حظي موضوع التجديد والاصلاح والحداثة والنهضة في القرنين الماضيين بالدرس والمناقشة في عدد لا يستهان به من الكتابات العربية. وتضمنت هذه الكتابات تيارين رئيسيين : تيار التصالح والتكيف مع جوانب الحضارة الغربية, بما في ذلك مفاهيم الحداثة الغربية, حسبما فهمها هؤلاء الكاتبون وتصوروها, وقبولها المطلق أو المطلق تقريبا, وتيار الاعتدال والتوفيق والوسط الذي يجمع بين الحضارتين العربية الإسلامية من ناحية والغربية من ناحية أخرى. وثمة موقف جماعة ثالثة هي الأغلبية الشعبية المقهورة المقموعة المغلوبة على أمرها. لقد اتسم موقف المجتمع الأهلي, موقف الشعب, بالنفور مما عرض عليه بوصفه جوانب الحضارة الغربية أو بالحذر منه أو بمقاومته. وبعكس التيارين الأول والثاني اللذين حظيا بقسط غير قليل من الدراسة لم يحظ موقف الأغلبية الشعبية بقدر يستحق الذكر منها. وفي الحقيقة لمعرفة الواقع الموضوعي التاريخي العربي لا تكفي دراسة التيارين الأول والثاني ولكن من اللازم أيضا دراسة المجتمع الأهلي لان لهذا المجتمع دوره المهم في الفعل التاريخي. كتبت كتابات النهضة العربية تلك ــ وبذلت محاولات النهضة العربية أيضا ــ في ظل علاقات السيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية الغربية. وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية في أن أطروحات النهضة العربية قدمت في شطرها الأعظم من موقع التكيف مع تلك السيطرة وأيضا مع الدولة العربية المؤكدة لموقفها التي كانت تتكيف طوعا وكرها في آن واحد مع جوانب الحضارة الغربية, بما في ذلك مفاهيم الحداثة الغربية, لقد جاءت هذه الكتابات عن النهضة وجاءت محاولاتها دون المراعاة الواجبة للوجود السياسي الاجتماعي التاريخي العربي وعلى حساب ذلك الوجود, مما أسهم إسهاما كبيرا في تفكيكه وتفسيخه وانحلاله وإلى تغريب شرائحه بعضها عن بعض وإلى تدمير عوامل التوحيد الداخلية, وأيضا في اضمحلال وفقدان السمات المميزة التي تساعد في نجاة المجتمعات المقهورة من غائلة الانحلال على المسرح العالمي الأوسع الذي أسهمت أوروبا القاهرة القوية ــ والغرب عامة ــ في ايجاده وفي وضع أسسه وتعهدته بالرعاية ووجهته خدمة لأغراضها السياسية والاقتصادية والاستعمارية والاستراتيجية. ويجب القول انه ينبغي, عند النظر فيما تسمى الكتابات (العلمية) الغربية, عدم نسيان سياقها التاريخي الاجتماعي المعرفي الحضاري الغربي والسياق التاريخي الاجتماعي المعرفي الحضاري العربي. فقبول هذه الكتابات ــ أو الدراسات, حسبما يحلو للبعض أن يسميها ــ دون مراعاة لهذين السياقين شكل ولا يزال يشكل وسيلة خطيرة للاختراق الثقافي والقيمي الغربي الذي أوجد فجوات داخل بنية الدولة والمجتمع العربيين وشكل ولا يزال يشكل إحدى خشبات القفز التي منها قفزت السياسات الغربية ومشاريعها الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة العربية. لقد تعلم الكثيريون من المثقفين والكتاب والأدباء العرب في الغرب وتأثروا به أسلوبا وفكرا ومنهجا, وانبهروا أو افتتنوا بما تسمى وجوه الحداثة