مستقبل العالم وتعليم المستقبل:بقلم-د. بسيوني حمادة

ت + ت - الحجم الطبيعي

المدرسون والتدريس في عالم متغيرهو عنوان التقرير الدولي المعني بالتعليم والصادر عن اليونسكو لعم 1998. يتكون التقرير من 178 صفحة ترصد هموم 57 مليون مدرس في العالم يعملون في المراحل المختلفة للتعليم قبل الجامعي ويختلف عما سبقه من تقارير في تركيزه على محور العملية التعليمية وأعني به (المدرس) ولعل العناية الفائقة بالمدرس في هذا التقرير جاءت من حقيقة التناقض البين بين توقعات المجتمع ومطالباته للارتقاء بالتعليم في الوقت نفسه الذي نشهد فيه تراجعا لمكانة وحقوق ودخل المدرس. فالمنطق يرى ان اية محاولة للارتقاء بالتعليم وتطويره تتطلب اشباع احتياجات المدرس المعنوية والمادية الا ان الواقع يشهد بعكس ذلك. فالدعوة لتحسين المخرجات التعليمية تتصاعد ومكانة المدرس في السلم الاجتماعي تتوارى. واذا كان التقرير الدولي للتعليم يعكس احوال العالم في هذا المجال فربما كان الموقف في العالم العربي تحديدا اكثر بروزا وحدة من غيره. ولعله في غياب التوجه المجتمعي لاعادة التوازن لهذه المعادلة (المختلة) تصاعد الدعوة لجودة المخرجات التعليمية ونسيان عصب هذه العملية وهو المدرس قد دفع به الى سد هذه الثغرات بأسلوبه الخاص فبات يبحث لنفسه وبنفسه عن مخرج يحقق له على الاقل الاشباع المادي فكان التعليم في المنزل موازيا للتعليم في المدرسة. الامر الذي انعكس على شخصية المعلم والمتعلم وعلى تطور المجتمع نفسه. النتيجة التي ينتهي اليها التقرير الدولي هي ان المدرسين في العالم الثالث جميعهم لا تتوفر لهم بيئة العمل المناسبة ففي كثير من البلاد الافريقية يعاني المدرس من نقص المياه النظيفة والكهرباء والكتب الدراسية ووسائل التعليم التقليدية ولنا ان نتصور حجم الفجوة التعليمية بين الفقراء والاغنياء من دول العالم في ظل تكنولوجيا الاتصال, ففي الوقت الذي تعمل فيه مدارس العالم المتقدم وفق نظم وشبكات المعلومات المتطورة تعيش مدارس العالم الفقير بمعزل عن الكهرباء والماء النظيف والكتب المدرسية ولا يستطيع المدرس من دخله الشهري ان يشبع الحد الادنى من احتياجاته العادية اليومية فضلا عن تدني موقعه في السلم الاجتماعي. الفجوة التعليمية خطر يتهدد العالم ما لم يشر اليه التقرير الدولي هو ان هذه الفجوة التعليمية بين دول العالم المتقدم والنامي تهدد استقرار مستقبل العالم. فالفجوة التعليمية بالضرورة مسؤولة عن الفجوة العلمية كما انها نتيجة لها. وكلاهما سبب ونتيجة للفجوة الاقتصادية. المشكلة ان هذه الفجوات كلها تتسع وتتشعب وتهدد كيان المجتمع الدولي في حاضره ومستقبله. والدعوة التي يجب ان تتبناها دول العالم النامي هي مطالبة العالم المتقدم بسد الفجوة التعليمية اذ لا تقل اهمية وخطورة عن الفجوة الاقتصادية فالدعم الاقتصادي يحل مشاكل مادية عاجلة والدعم التعليمي ربما يساهم في تطوير انسان العالم النامي لحل مشكلاته المادية اعتمادا على نفسه. فهل يمكن تخفيض ميزانيات الدفاع وسباق التسلح والصواريخ عابرة القارات وأسلحة الدمار الشامل ولو بنسبة