وبوابات الحدود البرية ودور العبادة, هي اماكن قيض الله لنا مهمة (حراسة معناها) , ذلك المعنى الذي يحمل على عاتقه (تجويد السمعة) وطهارة السلوك, وهي مهمة لا تعرف الاسترخاء لأنها تقترب بدرجة ما من معنى (الرسالة) . فمن أجمل ما قرأت في التراث الاسلامي فيما يخص دور العبادة ان الله لا ينظر الى صلاة مصل اذا كان متخاصما مع شخص آخر في نفس المكان, فبرغم ان المكان يعج بعشرات المصلين, الا ان معنى المكان يأبى على نفسه اية ممارسة فردية أو جماعية تقودها مزاجية جاهلة حمقاء. كذلك الاماكن المذكورة آنفا, عصي عليها ان تتقبل أي استثناء يهدر (جبين الوطن) , ذلك الذي لو أطلقنا عليه رصاصة من فئة (السلوك الغافل) لتحقق القتل سريعا, لكن هذه المرة سيكون القتل في النفس كما يقول سارتر لا غضاضة ان تلقيت هذا السلوك في شارع, أو في حارة, أو في وسيلة مواصلات, أو في عمل, أو حتى في أسرتك, فهذا من طبائع الامور ومنغصات البشر, لكن ان يأتيك هذا في (محاريب الوطن) حيث لا مجال للهدر والاهدار, فهو مسألة تحتاج الى اعادة نظر وبصيرة من أولي الأمر! معايير (التسعير) هناك مسألة اخرى لا تقل خطورة عما سبق, وهي ان معظم بوابات الوطن العربي يخضع سلوك موظفيها لعدة معايير تعاملية أقل مما يقال عنها كأنها (تحت ريح) كما يقول المتنبي. فالمواطن المغترب القادم من بلاد عربية, يختلف ـ استقبالا ـ عن الآتي من دول أوروبية, فضلا عن ان النظر الى بعض البلاد العربية يتم على طريقة (أسعار العملات) , هي كل يوم في شأن, فقراءة خبر معين عن دولة عربية ما في جريدة لم يرحل فورا (سلوكيا) الى بوابات الحدود سلبا أو ايجابا. إذن المسألة لم تعد محاكمة موقف شخصي, أو مناوءة مشهد فردي, ذلك انها خرجت عن نطاق النظرة الضيقة لتلوذ بالمعنى الأكبر وهو الوطن, كمزار أو كرحم أصلي. كما ان المسألة لم تعد تخضع لما يسمى بـ (زلة سلوك) من جاهل جهول علمته وظيفته ومن ورائها نسيان معنى المكان وقدسيته وصيانته.. حتى أصبح لا يفرق بين بوابة الوطن وبوابة البناية! الامر أصبح لدينا الآن يطال الذهنية العربية في الأداء المكاني, أو بمعنى آخر هي أزمة مؤسسات تعتقد ان مجرد زج بعض الافراد في أي مكان هو مجلبة للخلاص من (بطالة العمل) , في حين ان الكارثة الحقيقية فيما نقصده مكانيا, هو (بطالة الوعي) . فالذهنية العربية الوظيفية لم تنتبه حتى الآن الى سطوة الامكنة وشروطها, تلك التي تفوق تفاصيل الاسمنت والسيراميك والواجهات الزجاجية والديكور أهمية وخطورة. فكل ما يشغل هذه الذهنيات هو اضفاء الهيبة والوقار على أماكن السلطة السياسية والادارية والعسكرية, أما أهمية الانسان ـ ابن الوطن.. فانظر أمامك الى الشمس لأنها وراءك! أما من ناحية السفارات وبوابات الوطن فهي أماكن محشوة بانشغالات الرواتب والعلاوات والترقيات والساديات الموروثة عن عباءات السلطة, فضلا عن (التهليب) الذي لا تخفى طرائقه على أحد. والسؤال الآن: لماذا لا تقول الحكومات العربية بانشاء معاهد لتدريب الموظفين المرشحين لشغل هذه الاماكن, وتأهيلهم انسانيا ووعيا بمعنى سمعة الوطن وشروط المكان الرمزي؟ فاذا كان مهما تأهيل الفرد دبلوماسيا في السلك السياسي, أليس من الأولى ان تولي هذه الامكنة اهتماما من نفس الوزن والعيار؟ فالبعض يعتقد ان سمعة الاوطان تقتصر على وزراء الخارجية ورموز العمل السياسي, في حين ان السفارات والمطارات وبوابات الحدود هي الوجه الآخر والأكثر خطورة على سمعة الاوطان. ومن هنا نستطيع ان نستولد قضية اخرى, وهي مدى أهمية الانسان العادي والبسيط لدى موظفي أماكن السيادة, بل لدى فكر السلطة العربية! أخيرا, ألا يستحق الوطن ان نحرس معناه؟ ألا يستحق ان نكتبه بالحبر الأحمر تحت الجلد؟ لا نملك إلا ان نقول: كيف يكون الوطن كبيرا اذا كان انسانه البسيط مهمشا... ومهانا؟ كيف يكون عظيما اذا كانت طيوره المغتربة منهوشة بأظافر الياقات البيضاء؟ * كاتب من مصر

Email