عالم بلا عقل وبلا ضمير: بقلم - شفيق الحوت

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل من الممكن لأي إنسان تابع ويتابع تطور الحروب الدائرة في يوغسلافيا السابقة, ألا يصرخ في نهاية الأمر قائلا: أي عالم هذا الذي نحيا فيه. انه حقا لعالم مجنون بلا عقل وبلا ضمير . قبل انهيار الأنظمة التوتاليتارية في المعسكر الاشتراكي نجحت الماكينة الاعلامية الغربية في تصوير هذا المعسكر على انه معسكر اعتقال جماعي يضم وراء أسلاكه الشائكة مئات الملايين من البشر التعساء المغلوبين على أمرهم, المحرومين من أدنى حقوقهم الإنسانية, المتلهفين إلى اللحظة - المعجزة التي سيتم فيها تحريرهم من هذا المعسكر لدخول رحاب الجنة الديمقراطية الغربية. وعلى الرغم من خروج يوغسلافيا المبكر من هذا المعسكر وتمرد زعيمها التاريخي تيتو على ستالين وقيادته, ثم اختياره لسياسة عدم الانحياز والحياد الايجابي بين الغرب والشرق واقامة الكتلة الدولية التي اشتهرت بهذا النهج وأقامت له آلياته الفاعلة... على الرغم من هذا كله فإن الغرب لم يرفع الحرم عن بلجراد بل ضاعف من ضغوطه عليها بسبب انتصارها مع كل من نيودلهي والقاهرة لقضايا الشعوب وحركات التحرير الوطنية في كل مكان. وقضت يوغسلافيا دهرا طويلا ما بين مطرقة موسكو وسندان واشنطن, دون أن تتأثر تجربتها الاتحادية أو يتمزق نسيجها الديموغرافي المتعدد الألوان ديانات وقوميات. بل ان هذه التجربة الاتحادية تمكنت من اثبات جدارتها في القدرة على الحياة والبقاء, وعاش (البلقان) المشهور بهشاشته أطول فترة في حياته من الاستقرار والهدوء تمكن خلالها من تنمية شعوبه وتطوير امكانياتها والدخول في العصر الغربي بنسبة بارزة. هذا دون أن نغفل بأن تيتو كان كرواتيا وليس من نسل الصرب المتهمين اليوم بأنهم غلاة التعصب والتمييز العرقي, مما يخدش من مصداقية هذه التهمة أو يخفف من غلو الصورة الغربية لها. لقد سنحت لي الفرصة لزيارة يوغسلافيا الاتحادية أكثر من مرة, والتعرف إلى حد ما على أنماط الحياة التي كانت تسود اقاليمها المختلفة, وسمعت وشاهدت العديد مما كان يأخذه البعض هنا وهناك على النظام السائد, وكانت كلها من النوع الذي قد تسمعه أو تشاهده في أي بلد في هذا العالم بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها. وأين هي أصلا هذه الدولة أو ذاك النظام الذي يرضي كل العباد المقيمين داخل اطاره؟ كما وافاني الحظ بالتعرف على الرئيس تيتو, وكنت في عداد أول وفد فلسطيني يدعى لحضور مؤتمر لدول عدم الانحياز, بصفة مراقب, وبناء على مبادرة يوغسلافية, وذلك سنة 1969. وأذكر ان الزعيم اليوغسلافي ارسل إلينا, وكنا ما زلنا في بداية ثورتنا, أحد كبار أصدقائه من أعضاء المكتب السياسي واسمه اسحق اذدرافيتش الذي أخبرنا برغبة تيتو بلقائنا والتعرف علينا. كنا ثلاثة, المرحومين خالد اليشرطي وعبدالمحسن أبو ميزر وكاتب هذه السطور. وبعد كلمات مجاملة رقيقة ومقتضبة سألنا القائد الذي حارب هتلر حتى آخر أيامه عن سر عدم توجهنا (حتى الآن) إلى الأمم المتحدة واحتلال موقعنا الشرعي في المنظمة الدولية. ولما قيل له: - اننا نخشى ان فعلنا ذلك أن يعتبر الأمر على انه اعتراف باسرائيل. قال: - ان اعتراف الأمم المتحدة بكم أهم من هذا المحظور. صحيح ان المنظمة الدولية اعترفت بحقين, واحد لكم, وآخر لاسرائيل, ولكن غيابكم سيقصر اعترافها مع الزمن على اسرائيل وحدها. ولما رد أحدنا بسذاجة ما كنا عليه في بداية ثورتنا: - هذا يعني القبول بتقسيم فلسطين. رد عليه زعيم يوغسلافيا دون أن يبدو عليه ضيق صاحب التجربة, بقوله: - إذا استطعتم أخذ جزء من فلسطين من خلال الأمم المتحدة, فإني أعدكم بأن يوغسلافيا لن تقف ضدكم إذا مضيتم بتحرير ما تبقى من بلادكم. ثم ضحك ومد يده مصافحا, وانصرف من الحلقة التي جمعتنا في حديقة بيته لينضم إلى حلقة أخرى. وقد عملنا بنصيحة تيتو, بعد خمس سنوات من لقائه, في