العالم يكتشف من جديد المأساة العراقية!بقلم: عمران سلمان

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو أن تأثير التقرير الذي اصدره صندوق الامم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونيسيف) بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية في وقت سابق من هذا الشهر حول الوضع الصحي في العراق, كان اكبر بكثير مما توقعت له الاوساط الاعلامية . وعلى الرغم من محاولات الادارة الامريكية القفز على التقرير أو تهميشه وطمس اهم حقائقه, فور صدوره, الا انه نجح في تحريك المياه الراكدة, ووضع قضية الوضع الصحي وتأثيرات الحصار المميتة على الاطفال العراقيين خاصة, في سكتها السليمة. وتأتي زيارة وفد الكونجرس الامريكي الى بغداد والمكون من خمسة مساعدين برلمانيين وممثلين لمؤسستي ابحاث مقرهما واشنطن, في هذا الاتجاه, وهي الموسومة (آي الزيارة) بتفقد الآثار التي خلفتها العقوبات ميدانيا في بغداد والبصرة ومناطق اخرى من العراق. كما يأتي قرار رئيس لجنة العقوبات في مجلس الامن السفير الهولندي ارنولد بيتر بزيارة العراق لتقويم الوضع الانساني فيه, مؤشرا على بداية اهتمام جدي بهذه المسألة وصدى آخر للتقرير المذكور. والمسألة المهمة في الامر كله هي ان بغداد ـ أو هكذا نأمل ـ قد اهتدت الى الطريقة الفعالة والعملية لإبراز معاناة شعبها جراء الحصار الظالم المفروض عليه, ليس من خلال الشهادات المحلية, المطعون في صدقيتها, رغم صحتها في معظم الاحيان, وانما عن طريق دعوة المؤسسات الدولية المعنية المحايدة والتي تتمتع بمصداقية واحترام كبيرين في المجتمع الدولي لمعاينة الوضع على حقيقته والخروج من ثم باستنتاجاتها الخاصة. ان هذه الطريقة في التعامل هي التي ستجبر الاخرين ـ دولا ورأيا عاما ـ على الالتفات للجريمة المروعة التي يتعرض لها العراقيون تحت الحصار, وهي التي ستساعد من ثم اولئك على سهولة التمييز بين ما هو دعائي وماهو حقيقي وواقعي. من الضروري القول هنا بان الولايات المتحدة قد اغرقت العالم في مجادلات عقيمة وحجج خادعة فيما تعلق بالوضع في العراق. ونجحت في احيان كثيرة في تحويل التركيز من المسألة الانسانية الى المسألة السياسية. وهي بتردادها في كل مرة ان وفيات الاطفال في العراق والمعاناة الرهيبة التي يحياها مواطنو هذا البلد منذ تسعة اعوام انما هي نتيجة سياسات الحكومة العراقية, وليس بسبب العقوبات, حاولت على الدوام ان تنقل المشكلة وتوجه الانظار الى حيز النظام في العراق وطبيعته, وتقديم الامر كما لو أن هذه هي القضية الحقيقية والاساس, وليس العقوبات والحصار. ان هذه الاستراتيجية الامريكية, التي لاتستطيع سوى أن تقول انها صادفت نجاحا لا بأس به, بدت اكثر فأكثر تظهر اليوم اخفاقها وبؤسها. وفي حين ان الصراع بين الادارة الامريكية والحكومة العراقية, اذا جازت التسمية, هو صراع سياسي ممتد وقد يطول الى زمن ليس قريبا, وهو محكوم بعوامل وخلفيات عدة. فان العقوبات وهي عقاب جماعي, لاتخضع لنفس هذه المعايير, انها تواصل فتكها يوميا بالحلقات الضعيفة في المجتمع العراقي, الاطفال والمرضى والمسنين, وتحول حياة الباقين الى جحيم لا يطاق. وفضيحة كهذه لايمكن سترها او التعامي عنها طويلا, وما كان ينبغي السماح بذلك اصلا, مهما لجأت الادارة الامريكية الى توظيف خلافاتها مع الحكومة العراقية من اجل هذا الغرض, او الى التوزيع الساذج للمسؤولية عن هذا الوضع بين العقوبات وبين بغداد. ان تقرير اليونيسيف لم يفعل في الواقع سوى تسريب بعض اوجه هذه الفضيحة الى اوساط وجهات ظلت حتى الان بعيدة عن مجال التفاعل والتعاطي مع الكارثة الانسانية في العراق. من المهم في هذا الصدد ان يشعر الرأي العام الامريكي والغربي عموما, بان حكوماتهم قد خدعتهم, وانها في الوقت الذي تتحدث فيه عن ضرورة تغيير النظام في بغداد, في الوقت ذاته يسقط اطفال عراقيون لاذنب لهم, صرعى المرض ونقص الرعاية الصحية والغذائية جراء العقوبات الدولية. ومن المهم ان تكبر القناعة بعدم جواز استخدام العقوبات الجماعية ضد اي شعب بصرف النظر عن الخلافات السياسية بين الدول. من نافلة القول ان هذه الخلافات لها طبيعة مغايرة لآلية العقوبات. انها جزء من الصراع الدولي, صراع المصالح والنفوذ. قد تتغير خلاله الحكومات وتتبدل السياسات. في حين ان الحصار يعتبر سلاح ابادة جماعية ضد السكان. انه نوع من الانتقام البدائي, الذي ربما كان مقبولا في الازمنة الغابرة, حين كان يراد اخضاع مدينة ما او دفع اهلها للاستسلام, فتجري محاصرتها الى حد اجبار من بداخلها على أكل الجيف أو الموت جوعا. لكن هذا النوع من العقاب لم يعد مقبولا او جائزا في عصرنا هذا, حيث تتكرس قيمة الانسان واهميته على ما عداها من امور, وحيث يصار الى تعميم عالمية القيم والمفاهيم الانسانية. ومن المفارقات ان من عادوا ليمارسونه اليوم يعتبرون انفسهم, اوصياء ودعاة متقدمين في مجال حقوق الانسان والديمقراطية! ان معركة رفع الحصار الظالم عن العراق, ليست معركة سياسية, وان بدا أنها كذلك لاول وهلة. وان تأكد ايضا ان القرار الحاسم في رفع الحصار انما يعود الى الارادة الامريكية قصرا وحصرا. لكن الواقع انها معركة انسانية ويجب ان تخاض على هذا الاساس, بل انه من الصعب كسبها ما لم تجرد من الدوافع والاغراض السياسية, وبالصورة التي تحرم المتشددين في الادارة والطبقة السياسية الامريكية من حججهم ومبرراتهم. واعتقد أن زيارة وفد الكونجرس الامريكي لبغداد تعكس تطورا جديدا على هذا المستوى. انه تطور لن يدفع بالادارة الامريكية الى رفع الحظر أو إجراء تغيير في سياستها تجاه العراق, ولكنه يفتح ثغرة في جدار الرأي العام الامريكي, الذي لوثته الدعايات الصهيونية واتباعها في الساحة السياسية الامريكية. ويتوقع ان تترك زيارة بابا الفاتيكان للعراق والمقرر أن تتم قبل نهاية هذا العام, اثرا ملموسا لدى الرأي العام الغربي, الذي سيرى من خلال متابعته لهذه الزيارة لاول مرة حجم الجريمة التي ترتكبها حكوماته بحق شعب العراق وأديانه وتاريخه وحضارته. * كاتب بحريني

Email