ثلاثة تيارات تتنازع سبل المواجهة،العولمة صياغة جديدة لاستراتيجيات الهيمنة، بقلم :ابراهيم سعيد

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل تبدو العولمة في دلالاتها بأنها استجابة ملحة لمواكبة المعطيات الجديدة في الغرب, حيث لا مناص من هذه المواكبة, أم أنها الخيار الذي لابد منه طالما اننا قد سلمنا بأن العالم بأسره بات أسير نمط حضاري كوني واحد نسميه اليوم بالعولمة, ولا يمكن لأي شعب من الشعوب ان يكون خارج مظلة هذا النمط ؟ ولكن إذا كان مفهوم العولمة يعد حديثا ويشكل ظاهرة معاصرة في العالم العربي, بل وفي بعض دول العالم الثالث, فإنه بالنسبة للغرب يبدو عكس ذلك, كونه جاء امتدادا لمراحل سابقة, بدأت بعناوين عديدة أهمها الحداثة إلى مفاعيل ظاهرة الرأسمالية كأيديولوجيا اقتصادية أفرزت انماطا سياسية مرورا بالثورة الصناعية. لكن حدثت تطورات متسارعة أعطت نمطا ايديولوجيا سياسياً لمفهوم العولمة الذي هو نسيج لكل تجليات الحداثة عبر هذا التدفق الاعلامي الفضائي وشبكات الانترنت, وعصر الفضائيات, وسهولة انتقال المعلومات من خلال مختلف وسائل الاعلام, إلى جانب انتشار شبكات خطوط الطيران العالمية, والتسهيلات الكبيرة في حركة انتقال الأفراد ورؤوس الأموال, وكذلك يبدو الجانب السياسي أكثر فاعلية في التأثير من خلال الانتصارات التي حققها المعسكر الغربي سياسيا واقتصاديا وعلميا, وسيطرته وبسط نفوذه على الساحة الدولية وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية, التي لها موقع الريادة في عالم اليوم. الاختراق والسيطرة وترى دول المعسكر الغربي ان تطبيق وتعميم النموذج على مختلف الدول سيحقق لها مصالحها, ويحفظ لها تواجدها على المدى البعيد في عالم يموج في المشاكل والصراعات وبخاصة على الدول التي تعاني من أوضاع متردية في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية, وتفتقر إلى الرؤى والاستراتيجيات, مما يسهل اختراقها والسيطرة عليها, بيسر وسهولة, فالغالب ينفذ خططه وبرامجه, والمغلوب يتقبل فكر الغالب باستسلام واستلاب دون مقاومة, لانه لا يملك أدواتها وبدائلها, وليس له دور أو مشاركة في هذه الموجة السريعة والمتلاحقة من الأفكار والتطبيقات, التي لا يمكن مقاومتها انطلاقا من قاعدة فاقد الشيء لا يعطيه, مما دفع بدول معسكر الشمال وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية, ان تعمل على اعادة صياغة تلك المنظومات بما يتسق مع مصالحها الحيوية. ولعل أفضل من عبر عن ذلك التوجه ودعا إلى فرضه وتطبيقه هو فرانسيس فوكوياما, حين قال: (ان انهيار المعسكر الشرقي وانتصار الديمقراطية الليبرالية, يعني حكما ان التاريخ قد وصل إلى نهايته وان سيادة الغرب وبخاصة سيادة الثقافة الديمقراطية أصبحت نهائية ولا مجال لتغييرات جذرية جديدة في تاريخ الانسان) . وانطلاقا من استشعار قادة الفكر والسياسة والاعلام والمختصين والباحثين لخطورة هذه المفاهيم القادمة من الغرب, كونها تلامس ظروف المجتمعات العربية بشكل مباشر, وتتداخل مع طبيعة المسؤوليات والالتزامات الوظيفية المناطة بهؤلاء المفكرين, فإن الدعوات تصدر عبر أكثر من جهة