خصخصة الفضاء الخارجي، بقلم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

وليس لك ان تتصور ان السوق الدولية, خالية أو خالصة لاحتكار الامريكان, كل ما هنالك انهم سبقوا منافسيهم الى ابتكارات اضافوها في مجال الصور الملتقطة بالاقمار من حيث الدقة والوضوح والتفصيل, وفي مقدمة هؤلاء المنافسين فرنسا والهند وروسيا .. لان قوانين السوق اصبحت بمثابة الآمر الناهي, في زماننا الراهن, فقد امعن القوم في خصخصة كل شيء, وها هم يصلون إلى حيث خصخصة .. الفضاء الخارجي, لا بمعنى ان غامر رجل اعمال امريكي مثلا بشراء هذا الكوكب أو تلك المجموعة النجمية على نحو ما قد نشاهده في افلام السينما الامريكية ايضا, ولكن بمعنى ان الصور الفضائية الملتقطة بواسطة الاقمار الاصطناعية لن تظل حكرا على الحكومات أو على بعض المؤسسات ذات المسؤولية المحددة, بل سوف تجد طريقها كي تطرح في اسواق التداول ومن ثم فقد يأتي اليوم الذي لايقتصر فيه السائح على سؤال بائع الصور التذكارية والكارت بوستال, في اكشاك الميادين, عما اذا كان يبيع صورا لاهرام الجيزة أو مشاهد الخور عند الغروب أو برج ايفل, بل يمكن ان يسأل السائح في مزيج من البراءة والفضول عما اذا كانوا يبيعون ـ مثلا ـ صورا ملتقطة من الفضاء لمنشآت الطاقة الذرية في فرنسا أو لعناصر تركيب المحاصيل في امريكا أو لتعداد الافيال أو حيوانات وحيد القرن في غابات السفاري في وسط افريقيا, ويأتي دليلا على الخصخصة الفضائية, كما قد نسميها احدث قمر صناعي يحمل اسم (ايكونوس) وسوف تقوم باطلاقه شركة امريكية خاصة هي شركة (سبيس ايماجنج) المتخصصة في انتاج (وبيع) التصاوير الفضائية, اما موعد الاطلاق المقرر فهو يوم الجمعة 24 سبتمبر الحالي, والآمال معقودة بغزارة على مهمة القمر (ايكونوس) لكي يعوض اصحابه عن مئات الملايين من الدولارات التي تكبدوها للاستثمار في عملية الاطلاق, على ان يتم هذا التعويض من عائدات بيع وترويج الصور التي يلتقطها لجوانب ومواقع شتى من كوكب الارض ولكن بدرجة غير مسبوقة من الوضوح والتفصيل لا بحيث يلبي اغراض البشر العاديين في حياتهم اليومية أو انشطتهم المعيشية بين العمل والفراغ, هم يطمحون مثلا إلى ان يبادر مواطن يهوى صيد السمك إلى شراء صورة (فضائية) سوف يحددون بمعرفتهم اسعارها لكي تدله على افضل الاماكن التي تجود فيها حشائش البحر ومن ثم تهوي اليها جموع الاسماك, أو قد يشتريها هواة التخييم واقامة المعسكرات في المناطق الحكومية أو ارتياد اجمل المواقع واحفلها بالمناظر الطبيعية الخلابة سواء على مستوى بلد بعينه وربما على صعيد مساحات قارية بأكملها وهم بحاجة دوما إلى استشارة صورة ملتقطة من اجواء الفضاء بواسطة تابع اصطناعي بالغ الذكاء من احدث اجيال الاقمار الاستطلاعية, ويمكن ان ينطبق الشيء نفسه ـ كما يطمح الداعون إلى خصخصة الفضاء الخارجي للاغراض التجارية ـ على الصور التي تمسح ضاحية سكنية راقية في مدينة ما, وتحصر تحديدا عدد البيوت التي تنقصها حمامات