أعقاب حرب أكتوبر 1973. أردت من تسجيل هذه الحادثة لفت النظر إلى براغماتية الثوري الذي يعرف كيف يتعامل مع الأحاديث دون اغفال الشروط الموضوعية التي تحيط بها, ولعل هذا أحد جوانب نجاحه في توحيد يوغسلافيا ونجاحه في ذلك كل هذه العقود. من المؤسف انه تمر في حياة الشعوب ظواهر لا تتكرر, مثل عبدالناصر عند العرب, وتيتو عند اليوغسلاف, فإذا ما مضت الظاهرة ينفرط العقد مهما كانت الاحتياطات المتخذة من أجل استمرار نظامه. تلك مشكلة إنسانية, بل قدر كان لابد ليوغسلافيا من مواجهته, ولكنها لم تفلح. ولعل من غرائب الأمور ومن أبلغ تناقضاتها, ان انهيار المعسكر الاشتراكي الذي أدى إلى الاعلان عن نظام دولي جديد بات يعرف باسم (العولمة) أي العالم (بلا حدود) , بلا قوميات وعرقيات ضيقة, نلاحظ هذه الردة القومية الشوفينية التي تعم هذا العالم أكثر من أي وقت مضى. وبدلا من أن تمحى الحدود وتتهدم الجدران الفاصلة بين الدول والأقوام, نشاهد هذه الأيام اقامة المزيد من الحدود والجدران وبخاصة فيما كان يعرف بالمنظومة الاشتراكية. فمقابل عودة الوحدة بين الألمانيتين نرى انفكاك العديد من الوحدات التي كانت قائمة, مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا, وبروز دويلات جديدة كما في الاتحاد السوفييتي سابقا وغيرها من الأماكن. كيف نوفق بين هذه (العولمة) وهذه (الشرذمة) ؟ وكيف نفهم التناقض بين سياسات تسبح ضد تيار اقتصاد النظام الجديد؟ الاجابة التقليدية المعلبة التي لا تخلو من بعض الحقيقة لابد لها من توجيه التهمة إلى الدول الغنية التي كنا نسميها الدول الاستعمارية, والولايات المتحدة في مقدمتها, باعتبار ان من شأن هذا التفتيت وتحويل الدول إلى دويلات هامشية ان يسهل المهمة المركزية لواشنطن في تحويل العالم إلى أطراف تكون هي وحدها المركز فيه. وهو الأمر الذي تخشى منه حتى دول أوروبا الغربية دون الافصاح العلني عنه. ولكن هذا لا ينفي وجود عوامل أخرى ساهمت وتساهم في عمليات التفتيت هذه تتحمل فيها الدول والشعوب المستهدفة مسؤوليتها, كما يحدث اليوم في يوغسلافيا. إن عجز القيادة الصربية عن استيعاب الحركة في الصورة المتغيرة لعالم اليوم وتمسكها بنظرية الاستعلاء - بعد زوال النظرة الأممية - ووقوع بعض القادة الألبان في اشراك المخابرات المركزية الأمريكية, كما يحدث تماما للمعارضة العراقية في الخارج, من شأنهما الاسهام في استفحال الجريمة المروعة التي نشهدها اليوم في البلقان. إن ما يجري هناك هو ذروة الجنون وقمة المأساة, حيث تقوم قوات حلف (الناتو) في قمع صربيا, بينما يقوم الصربيون في قمع ألبان كوسوفو, ولن يلام في نهاية المطاف سوى الصرب والألبان, ولن يدفع أحد غيرهما هذا الثمن المهول لما يحدث في بلادهم. أما واشنطن... التي تدمر مدنا عمرها مئات السنين, وتهجر الشعوب بمئات الآلاف.. وتحولهم من مواطنين إلى لاجئين, فستبقى العاصمة الإنسانية التي لم تتوقف عن امداد هؤلاء بالبطانيات والخيام, والاعلان عن استقبال البعض منهم ضمن (الكوتا) كمهاجرين إلى أمريكا, كما سبق وفعلت بالنسبة إلى الفلسطينيين والعراقيين والأكراد... والألبان اليوم. هذا ويدعي بعض الناطقين بلسان الحلف الأطلسي حرص دول هذا الحلف على العمل على اعادة المهجرين الألبان إلى وطنهم! مساكين هؤلاء الألبان إن صدقوا ما صدقه الفلسطينيون من قبلهم وما زالوا ينتظرون منذ أكثر من نصف قرن. ولعل المضحك في هذا المشهد المأساوي هو (الموقف) العربي مما يجري. فمنهم من يخشى الوقوف إلى جانب بلجراد فيتهم بأنه بذلك متواطئ مع موقف بغداد, حيث أصبح صدام حسين سلوبودان ميلوسيفيتش, والعكس. وهناك من يريد الوقوف مع الألبان, وفي ذهنه ما حدث للفلسطينيين من قبل, فيتهم بأنه متواطئ مع حلف الأطلسي الذي هو أكبر حليف لاسرائيل. مساكين العرب بلا موقف... انهم يعتصمون بالصمت الذي ينسب إلى نوع من الحكمة حتى لو كان الصمت أخرس!!

Email