من اجل التصدي لها بالدراسة والتحليل لمعرفة انعكاساتها سلبا وايجابا على المجتمعات العربية, وايجاد رأي عام حولها, وبخاصة لدى قادة الرأي وصانعي القرار, فجاءت استجابة الباحثين لرصد هذه الظواهر وغيرها, في ظل عالم يموج بالافكار والابتكارات العلمية ليل نهار, ويشهد تطورات معلوماتية وتكنولوجية, فيما نلحظ غياب أي دور أو حضور عربي في كل هذه المتغيرات حيث يبدو عالمنا العربي وكأنه يعيش أكثر مراحل السكون العلمي وايضا الدفاع عن تراثه الحضاري. واذا كانت الاصوات التي تتصدى لمفهوم العولمة (الاستثماري) على قلة عددها, تحاول بقدر ما توفر لها من امكانيات وهي في الغالب تتم بجهود ذاتية, فإن كل الجهود تبدو أقل من مستوى التحدي وتعكس احيانا غياب في فهم المخاطر القائمة. ان حجم التحدي يفرض اعادة نظر من طرف الدول والمؤسسات العربية, عبر خطة علمية واضحة وتوفير الامكانيات المادية من موازنات الدول تخصص للبحث العلمي, نظرا لما يحتله من مكانة كبيرة في تطور المجتمعات والمؤسسات, وهو ما توليه الدول الغربية من الاهتمام الشيء الكثير, وترصد له الامكانيات المادية الكبيرة وتسخر له الطاقات البشرية, والمؤسسات البحثية, باعتبار ان مفتاح السيطرة على العالم يكمن في هذا المجال على وجه الخصوص, فيما كل ميزانيات البحث العلمي في عالمنا العربي لا تتجاوز في أحسن أحوالها الواحد بالمائة أو ما دون. ان الدول الغربية فرضت سيطرتها على العالم سياسيا واقتصاديا وعلميا, وقبل ذلك عسكريا, بفضل ما توفر لها من أرضيات خصبة مهدت لظهور المؤسسات الدستورية العملاقة, والانظمة الديمقراطية والحريات العامة, والاكتشافات العلمية, ورؤوس الاموال الضخمة, ويستوقفني في هذه الجزئية تحليلا للدكتور زكي الحمد المفكر والكاتب السعودي لقناة (اقرأ) الفضائية قال فيه: (لا شك ان البقاء دائما حليف الأفضل, فليس من العدل ان يتساوى العاملون في العطاء والمبدعون والباحثون مع القاعدين) . فمنطق الاشياء يقول ان من جد وجد ومن زرع حصد. سلسلة متصلة ان العولمة هي جزء من حلقة كبيرة مرتبطة بحلقات اخرى, يتم تطبيقها في اطار لغة الغالب والمغلوب, وتشكل المرحلة الثالثة لعصر العولمة, وهي العولمة الثقافية, الجزء الأكثر حساسية, وأشد منافسة ومقاومة, وبالرغم من سيطرة العولمة السياسية والعولمة الاقتصادية على العالم, الا ان العولمة الثقافية التي هي في طور النشوء ستواجه بمقاومة عنيفة وجدل واسع من قبل أطراف ومؤسسات عديدة, ترى في هذه الثقافة الجديدة التي يعد لها ويعمل على تكوينها تهدد مستقبل الثقافات الاخرى, يقول الدكتور تركي الحمد في كتابه (الثقافة العربية في عصر العولمة) : ولا شك ان الثقافة تمثل مشكلة رئيسية كونها تحمل مجمل المعتقدات, والسلوكيات والعلاقات المبنية على هذه المعتقدات, وهي مرتبطة بمفاهيم حية بالنسبة للفرد والجماعة, تطال (الهوية) و(الذاتية) و(الخصوصية) ونحو ذلك من مفاهيم على عكس الحضارات التي في جوهرها دعوة واحدة هي عمارة الارض, فيما يبدو جوهر الثقافات هو التعدد والتعددية لانه مرتبط باساليب الحياة. وانطلاقا من تشابك مفهوم العولمة, مع مختلف مسارات الحياة سياسيا واقتصاديا