كيف يمكننا تغيير ملامح مستقبلنا العربي، بقلم: ياسر الفهد

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس هناك بين العرب المخلصين الواعين من هو راض عن أوضاعنا الحالية التي تنيخ بكلاكلها علينا وتتجه نحو مسارات معاكسة للمد الحضاري العالمي المتقدم, اللهم سوى أصحاب الامتيازات الذين يفيدون من الأحوال التعيسة السائدة ويستثمرونها لخدمة مصالحهم الخاصة. ان الأغلبية الساحقة من الجماهير العربية غير قانعة اليوم بالأمر الواقع , وتتوق إلى ركوب مراكب جديدة وانتهاج نهجا أخرى تؤدي إلى تغيير ايجابي في مختلف جوانب حياتنا السياسية والفكرية والاجتماعية والاخلاقية والاقتصادية نحو الأفضل, ولكن ما شكل التغيير المطلوب وسماته؟ ان كل جماعية ترى التغيير بالمنظار الذي يروق لها ويناسب مصالحها الذاتية ويلائم ايديولوجياتها السياسية. لذلك لابد من توافر مقياس يحدد الطريق الصحيحة للتغيير المفضي إلى التقدم, وحتى هذا فانه لا يحل المشكلة كلها, لأن هناك أيضا مقاييس عديدة, كما ان كل طرف يرى المقياس الصحيح من خلال ذاته, وبمنظاره هو, ما الحل إذن؟ اني أرى في الأفق مقياسين قد يكونان صالحين, أولهما مقياس التغيير بواسطة الاقتداء بالأمم المتقدمة التي استطاعت ان تحرز التقدم على أرض الواقع العملي, وان تحفظ لأنفسها أمكنة مرموقة تحت الشمس, فلولا تعامل هذه الدول مع مفاهيم وعادات ونظرات وممارسات سليمة, لما استطاعت ان تحقق تقدما عمليا. ولكن علينا بالطبع ان نأخذ في الحسبان حاجاتنا الخاصة وضرورة تكييف المفاهيم الخارجية مع مستلزماتنا المحلية, وأكثر من ذلك فإن من الضروري ان نأخذ الأشياء الصالحة, ونهمل الأشياء الطالحة, وبتعبير آخر, علينا ان نقتبس من الشعوب المتطورة الأفكار والأفعال الايجابية, ونترك جانبا السلبية والفاسدة منها, وفي المجال الأول هناك فضاء رحب واسع وأمور ايجابية كثيرة, نستطيع تقليدها, والسير على منوالها, وهي لا تقع تحت حصر, إلا أننا هنا سنختار بعضها, على سبيل المثال وحسب. وأولها وأهمها دون ريب الديمقراطية, وليس من الضروري بالطبع ان نطبقها بحذافيرها الأجنبية, وبطريقة تطبيقهم لها, بل يكفي الاستئناس بها, ثم العمل على تعديلها بما يناسب أوضاعنا ومثلنا, وما يهم بالدرجة الأولى والأساسية, استخلاص زبدتها وفحواها, وهو اتاحة حرية الرأي لجميع الناس ضمن الحدود البناءة وتوفير حقوق الانسان السياسية والغذائية والتعليمية والصحية. والحديث في هذا المجال يمكن ان يتسع إلى أبعد الحدود, ولكننا اكتفينا بالفكرة العامة للديمقراطية دون التفاصيل. ومن العادات السليمة التي تلتزم بها الأمم المتقدمة, اللجوء إلى الحوار في حسم الخلافات الداخلية, فلابد ان تكون هناك في كل مكان وزمان تباينات وفروقات في الآراء والمصالح بين فئات الوطن الواحد, فإذا لجأ السياسيون إلى حسم هذه الاختلافات باللجوء إلى القوة والتصفيات والابعاد, فإن الوطن سيتحول إلى ساحة من سلاسل العنف لا تنتهي. والأفضل والأسلم من ذلك الركون إلى النقاش وتبادل الرأي والمناظرة والتحكيم المنطقي بهدف الوصول إلى حلول سلمية للمشكلات الداخلية, هذا ما يفعلونه, وما يتوجب علينا نحن أيضا ان نفعله, وهناك أيضا مسألة نبذ الوساطة, ففي البلاد المتطورة يستطيع كل انسان ان يحصل على حقه بقوة القانون, ومن غير