محدودة من اجل المساهمة في تضييق الفجوة التعليمية بين دول الشمال والجنوب. ان ما خلص اليه بروفيسور جون سميث محرر تقرير التعليم هو وجود مؤشرات محدودة جدا على استفادة نظم التعليم في العالم اجمع من خفض ميزانيات التسلح بعد انتهاء الحرب الباردة. ويبدو انهم تفاءلوا اكثر من المتوقع في مساعدة الاقوياء للضعفاء في مجال التعليم. أما امين عام اليونسكو فيرى ان مدرس التعليم العام هو صاحب الدور الرئىسي في خلق اجيال قادرة على تحقيق امال البشرية في القرن المقبل وان بناء مجتمع دولي آمن ومسؤول اجتماعيا ومتسامح متوقف على قدر ما نمنحه لمدرس اليوم من رعاية واهتمام. ولعل احدا لا يختلف مع هذا التوجه الانساني الذي يحمّل المعلم صيانة مستقبل العالم في القرن الحادي والعشرين الا انه وللأسف الشديد يبدو ان اليونسكو التي تلوم مجتمعات العالم مطالبتها بجودة التعليم وحرمانها المدرس من ضرورات الحياة التعليمية تقع في المصيدة نفسها وهي انها تضع على كاهله كل هذه الآمال الطموحة في الوقت الذي تتجاهل فيه اي برنامج عملي للارتقاء برأس الحربة في العملية التعليمية فهل تتبنى اليونسكو الدعوة لسد الفجوة التعليمية بين دول العالم المتقدم والنامي والأهم هو الدعوة لتحسين الاوضاع المهنية والتربوية لمدرسي العالم النامي بحيث لا يشعرون بالتجاهل من قبل مجتمعاتهم ومؤسساتهم التعليمية في الوقت نفسه الذي نتحامل عليهم عند وقوع أية رذيلة في المجتمع. لقد كانت قناعة اليونسكو بأهمية المدرس وأثره على مستقبل العالم وأمنه ورفاهته هي التي دفعت الى تخصيص تقريرها الدولي المعني بالتعليم عن اوضاع المدرسين والمتأمل لهذا التقرير يستشعر الخطر على مستقبل المجتمع الدولي لأسباب تعود في جوهرها الى الخلل الحادث في بيئة التعليم وعلى رأسها أوجه المعاناة التي يحياها مدرسو اليوم وبخاصة في العالم النامي ولا يقل عن ذلك اهمية ما يرصده التقرير من اوجه خلل بين الرفاهية التي ينعم فيها مدرسو العالم المتقدم والحرمان الذي يعانيه مدرسو العالم النامي.فنسبة التلاميذ دون الرابعة عشرة من عمرهم ممن لديهم جهاز كمبيوتر في منزلهم تصل الى 85% في كل من اسكتلنده وانجلترا في حين لا يستطيع اغلب مدرسي العالم النامي من مجرد استخدام الكمبيوتر في مدارسهم. اصلاح المعلم أولا ان نظام التعليم ككل ليس الا جزءا من بناء مجتمعاتنا والمقارنة قد تكون غير سوية اذا عزلناه عن سياقه المجتمعي الا ان الكثير من الدراسات المعنية بالاصلاح الاجتماعي الشامل تؤكد على ان البداية الصحيحة في اصلاح نظام التعليم فهو سبب اكثر من كونه نتيجة لكل ما هو حادث في المجتمع واذا كان الامر كذلك فإن ما اود ان اخلص اليه هو ان نقطة البدء في اصلاح النظام التعليمي ذاته هي اصلاح المعلم ورعايته. ففاقد الشيء لا يعطيه واذا عانى المدرس من فقر في بيئته التعليمية فكيف نتوقع من النظام التعليمي ان يقهر الفقر في المجتمع؟ واذا كان لنا ان نبني مجتمعا دوليا آمنا ومتسامحا فلنبدأ بتضييق الفجوة التعليمية بين اغنياء العالم وفقرائه. قسم الاتصال الجماهيري جامعة الامارات العربية المتحدة

Email