الغربية. وللتأثير الغربي في كتاب عرب دور هام في تحديد كيفية ومدى معالجة هؤلاء الكتاب لمشاكل الواقع العربي الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. واندفع قسم لا يستهان به من المفكرين العرب إلى قبول جوانب كثيرة من تجربة الحداثة هذه. وهذا التأثر بالغرب هو أحد الأسباب الهامة في ان الشواغل والمواضيع التي تتناولها كتابات عربية في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية تتجلى فيها شواغل ومسائل المجتمعات الغربية في مراحلها المتطورة أكثر مما تتجلى فيها شواغل وقضايا مجتمعاتنا العربية التي لم تمر بالمراحل التي مرت بها المجتمعات الغربية والتي لا تزال المرحلة (الأبوية) قائمة فيها. وبعبارة أخرى, يستحق الواقع العربي قدرا أكبر من تناول الكتاب العرب مما يحظى به الآن. ومن الحقائق المسلم بها ان تجربة الحداثة الغربية تعبير عن النهضة الأوروبية. غير ان قسما, على الأقل, من المثقفين العرب لم يدر ان النهضة الأوروبية لها وكان يمكن أن يكون لها أيضا تعبيرات مختلفة, وأن تجربة الحداثة الغربية هذه قد لا تكون التعبير الصادق الحقيقي, وان قسما من المفكرين الغربيين أنفسهم انتقدوا وجوها من هذه الثقافة والحداثة ورفضوها وعرفوا انها ليست سوى تعبير من تعبيرات النهضة الأوروبية وانها قد لا تكون أفضل تعبير من هذه التعبيرات. وإذ بينا ذلك يمكن حقا القول ان هذا الاندفاع العربي صوب القبول والتبني والاحتضان لوجوه الحداثة الغربية مظهر من مظاهر التبعية الفكرية للغرب ودلالة على الافتقار إلى الحس بالأصالة العربية أو إلى الفكر العربي الواعي المتعمق. ولمفهوم الحداثة الغربي جوانب ايديولوجية عربية. لقد قدمت ايديولوجية الحداثة نفسها عن طريق النظم المسماة ديمقراطية وما يسمى بالعلم والأدوات التقنية. وفي الحقيقة انه لا يوجد نظام ديمقراطي كامل. وللعلوم, وعلى وجه الخصوص العلوم الاجتماعية والإنسانية, جوانب وأسس ايديولوجية. ان الكتابات الاجتماعية والإنسانية العلمية الغربية والنظم الديمقراطية المزعومة الغربية, والأهم من ذلك الحداثة الغربية نفسها, مستمدة من الخلفية الاجتماعية التاريخية الغربية. ويتخذ قسم كبير من الكتابات الغربية التي يطلق عليها اسم الكتابات العلمية شكل التنظير الايديولوجي. وبالتالي لا يكون مفهوم الحداثة الغربي المفهوم أو الطراز الوحيد للعالم. ومن الجهل القول ان نموذج الحضارة الغربي هو النموذج الأوحد, لان الخلفية الاجتماعية التاريخية الغربية تختلف عن خلفيات اجتماعية تاريخية غير غربية. ومن قبيل ضيق الأفق أو الجهل أيضا القول ان نموذج الحضارة الغربي هو النموذج الأمثل, إذا كنا لا نعرف طبيعة نماذج الحضارة غير الغربية التي تنجم عن الخلفيات الاجتماعية التاريخية غير الغربية. وبالنظر إلى ان مفهوم الحداثة الغربي مرتبط بفترة معينة في مجتمعات غربية فإن هذا الارتباط يفقده الشمول والتعميم. وفي الحقيقة لم يكن الكثيرون ــ على أقل تقدير ــ من المفكرين العرب الذين تناولوا موضوع النهضة العربية ملمين بوجوه الحداثة الغربية وأيضا بوجوه