السباحة أو مساحات الحدائق وهنا يخف إلى خدمتها جموع المقاولين وجحافل المهندسين والمصممين والمستثمرين ثم هناك ايضا طوائف المزارعين, وخاصة على مستوى الزراعات الشاسعة كما هو الحال في امريكا الشمالية أو في استراليا وتستطيع ان تخدمهم الصور الملتقطة من اعلى, لكي يقفوا على الحالة الصحية لمزروعاتهم ويحددوا المواقع التي لم تتح لها اسباب النمو والنضوج أو التي تأخرت براعمها عن الظهور أو لاتزال بحاجة إلى مزيد من علاج لتقاوم الافات. شكوك وهواجس مع هذا كله, فان ثمة شكوكا وهواجس مازالت تخالج المسؤولين والاختصاصيين ازاء هذا الانتشار المتوقع مع اولى سنوات القرن المقبل للاقمار الاصطناعية وكاميراتها الفضولية بكل امكاناتها الهائلة من حيث الشمول وبكل تجديداتها المبتكرة اخيرا من حيث الوضوح والدقة والتفصيل والتحديد. هؤلاء المسؤولون يقولون: مهما تكلم اصحاب هذه الاجهزة الفضائية عن خدمات تسويقية ظاهرها خدمة المستهلك العادي, ما بين هواة الصيد أو هواة المعسكرات في البر أو رواد السفاري أو مزارعي امريكا أو استراليا, فلسوف تظل هذه النوعيات من اجهزة التصوير الفضائية تدور وتلف حول خدمة هدف اساسي واحد وهو: الاستطلاع والتجسس وجمع المعلومات. مشاكل ايكونوس ومهما اكتسب القمر (ايكونوس) وشيك الاقلاع في غضون ايام من مزايا مدنية او خصائص تسويقية, فلسوف تظل هذه النوعية من الابتكارات والاستثمارات محافظة على طابع جوهري. لابد وان ننتبه اليه دوما وهو: الطابع الجيوبوليتيكي: الجغرافي ـ السياسي او الجيوسياسي كما قد نسميه ومرد الانتباه الذي ندعو اليه هو مدى ارتباط هذه الاجهزة التي سوف تشهد الفترة القريبة المقبلة انتشارها ورواجها واقترابها من حياة الناس بحكم تيار الخصخصة الذي اشرنا اليه مع قضايا الامن القومي للامم والشعوب وربما قضايا الامن الفردي وخصوصيات الحياة الشخصية المستورة والمصانة للافراد والعائلات. وليس صدفة ان تنبه الى هذا الجانب الاستراتيجي دراسة نشرها الكاتب الامريكي (روبرت رايت) (نيويورك تايمز ماجازين, عدد 6/9/99) باعتبار ان امتلاك هذه النوعية من الصور الفضائية المستجدة من حيث الوضوح والتفاصيل, انما يشكل سلاحا جديدا ـ كما تقول الدراسة ـ في يد الصفوة الحاكمة في هذا البلد او ذاك, وايضا في ايدي جنرالات وسياسيين ومتنفذين ومن في حكمهم.. وهي تضع في ايديهم صولجانا وسلطة وقوة كانت من قبل مقصورة فقط على اقوى بلدان العالم واسبقها في مضمار التقدم العلمي والتكنولوجي. الاصل عند جورباتشوف من ناحية اخرى, يجادل انصار هذا النوع من الخصخصة الفضائية المرتقبة قائلين: الم يأتكم نبأ الشعار التي سبق اليه صاحبنا جورباتشوف وصاغه منذ اواخر العقد الماضي في التعبير الشهير.. جلاسنوست. وبعدها دخل التعبير قاموس السياسة العالمية الراهنة تحت مسميات شتى الى ان دخل الى ادبيات السياسة العربية في ترجمة دقيقة بدأت تسري في تيار الخطاب السياسي الراهن في العالم العربي وهي: الشفافية والمعنى بين الجلاسنوست