وسط الغيبوبة العربية،لماذا تذهب الهند إلى اسرائيل؟!بقلم: جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

بينما كان الكل مشغولا بمتابعة المسرحية الرديئة, مر الخبر دون ان يحظى بما يستحقه من اهتمام. المسرحية يمكن ان تحمل اسم(في انتظار السيدة اولبرايت), والممثلون جميعا كانوا في غاية الرداءة حتى اصابوا الجمهور بالملل , ولعل هذا كان هو المقصود حتى يشعر الناس بشىء من الراحة بمجرد انتهاء المسرحية وبأى نتيجة تتحقق. وهكذا عاشت المنطقة اسبوعين وهي تتابع انباء تفاؤل عرفات في الصباح وتشاؤمه في المساء, وبالتبادل مع باراك, بحيث تظل اللعبة مستمرة, واحد يتفاءل وواحد يتشاءم, وباقي الاطراف (بين بين) اي في منطقة (التشاؤل) انتظارا لوصول السيدة اولبرايت في زيارتها المباركة للمنطقة. ولان الاخراج شيء والجمهور يعرف النتيجة مقدما, ويدرك ان الارادة الاسرائيلية ستفرض ما تريده كما تفعل منذ اوسلو, فقد انصرف الناس عن المتابعة, وهو امر اظن انه مقصود لابعاد الرأي العام عما يجري, وتمهيد الطريق لما يسمونه بـ (الحل النهائي) أو التنازلات العربية في اقصى واقسى صورها, والتي لا يمكن ان تمر الا بتزييف الواقع على الجماهير وابعادها عن ان تكون شريكا في تقرير مصيرها, ليصبح الامر في النهاية في يد (مناضلين) سابقين اقروا بهزيمتهم قبل ان يجلسوا مع الاعداء, وقدموا الاعتذار عن النضال الذي توقف! وسط المسرحية الهزلية, توقفت عند خبر قد يبدو بعيدا عما يدور من تطورات هامة في المنطقة, ولكنه ـ بشيء من التأمل ـ يعكس جانبا من مأساة الخيبة العربية التي اوصلت الامة الى ازمتها الراهنة. الخبر يقول ان وفدا هنديا رفيع المستوى سيزور اسرائيل لتعزيز العلاقات بين البلدين. والوفد يضم عددا من المسؤولين البارزين ويرأسه مستشار الامن القومي الهندي, والارجح ان التعاون العسكري والامني وفي مجالات التسليح والنشاط النووي سيكون في مقدمة ما يتم بحثه. بالصدفة.. كانت الجامعة العربية قد ذكرتنا في تقرير لها في الشهر الماضي بالتعاون الاسرائيلي ـ الهندي في المجال النووي. ولكنها ـ لا هي ولا غيرها ـ انتهز الفرصة ليذكر العرب بالخيبة العربية القوية التي يقدم هذا التعاون دليلا عليها. ونترك اسرائيل جانبا.. فتفوقها على العرب اجمعين هو قرار امريكي, و(المعجزات) التي تقوم بها في كل الميادين هي في النهاية انعكاس لقرار امريكي بأن تكون هناك حامية امريكية في المنطقة تتوافر لها المساعدات المالية والاقتصادية والعسكرية والدعم السياسي بلا حدود لتضمن امدادات البترول وتخضع المنطقة لسادة العالم في هذا العصر والاوان. نترك اسرائيل جانبا, ونلتفت الى الهند فيكون الاسى مضاعفا والالم موجعا, فهنا تظهر الخيبة العربية بلا حدود وبلا علاج.. حتى الآن على الاقل! ومبعث الاسى في هذه الخيبة يأتي من امرين: الامر الاول.. ان الهند كانت ـ عند استقلالها قبل نحو نصف قرن ـ اكثر تخلفا من معظم الدول العربية المستقلة حينئذ. كان الاستعمار البريطاني الطويل قد انهك قواها ونهب خيراتها واستغل شعبها لسنوات طويلة, ثم تركها في اسوأ حال يمكن تصوره.. الفقر القاسي يفترس ابناءها, والمجاعات ضيف دائم عليها, والامراض والاوبئة تفتك بالملايين فيها كل عام. والادهى من ذلك كله حروب الطوائف التي تستنزفها والتي تركها الاستعمار وراءه ضمن تركته الثقيلة لتفتك بالدولة التي اضطرت لاتخاذ الانجليزية لغة رسمية لها لتتغلب على انقسام الامة الى شعوب شتى تتكلم مئات اللغات ولا تعرف طريقا يجمعها. ومع ذلك كله استطاعت الهند ان تمضي في طريقها, وان تحفظ للدولة مكانتها وان تفرض هيمنتها على كل الحركات الانفصالية, وان تحافظ على استقلالها وسط صراعات رهيبة. احتمت الهند بالديمقراطية, ورغم كل الصعاب استطاعت ان تحمي وحدتها وان تجعل من