الحضارة العربية الإسلامية. ولم تكن لديهم رؤية تاريخية لمفهوم الحداثة الغربية, وبالتالي لم تكن لديهم رؤية لنسبيته وخصوصيته. لقد كان ذلك الشطر الكبير من المفكرين متأثرا بمفهوم الحداثة الغربي. ولأسباب مختلفة, منها ذلك التأثر وتأخر المجتمعات العربية في المجالات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية وشعور التدني أو الاضمحلال الذي ينتاب الشخص الضعيف الذي يتعرض للسيطرة والتحكم ازاء الأقوياء الذين يقومون بالتحكم, سيطر مفهوم الحداثة الغربي على أولئك المفكرين وفتنهم. ونتيجة لهذه السيطرة والفتنة اختلطت عليهم معايير القبول والرفض والانتقاء والهوية والانتماء والتوجه الشخصي والجماعي والقومي. وصار أولئك المفكرون يسعون لاهثين لتحقيق الهدف الذي يستحيل تحقيقه, وهو تحقيق المثال الغربي في الحداثة. ومرد استحالة تحقيق هذا المثال هو ما سبق أن أوردناه, وهو أن الخلفية الاجتماعية التاريخية الغربية تختلف عن الخلفية الاجتماعية التاريخية العربية. ومما له صلة عضوية باستحالة تحقيق مثال الحداثة الغربي مسألة نقل المفاهيم من ثقافة إلى ثقافة أخرى. من شأن هذا النقل أن يؤدي إلى انقطاع واسع بين المفهوم وسياقه الواقعي. وذلك لان المفهوم في السياق الواقعي ليست له دلالة مطلقة تتجاوز الثقافة التي نشأ فيها. نقل مفهوم من ثقافة إلى ثقافة أخرى ينطوي على تغيير في دلالته المقصودة لان هذه العملية ــ عملية النقل ــ تعني ان الذين نقل المفهوم إلى لغتهم لن يكون في مقدورهم أن يفهموا دلالة ذلك المفهوم في الثقافة التي نشأ فيها. فالدلالة المقصودة لذلك المفهوم تكون مقيدة بثقافة المجتمع الناقل التي تختلف عن الثقافة التي نقل المفهوم منها والتي يجهلها المتكلمون بلغة الثقافة الناقلة. وهكذا بنقل مفهوم ذي دلالة مقصودة إلى ثقافة أخرى يفقد المفهوم قسما من دلالته المقصودة ويتخذ ذلك المفهوم دلالة خليطا من قسم من دلالة المحيط الاجتماعي المنقول منه ومن دلالة المحيط الاجتماعي المنقول إليه أو من مردودات وانعكاسات مقتضيات الثقافة المقتبسة. ولتجريد أو تفصيل مفهوم من المفاهيم صلة بتغير الدلالة المقصودة للمفهوم. قد يقبل الناس مفهوما مجردا. وكلما قل تجريد المفهوم وازدادت تفاصيله وجزئياته ازداد عدد الدلالات التي يقصدها الناس بذلك المفهوم. واعطاء الناس لتفاصيل وجزئيات المفهوم المجرد دلالات مقصودة مختلفة يعني ان الناس انتقائيون في فهمهم للمفهوم المجرد في تفاصيله وجزئياته. وخلفيات الناس المختلفة ومشاربهم وأهواؤهم وتنشئتهم وثقافتهم وتاريخهم وتراثهم ــ هذه كلها وغيرها ــ هي التي تحدد لهم انتقاء أو اختيار الدلالة المقصودة لجزيئيات المفهوم المجرد. يسهم هذا العرض في تبيان سبب استحالة تحقيق المثال الغربي في الحداثة. والسبب ــ في كلمات قليلة ــ هو ان من المستحيل النقل التام للدلالات المقصودة لمفاهيم المثال الغربي للحداثة إلى أي محيط آخر. وحتى يكون لنا مثال للحداثة ينبغي أن تكون الدلالات المقصودة لمفاهيم ذلك المثال مستمدة من محيطنا العربي الاجتماعي الثقافي التاريخي.