وبين الشفافية هو الوضوح والمكاشفة والافصاح, والمعنى ايضا الا تظل كل امور الحكم السياسية وادارة الشأن العام والتعامل مع القضايا القومية التي تهم الآلاف والملايين من الناس, وكأنها كهنوت مقصور على اهل الحظوة او النخبة من الساسة او مساعديهم من التكنوقراط الفنيين دون غيرهم, في حين ان الاولى هو الرجوع الى الجماعة.. ولابد من تنفيذ الامر الجليل المأثور (وشاورهم في الأمر) على اساس ان احساس المواطنة الحقيقي.. انما يقوم ويتأصل باحساس من المشاركة الحقيقية في ادارة شؤون الوطن ـ وكل هذا لا يتأتى الا بتكريس الشفافية ومبدأ شعار يكفل اكبر قدرة من الصحة والوضوح والتفاعل بعيدا عن ظلام المؤامرات او أحابيل مراكز القوى والمخططات الخفية لاصحاب المصالح الخاصة. تبادل الشفافية ولكن.. اذا كانت الشفافية مطلوبة من هذا الجانب او من هذه الدولة او ذلك الكيان السياسي ـ فلابد وان تكون مطلوبة بنفس القدر من الجانب الاخر كياناً كان او دولة وليس من المعقول ان تكشف دولة ما عن امورها بينما تتذرع جاراتها او يتدثر خصومها بستار السرية يبسطونه عما يتعاطونه من امور, والآن عمد القوم الى ما يمكن وصفه تبسيطا بأنه (اللعب على المكشوف) فربما ادت هذه الشفافية المشتركة او فلنقل هذا الكشف المتبادل الى ايجاد حالة من التوازن اشبه بميزان الرعب النووي الذي كان منصوبا ومعروفا منذ نصف القرن الحالي وفي ظله امكن تفادي المواجهات النووية المهلكة اذ كان كل طرف نووي يدرك ان الاخر لديه امكانات الرد النووي ومن ثم فلا غالب في ظل ميزان الرعب النووي ولا مغلوب. واذا ما استقام هذا الميزان من الشفافية المتبادلة لوصل العالم الى تحقيق نبوءة ادبية في الاساس قال بها الروائي (ارثر كلارك) منذ ربع قرن او قليلا حين كتب روايته الشهيرة بعنوان (2061 ـ الأوديسة الثالثة) وساق النبوءة على النحو التالي: ـ عصر الشفافية هو عصر رائع بكل المقاييس فعندما يشعر كل فرد ان الآخر يرصده ويراقب حركاته وسكناته.. وعندما يفعل هذا الفرد نفس الشيء بالنسبة لاقرانه ونظرائه, حينئذ لايكون ثمة مجال لاي هجوم مباغت.. وينعدم عنصر المفاجأة.. ويومها يصبح من المستحيل ان تنشب حروب مدمرة بين القوى الكبرى. منافسون دوليون وليس لك ان تتصور ان السوق الدولية سواء كانت في الفضاء او فوق سطح الارض, خالية او خالصة لاحتكار الامريكيين كل ما هنالك, كما يقول الصحفي الامريكي (روبرت رايت) ان الامريكيين سبقوا الى ابتكارات وتحسينات اضافوها في هذا المجال وتفوقوا بها على نظرائهم من المنافسين في مجال الدقة والوضوح والتفصيل في الصور الملتقطة بالاقمار من الفضاء الخارجي لاحوال واوضاع كوكبنا الارضي وفي مقدمة هؤلاء المنافسين كل من فرنسا والهند وروسيا (ورثة الاتحاد السوفييتي بطبيعة الحال). وكل مايهم دوائر صنع السياسة في امريكا هو تشديد السيطرة على هذا المجال الجديد كي لايفلت من طائلة القوانين وقد يدمر مصالح داخلية او خارجية تراها واشنطن ماسة بامنها القومي. وثمة