التنوع والاختلاف بين العناصر التي تتكون منها الدولة.. مصدر قوة وطريقا للنهوض. ورفضت الهند ان تنضوي تحت جناح اي قوى كبرى في ايام الحرب الباردة, ودفعت الثمن ولكنها حافظت على استقلالها وشقت طريقها الخاص نحو التقدم. وسارت الهند على اشواك كثيرة, ولكنها استطاعت ـ رغم كل شيء ـ ان تقيم قاعدة علمية هائلة, وان تضع هذه القاعدة حيث ينبغي ان تكون.. في خدمة المجتمع ومن اجل حل المشاكل التي تواجهه. كانت الهند تعاني المجاعات وعندما واجهت محاولات الحصار وضرب الارادة بمنع القمح عن الملايين الجائعين من ابنائها, قبلت التحدي, واستطاعت خلال سنوات معدودة ان تكتفي بما تنتجه. وما فعلته في القمح, فعلته في ميادين كثيرة, انشأت صناعات كبرى, واقتحمت مجالات تحتاج للعلم والمال والارادة الصلبة, ونجحت الهند في ان تدخل عالم الكمبيوتر وتصبح واحدة من محطاته الكبيرة, وصنعت السلاح, ثم اقتحمت الميدان النووي لتفرض نفسها وسط القوى النووية في العالم. وللذكرى فقط.. فقد كنا في الستينات اكثر تطورا في العديد من هذه المجالات ومنها المجال النووي.. وفي هذه الفترة كان هناك تعاون وثيق بين مصر والهند في العديد من المجالات ومنها صناعة السلاح, وكان هناك ـ على سبيل المثال ـ مشروع انتاج مشترك بين البلدين للطائرة الميج الروسية, وتوقف المشروع بعد هزيمة 1967, وسارت فيه الهند بمفردها, والآن تطور الهند صناعاتها الحربية بمشاركة اسرائيلية هذه المرة! وهذا هو الوجه الثاني المؤسف في هذه القضية, والذي نتحمل جزءاً كبيرا من المسؤولية عنه, فالمصالح المشتركة والجغرافيا والتاريخ, كلها كان ينبغي ان تؤدي إلى غير هذه النتيجة. المصالح المشتركة تعني العمالة الهندية في دول الخليج, ومساهماتهم في اقتصاديات بلادهم, وتعني السوق العربية الواسعة أمام المنتجات الهندية, وتعني امدادات البترول من ناحية والمشروعات المشتركة من ناحية أخرى, وتعني المصالح الأمنية المشتركة الآن .. وغدا. والتاريخ والجغرافيا يؤكدان عمق الروابط بدءًا من تواصل الحضارات القديم, إلى دور الاسلام في شبه القارة الهندية, وصولا إلى ما كان في العصر الحديث من روابط وصلت أوجها في العلاقات بين مصر عبدالناصر وهند نهرو, هذه العلاقة التي جعلت منها ومن يوغسلافيا تحت حكم تيتو القاعدة المتينة لسياسة عدم الانحياز التي جنبت العالم الكثير من الويلات, وأعادت الاعتبار إلى دول العالم الثالث. قبلها كانت مصر والهند قبل الاستقلال تخضعان لنفس النظام الاستعماري البريطاني, وعندما ثارت الهند تحت قيادة غاندي العظيم, لم يجد الرجل حرجا من ان يقول ان ثورة مصر عام 1919 بقيادة سعد زغلول كانت نموذجا تعلمت الهند منه الكثير وهي تنتفض طلبا للاستقلال. وبعد ذلك قامت روابط بين حزب المؤتمر في الهند وحزب الوفد في مصر, وابتداء من باندونج كانت العلاقات التاريخية بين الرجلين.. عبدالناصر ونهرو, هذه العلاقة التي شقت طريقا جديداً لشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تحت أعلام عدم الانحياز والحياد الايجابي. كيف انتهى هذا كله إلى وضع تتعاون فيه الهند مع اسرائيل في كل المجالات وحتى في المجال النووي رغم ما يمثله ذلك من مخاطر على العرب والمنطقة؟ القصة طويلة, وليست الهند إلا أحد فصولها, وما يجري معها يجري في أماكن أخرى استطاعت اسرائيل ان تمد نفوذها إليها بعد ان كانت تمثل دعما قويا للحق العربي, ولعل المثال الواضح هنا هو الاتحاد السوفييتي السابق الذي تفكك وتشرذم وتحول إلى جمهوريات مستقلة تتسابق في سوء الحالة والسطوة الامريكية ونفوذ عصابات المافيا واليهود. الهند مثال بارز ـ مثل الاتحاد السوفييتي السابق ـ على الخسارة العربية في العلاقات الدولية, وان كانت الهند تختلف ـ من حيث التفاصيل والتوجهات ـ عن غيرها. فالصراع