وثقافيا فقد ناقش الباحثون والمفكرون في تلك الاصدارات والحوارات التي اشرنا اليها في المقدمة, مواقف النخب العربية من هذه المفاهيم مع نهاية هذا القرن وبداية الالفية الثالثة, فظهرت اتجاهات عديدة اهمها ثلاثة توزعت بين معارض ومؤيد ومحايد. فالمعارض لمفهوم العولمة سياسية كانت ام اقتصادية ام ثقافية, يرى ان هذه المصطلحات مصاحبة للفترة العسكرية والسياسية للغرب, وجزءا ممتدا لمرحلة الفترة الاستعمارية, وانعكاسا لتردي الاوضاع العربية وحالة الضعف والتبعية الكاملة للنفوذ الغربي, وانها تمثل مؤامرة على الحضارة والثقافة العربية, ويجب التصدي لهذه الافكار ومقاومتها قبل ان تبسط نفوذها, وتتوغل في قلب المجتمعات العربية, باعتبارها مفاهيم دخيلة على الهوية والثقافة العربية, وتمس جوهر المعتقدات الدينية وانها بمثابة الشر المستطير والعدوان المبين, وتقسم العالم إلى معسكرين الاول منتج يمتلك ادوات الانتاج وتصدير المعلومات, وله السيطرة على العالم, من خلال فرض ثقافته التي ستؤثر على الخيارات الوطنية والهوية الذاتية لكل الدول في المعسكر الثاني المستهلك والمستهدف. ويبدي المتحمسون اعجابهم بهذه المفاهيم, ويرون ان العالم اصبح قرية كونية واحدة, يسودها التفكير الحر والتفاعل والتواصل, مع مفاهيم اصبحت واقعا معاشا لقضايا معاصرة, وتشكل مسلكا حضاريا, فرضته مرحلة التقدم العلمي وثورة المعلومات, وانه لا مناص امام الدول والمؤسسات والافراد, من القبول والرضوخ لمقتضيات العولمة, التي باتت حقيقة واقعة, اردنا ام لم نرد, وامرا مطلقا وحتميا فيه النفع في نهاية المطاف للبشرية, وليس بمستحب ان نمارس دور الانكماش والانغلاق, ومحاربة الاخر, خاصة اذا كان هذا الاخر هو سيد الموقف, ويملك ادارة اقتصاديات وسياسات العالم, ولن يكون هناك مخرج من الواقع المتخلف الذي تعيشه المجتمعات العربية الا باللحاق بركب العولمة والاندماج مع مفاهيمها. ويتمحور موقف التيار الثالث حول كيفية التعاطي مع هذه المصطلحات التي باتت تشغل اهتمامات البشر, لاسيما وانها تمثل تفسيرا مصاحبا لشرح بنود القوانين أو الدساتير الاكثر شمولا واتساعا, والتي تم رسمها ووضعها موضع التنفيذ على مختلف شعوب الارض. ويرى انصار هذا التيار ضرورة التعامل مع هذه الاشكالية التي تمس جوهر القضايا المعاصرة لمستقبل العالم في ظل زحف وتقدم المعسكر الغربي وغلبته في مختلف المجالات فكما يقول ابن خلدون (ان المغلوب مولع ابدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر احواله وعوائده, والسبب في ذلك ان النفس ابداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت اليه, اما النظرة بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه, او انما هو لكمال الغالب, فاذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب, وتشبهت به, وذلك هو الاقتداء, او لما تراه والله أعلم, من ان غلب الغالب لها ليس بعصبيته ولا قوة بأسه, وانما هو بما انتحلته من العوائد, والمذاهب تغالط ايضاً بذلك عن الغالب وهذا راجع للأول) . وانطلاقاً من نظرية الغالب والمغلوب يجب ان يتم التعامل مع هذه المسائل الحيوية التي تستهدف صميم