بوتفليقة ... مرة ثانية !!بقلم- شفيق الحوت

ت + ت - الحجم الطبيعي

ويذكر عرب المشرق للرئيس الجزائري الجديد عبدالعزيز بوتفليقة مواقفه العروبية المتقدمة اثناء حربي 1967 و 1973, ودوره كممثل شخصي دائم للرئيس الراحل بومدين في ساعات المحنة واللحظات الفاصلة التي كانت تحتاج الى المواقف الشجاعة والحاسمة, ولا ينسى عرب المشرق , وبخاصة الفلسطينيون من بينهم ما كان لبو تفليقا من دور بارز في تمكين منظمة التحرير الفلسطينية من الوصول الى هيئة الامم المتحدة التي كان يرأس جمعيتها العامة في العام 1974, وقد صادق المجلس بالاكثرية الساحقة في احدى تلك الجلسات على قبول المنظمة عضوا مراقبا في الجمعية العامة. شيء واحد كان يؤخذ على بوتفليقة, في المشرق على الاقل, هو مساهمته في الانقلاب على بن بلة والاصطفاف مع بومدين, وذلك لما كان للرئيس بن بلة, ولايزال, من مكانة في قلوب الجماهير المشرقية اعتبرها الانقلابيون الجزائريون امتدادا لمشاعر رومانسية لايجوز لها الهيمنة على مصير الثورة ومسارها. ولقد توطدت روابط الصداقة بيني وبين بوتفليقة منذ الاسابيع الأولى لقيام دولة الثورة, حينما قصدت العاصمة الجزائرية بمهمة صحفية تستهدف التعرف على هذا القطر العربي الشقيق الذي استرد حريته واستقلاله بعد نحو من مائة وثلاثين عاما من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني. كانت العاصمة الجزائرية حينئذ شبه مدمرة بعدما حرص الفرنسيون على ألا يتركوا للثوار أي أثر من آثار الحكم ووثائقه وأوراقه الرسمية, حتى الناس لم يكونوا يعرفون مواقع الوزارات أو الدوائر الحكومية, ولم يكن من عنوان معروف غير مكان اقامة رئيس الجمهورية أحمد بن بلة في فيللا جولي المتواضعة. استقبلني بوتفليقة في مكتبه في مقر الخارجية وآثار الدماء في كل جانب وأينما تطلعت. وتساءلت كيف يمكن لهذه الثورة ان تقيم دولتها وان تبعثها من بين هذا الركام, خصوصا مع افتقارها الشديد الى الكوادر البشرية المطلوبة للاقلاع بالمسؤوليات الجديدة واعادة الاعمار, وهي مسؤوليات جسام تبدأ بتدميل الجراح وتأمين حياة مئات الآلاف من المجاهدين واضعاف هذا العدد من أبناء الشهداء والقرى المحروقة والبنى التحتية المدمرة. ومن يعرف الجزائر يعرف ان الجزائريين أصحاب مراس صعب, وان قيادتهم ليست بالمهمة السهلة. واعترف بعمق الانطلاق الذي تركه في نفسي هذا الوزير الشاب فعلا, وشعرت اني أمام نموذج من الرجال الواعدين القادرين على الوفاء بالعهد. وكغيري من المشارقة الرومانسيين غصصت عندما سمعت بخبر الانقلاب علي بن بلة, وتمنيت لو نجحت مساعي الرئيس عبدالناصر بالافراج عنه عندما أرسل عبدالحكيم عامر الى الجزائر بهذه المهمة. واستمر التواصل بيني وبين بوتفليقة بعد انتقالي من عالم الصحافة الى عالم السياسية والتفرغ للعمل في منظمة التحرير الفلسطينية, وراقبته عن كثب في الكثير من المؤتمرات العربية والدولية, وفي قمة الخرطوم, وفي الأمم المتحدة, وفي غيرها من المحافل, ولكن من دون ان تتاح لي الفرصة في محاورته حول الاسباب التي أدت الى انقلاب بومدين واعتقال بن بلة. وذات صيف في أواخر السبعينات, توجهت من بيروت الى مدريد قاصدا هافانا للمشاركة مع وفد منظمة التحرير في أعمال وزراء خارجية دول عدم الانحياز تمهيدا لعقد مؤتمر للقمة في العاصمة الكوبية. وبينما كنت في الطائرة الايبيرية بانتظار اقلاعها قبل منتصف الليل, وكانت قد تأخرت عن موعدها بعض الوقت, فوجئت بدخول بوتفليقة اليها. وأدركت عندئذ سر تأخرها. ولما كان الطريق طويلا