الباكستاني ـ الهندي كان على الدوام يلقي بظلاله على العلاقات مع العرب, وبدلا من ان يستغل العرب علاقاتهم المتميزة بطرفي النزاع, انقسموا ـ كالعادة ـ إلى فريقين يؤيد كل فريق طرفا من الطرفين (الهند أو باكستان) وضاعت فرصة قيام العرب بتقريب وجهات النظر وحقن الدماء بين الطرفين المتصارعين. وبالطبع .. فان امريكا لم تكن غائبة عن هذا الصراع بل كانت احد اسبابه, والروس كانوا هناك, والصين على الحدود, والعرب ـ كالعادة ـ لم يستطيعوا بلورة استراتيجية للتعامل مع هذه المنطقة (وهل استطاعوا في غيرها؟) . * مع تغير الاحوال الدولية في السنوات العشر الماضية, تغيرت مواقف الكثير من الدول الهامة من القضايا العربية, وكان اهم عاملين في هذا التغيير هما انهيار النظام العالمي القديم بسقوط الاتحاد السوفييتي, وانفراد امريكا بزعامة العالم, وكانت اسرائيل جاهزة دائما لتقديم نفسها باعتبار انها الطريق المأمون إلى قلب وعقل امريكا (وهو ما يؤمن به حتى بعض العرب المستعدين للهرولة أو المصافحة او ما هو اسوأ كثيرا او قليلا. والعامل الثاني في التغيير كان بدء مسيرة سلام الشجعان (!!) فقد انطلقت اسرائيل بعد مدريد اولا, ثم بعد اوسلو تطرق كل الابواب وتجني ثمار سلام لم يتحقق, وبينما كانت الاطراف العربية قد اكتفت بمنح اوراقها لامريكا ثم انتظار السلام الشامل العادل الكامل الذي سيأتي به البيت الابيض كان الاسرائيليون يغزلون بمهارة نسيج شبكة جديدة من العلاقات المتميزة بالعالم كله وخلال سنوات قليلة عادوا لافريقيا التي كانت علاقاتها باسرائيل مقطوعة (رسميا على الاقل) واقاموا علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية مع الصين والهند اللتين كانتا تمثلان دعما اساسيا للحقوق العربية, اما روسيا فقد وقعت في قبضتهم حتى اصبح مسؤول الامن القومي في الكرملين مواطنا اسرائيليا!. واتذكر هنا لقاء شهدته مع بعض المسؤولين الروس في موسكو في منتصف الثمانيات وجورباتشوف في طريقه لتولي السلطة هناك كانوا مازالوا يحسون بمرارة واقعة طرد السادات للخبراء السوفييت من مصر في بداية السبعينات ويتساءلون: لماذا كان الطرد وبهذه الصورة المهينة, والخبراء كما يعلم السادات جاءوا بعد الحاح مصري, وبعد معركة في الكرملين حيث كانت معظم القيادات ترفض ان يذهب الخبراء الى مصر خوفا من صدام غير محدود العواقب مع الامريكان لكن الامر تم حسمه يومها بقرار سياسي بعد اصرار عبدالناصر على ذهاب الخبراء ليساهموا في دعم الدفاع عن مصر, بينما تتركز الجهود المصرية على بناء حائط الصواريخ الذي جعل العبور في 73 ممكنا؟ كان هذا متوقعا ومفهوما من المسؤولين الروس يومها, ولكن المفاجىء لنا كان الاعتراف بالازمة التي يواجهها المجتمع السوفييتي والنتائج القاسية لاضطرارهم لخوض حرب الكواكب التي فرضها عليهم الامريكان وما ترتب على ذلك من تراجع اقتصادي كبير بسبب النفقات العسكرية الهائلة, يومها كان التساؤل: اين اصدقاؤنا العرب؟ ولماذا لاتجيء بعض الاستثمارات لتحقيق المنفعة المشتركة في كل المجالات؟ وفهمنا ان مثل هذه الاحاديث قد تم تداولها مع جهات عربية كثيرة, ولم يحدث بالطبع شيء, ووقفنا نتفرج على انهيار الاتحاد السوفييتي, وهللنا لجورباتشوف ثم صفقنا ليلتسين وهو يضرب البرلمان بالقنابل ويفرض على روسيا الاذلال, ويسلم امورها لعصابات المافيا واليهود, ووقفنا نتفرج على هجرة مليون روسي الى اسرائيل منهم علماء يحملون اسرار الترسانة العلمية والعسكرية والنووية في روسيا. وخلال عقد واحد, كانت اسرائيل قد فتحت كل الابواب الموصدة, من بكين الى نيودلهي الى موسكو الى عواصم اوروبا الشرقية السابقة, بينما العرب راضون بأن اوراق اللعبة في يد امريكا يتدربون على الهرولة وتقديم التنازلات وينظمون القصائد في سلام الشجعان!.

Email