الحاجة إلى الاستعانة بالوساطة والوسطاء, وهذه ناحية هامة جدا, لأن الوساطة تفتح الطريق أمام الفساد, كما انها تحقق مزايا كبيرة لبعض الناس على حساب حقوق أناس آخرين. ومن الظواهر التي يتوجب علينا تقليدها, ان الشعوب الراقية تمنح المناصب الحساسة في الدولة لأصحاب الكفاءات العلمية ولرجال الفكر والعلم. أما نحن فإننا وان كنا كثيرا ما نختار شخصيات مناسبة لتتبوأ المسؤوليات الكبيرة, إلا ان عامل الولاء والتوسط يؤدي دوره في هذا المجال. وتوجد أيضا عند هذه الشعوب ظاهرة حب النظام, فالفرد هناك مستعد دائما, للتقيد بالنظام والمحافظة على سلم ترتيب أولويات الحقوق, في جميع جوانب الحياة, دون ان يتخطاه, كما انه يطيع القوانين ويحترمها ولا يحاول القفز من فوقها, في حين ان الكثيرين من العرب, يسمعون دائما إلى انتهاج جميع السبل للتهرب من الاستحقاقات القانونية في سبيل مكاسب غير شرعية. ومن الضروري ايضا ان نقتدي بعقلانية الشعوب المتحضرة, فنحن قوم انفعاليون نتأثر بالعواطف, ونبدل أفكارنا ومواقفنا بين يوم وآخر بفعل الفورات العاطفية والثورات الانفعالية وبدون أسباب منطقية معقولة, وكذلك علينا ان نتبنى اعتدالهم, بدلاً من تعصبنا وتمسكنا بأفكار وآراء خاطئة لا نستطيع منها فكاكا, وليس بوسع أحد ان يقنعنا بخطئها وخطلها. ومن جهة أخرى فان علينا ان نطلع على المناهج التعليمية والأنظمة الاقتصادية والنهوج العلمية والتكنولوجية المطبقة في الدول المتقدمة, حتى نقوم بتعديل مثيلاتها عندنا لتصبح قريبة منها بقدر المستطاع. وما ذكرناه ليس سوى أمثلة بسيطة عما يتوجب علينا في مجال الاقتداء بالأمم المتطورة الأخرى. ويوجد من الجانب الآخر بالطبع أمور سلبية في حياة هذه الأمم, يحسن بنا بالطبع ان نتجنبها, مثل النظرة البراجماتية المادية إلى الحياة, والميل إلى الجريمة, والتكبر والتعالي على الفقراء, وغير ذلك, ونترك الآن المقياس الأول, وننتقل الى المقياس الثاني الذي يتجلى في ان التغيير يجب ان يوفر مصالح الوطن بأجمعه والأمة بأكملها, وجميع فئات الشعب دون استثناء, لا أن يكون موجها نحو تحقيق أهداف فئات معينة من الناس ورغباتهم. وهكذا إذا أراد العرب ان ينقذوا ما يمكن انقاذه من أوضاعهم المتردية وسمعتهم المتهاوية, وان يغيروا من نظرة العالم إليهم, فإن من الجدير بهم ان يدرسوا أوضاع الأمم المتحضرة وأفكارها ومواقفها وطروحاتها في جميع دروب الحياة بتأن حتى يقفوا على مواقع الصواب منها, فيقتفوا آثارها ويسيروا على منوالها بالطريقة التي تلائم بيئاتهم السياسية والاجتماعية والثقافية الخاصة. وفي الوقت نفسه, عليهم ان ينبذوا النظرات والممارسات الاجنبية التي يعتقدون انها خاطئة ولا تتناغم مع تراثهم وقيمهم, وهذه العملية لا يمكن ان تتم بنجاح الا اذا توافر شرط الحرية. فعندما يحدث هذا يُفتح الطريق امام النقد وكشف الاخطاء... وبعدها يتم تحديد المجالات التي تحتاج الى تغيير, فيتم تغييرها بالاقتداء بالامم المتطورة, ونتيجة لذلك يحدث التقدم المطلوب. خلاصة القول, ان تبديل صورة مستقبلنا العربي تعتمد على توافر سلسلة من العمليات السياسية والاجتماعية, التي تبدأ بالحرية, ثم بالنقد, وبعدها بالتغيير الذي يعتمد على مقاييس سليمة, كالتي اتينا على ذكر بعضها, وصولا الى التقدم المنشود. * كاتب سوري

Email