الى هافانا, والليل هادىء فوق الاطلسي, كانت الفرصة المواتية لحوار هادىء ومفصل حول الموضوع الذي طالما شغل أذهان العديدين ممن كانوا يحبون بن بلة واحسوا بما لحق به من ظلم, وتابعوا الحملات من أجل اطلاق سراحه. ومن يعرف بوتفليقة يعرف مدى دماثته في طرح مداخلاته مهما كانت شائكة أو حساسة. وأذكر الآن, وقد مضى على ذلك الحوار اكثر من عشرين سنة اننا لم ننته منه الا عندما سمعنا عجلات الطائرة وهي تحط على ارض المطار. وكان بوتفليقة هو المتحدث معظم الوقت, لذلك لم يبق لي ان اقول تعقيبا على كل ما ساقه من اسباب لتبرير اعتقال بن بلة غير القول: ــ اذا صح كل هذا الذي قلته, وهذه المبررات التي قدمتها, فلماذا لم تقدموا الرجل للمحاكمة العلنية وصارحتم الناس والرأي العام العربي بما لديكم بدلا من ان تتركوهم للاستنتاج والتحليل والتشكيك! وكان لابد من وقف الحوار على ان يكون للحديث صلة, وهذا ما لم يحصل فيما بعد لأن اجواء تلك الحقبة كانت مسكونة بالمفهوم اليساري للديمقراطية, اي ديمقراطية الحزب الواحد التي كانت سمة العديد من دول العالم الثالث من بينها بالطبع الدول العربية. ومرت الايام, بل السنوات الطويلة, وكانت الدنيا قد تغيرت وأجيال ما بعد الثورة قد نمت, وتم الافراج عن بن بلة, والتوالتقيتهقتيه في بيروت, وطرحت عليه نفس السؤال: لماذا كان الانقلاب عليه؟ وقد سبق لي وأشرت الى جانب من هذا الحديث في ا حدى مقالاتي هنا. ومما لفتني في رد بن بلة امران: الامر الاول صفاء الرجل من اي احساس ذاتي تجاه بومدين ومن كانوا معه. فهو لا يعتبر ان ما حدث له كان من تدبير هؤلاء الرجال أو بسبب دوافع شخصية بقدر ما كان تدبيرا استراتيجيا غربيا, امريكيا اكبر منهم, ينطلق من الرفض التاريخي لقوى الهيمنة والاستعمار لتحرر ونهضة شعوب العالم الثالث. اما الامر الثاني فهو قناعتي بأن هذا الرد لا علاقة به بقناعات بن بلة عندما وقع الانقلاب او في السنوات الاولى التي تلت ذلك, وانما هو من نتاج فترة التأمل الطويلة التي قضاها في السجن وهو يراقب تطورات الاحداث والصراعات الخفية بين الامبريالية الامريكية والغرب من جهة, وبين دول العالم الثالث او جنوب الكرة الارضية من جهة ثانية. ولم يتردد بن بلة عن تحديد بوم الانقلاب على عهده كنقطة بدء في عملية استعمارية شاملة لم تغفل عاصمة من عواصم عدم الانحياز من الجزائر الى القاهرة الى كوناكري الى جاكرتا الخ... ما اصعب الحكم على مسارات التاريخ, والحقيقة الموثوقة الوحيدة هي ان مساراته دائمة التغيير والتطور ولا تتوقف لا من شخص ولا من حديث. وها نحن اليوم نشهد عودة بوتفليقة الى المسرح السياسي بعد غياب يكاد يعادل غياب بن بلة... وامام الجميع العديد والخطير من المشاكل منها ما هو موروث وما هو مستجد, وبحاجة الى من يحلها وينقذ الجزائر ويعيدها الى دورها ومكانتها. وفي قمة الموروث منها هو غياب الديمقراطية الذي تغير موقف بن بلة منها: كما تغير بوتفليقة وفق ما سمعنا عنه مؤخرا في حديث له على احدى الفضائيات. ونحن في المشرق العربي, كما كنا مع ثورة الجزائر قبل استقلالها, نقف اليوم كذلك, وقلوبنا معها, على امل الخروج من مأزقها مرة والى الابد, ونأمل ان يكون الرئيس الجديد على قدر المسؤولية المطلوبة, وان يتمكن من وضع الحلول الحاسمة للازمة الدموية لا ان يديرها كما فعل الآخرون الذين سبقوه, ولعل الانتقال بالحكم الجزائري من الشرعية الثورية الى الشرعية الشعبية هو الدرب الموصل لتحقيق اهداف شعب الجزائر, ومعه كل جماهير الامة العربية.

Email