دعوة مثارة حاليا الى تقنين هذه الاوضاع او ترشيد هذه الاستخدامات التكنولوجية الجديدة وقد يكون منها مثلا تحريم النقاط وترويج صور بالغة الوضوح من مقاس كذا او بدرجة وضوح كيت على الشركات الامريكية الخاصة حتى لاتنافس مثلا دوائر البنتاجون. فتش عن.. اسرائيل وبالمناسبة هذا التحريم قائم ومنفذ على اساس استثنائي وفي حالة واحدة فقط هي حالة اسرائيل(!) التي تحظر القوانين الامريكية التقاط اي صور فضائية واضحة او محددة لرقعتها او منشآتها في قلب الشرق الاوسط! وبالمناسبة ايضا فان شركة امريكية كبرى تخطط للتخلص من رقابة الترشيد او التقنين هذه وتنوي اطلاق اقمارها وممارسة عملياتها من خارج المياه الاقليمية للولايات المتحدة وبالذات من جزر كايمان المتناثرة في مياه البحر الكاريبي وبالمناسبة كذلك, فان هذه الشركة الامريكية الفضائية واسمها (وست انديان سبيس) عبارة عن مؤسسة شراكة بين رأس مال امريكي وبين هيئة صناعات الطيران في اسرائيل ويكاد كاتب الدراسة التي تشير اليها يشد شعر رأسه وهو يتساءل مستغربا عن ذلك التناقض بين مشاركة اسرائيل في مشروع لترويج الصور الفضائية في اسواق البيع والشراء, وبين ما استطاعت ان تحرزه في دوائر الكونجرس والحكومة في واشنطن من حظر مفروض على التقاط صور امريكية فضائية من فوق الرقعة التي تحتلها اسرائيل وبعدها يقول الكاتب الامريكي بالحرف: اذا اردت ان تجد حلا وجيها لهذا التناقض فما عليك الا ان تسأل اللوبي (اصحاب المصالح) الذي يعمل في خدمة شركات الاقمار الاصطناعية الامريكية, وقد تضيف اليه عبارة تحض على سؤال اللوبي الذي يعمل لخدمة مصالح اسرائيل في واشنطن وبمناسبة اسرائيل اخيرا, تشير الدراسة الى ان تل ابيب تعارض بشدة ما اصبح يوصف بانه (ديمقراطية المعلومات) في مجال الصور الفضائية. والدراسة ترجع هذا الرفض الى ان اسرائيل مازالت تتمتع بميزة تكنولوجية على جيرانها الاقل تقدما, ومن ثم فنشر الصور الفضائية الملتقطة بالاقمار التجارية في سوق البيع والشراء ـ قد يؤدي الى افقادها هذه الميزة النسبية.. وقد نضيف ايضا انه يؤدي الى المزيد من انكشاف المستور او الى اذاعة المسكوت عنه من حيث المنشآت النووية الاسرائيلية المسكوت عنها وما في حكمها من مؤسسات الردع او تكديس التفوق التي ظل اصحاب المشروع الاستيطاني الصهيوني يحدبون عليها خوفا من مواجهة قد تقع يوما وتحسبا لاحتمالات هذا الوقوع. وسواء كانت هذه المواجهة بعيدة او قريبة وسواء حاول قادة المشروع الصهيوني ان يثوبوا او لم يثوبوا الى رشد الحقيقة وسنة التطور فيعملون على اعادة الحقوق الى اصحابها, فالنتيجة واحدة وهي: ان دوام الحال من المحال.. وان القرن الوشيك يأتي بمتغيرات لم تكن يوما في الحسبان.. بعضها ايجابي وبعضها قد يكون سلبيا.. ولكنها متغيرات في كل حال.. وهي تبدلات جذرية كفيلة بأن تنقل العالم ـ ونحن جزء منه ـ الى اوضاع وتحديات تقتضي منا باستمرار اعتماد منظورات متطورة ويقظة متواصلة. * كاتب سياسي من مصر

Email