حياتنا وقضايانا المصيرية وتطال نظرتنا الى المستقبل برؤية متبصرة, تعتمد على العقلانية كمبدأ وأساس, والعلم كمنهج وطريق, والبحث كوسيلة علمية لرصد الظواهر والأحداث وتحليلها وتوفير المعلومات الضرورية لوضع الخطط والاستراتيجيات, والاستفادة من الطاقات البشرية ذات الخبرة والتخصصات العلمية, التي تملك مقومات التعاطي مع هذه الفلسفات أو التصورات, وتجيد فن التصدي بايجابية وحنكة وذكاء, دون ما خوف او انغلاق من هذه المفاهيم. سبل المواجهة وانطلاقاً من كوننا أمة تمتلك ثقافة عريقة وحضارة مجيدة حين كانت تلعب دورها كما يجب, وأسهمت في العطاء الحضاري حين كانت لها السيادة, ينبغي التعامل مع هذه المستجدات التي يشهدها العالم بايجابية, فالثقافة العربية تمتلك من المقومات ما يجعلها قادرة على التواصل مع غيرها من الثقافات, دون ان تفتقد مقوماتها ومعالمها أو ان تذوب في غيرها, بل لديها القدرة اذا احسن اصحابها فن التعامل ان تؤثر بغيرها وخاصة في مجالات انسانية الحضارة. كما اننا ننتمي الى أمة صاحبة رسالة عظيمة أصلاً موجهة للعالمين وتدعو أنصارها الى التفاعل مع الناس بايجابية, والتعاطي مع الكون وتطوراته بالتفكير والتأمل, وتحث على تسخير العقل وتفعيل دوره في مسائل الاجتهاد والتجديد والابتكار, والاقتباس, والمساهمة في صنع وازدهار المجتمعات الانسانية, واظهار محاسن الحضارة العربية في تجلياتها الانسانية, التي تحتاج اليها البشرية في ظل سيطرة المادية, وقسوتها, وانعكاساتها السيئة على كثير من المجتمعات البشرية. وعلى أقل تقدير يستطيع الفكر العربي بما لديه من مقومات ان يتفاعل مع هذه الثقافة الجديدة أي ثقافة العولمة, ويحد من آثارها السلبية, وتكون له بصماته في المستقبل. ولكن هذا النجاح يعتمد على استجابة المنظومات العربية لتوفير الأرضيات اللازمة. التي تساعد الباحث والمفكر وصاحب القرار في العالم العربي, على ممارسة أدواره بايجابية وفعالية, في صنع المستقبل, واحداث النقلات النوعية, في عصر العولمات المختلفة, والكف عن مسألة الرفض السلبي, الذي لن يولد في النهاية, إلا القضاء على الهوية والثقافة الذاتية, في ظل الحركة السريعة لوسائل الاعلام والمعلومات التي تتجاوز الحدود السياسية والثقافية بين المجتمعات, بفضل ثورة التكنولوجيا الحديثة, والتكامل والاندماج بين وسائل الاعلام والاتصال والمعلومات, وتداخل المسائل الاقتصادية بالسياسة, ومن ثم بالثقافية وعدم القدرة على فك الاشتباك بين هذه المفاصل أو تجزئتها. وليس من وسيلة لمقارعة هذا التيار القادم من الشمال, والمتدفق كالشلال, الا بالتحصن بثورة العلم, والاهتمام بهذا المجال لما يشكله من عمود فقري في هذه القضية, واتاحة الفرصة والمجال امام المتخصصين والباحثين, لممارسة ادوارهم الحقيقية بحرية مطلقة وتامة, وتوفير فرص البحث وادواتها الضرورية, كي تجعل الامة, وصانعي القرارات, سياسية او اقتصادية او فكرية, قادرين على التصدي للمفاهيم الغربية, بوعي وادراك ومعرفة, وبنظرة توفيقية, تجعلنا نعيش مراحل العصر بانفتاح مع ثورته العلمية والتكنولوجية, دون ان نفقد هويتنا وشخصيتنا العربية. * كاتب من الامارات

Email