كارلوس منعم وغواية السلطة! بقلم- د. طلعت شاهين

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعض الساسة يرفضون الاعتراف بالواقع, ويحاولون خلق واقع خاص بهم لا علاقة له بالواقع المحيط بهم, ويلحون على واقعهم المتخيل حتى يصل بهم الى تصديق الخيال ورفض الواقع الحقيقي بمجمله , ربما لأن الواقع المتخيل يرضي ذواتهم, وليس مهما ان تكون هناك قوانين عليا (دساتير) تبين الحق من الباطل, لأنه في عرف ما يتطلع الى التمسك بالسلطة لأطول فترة ممكنة كل شيء قابل للتأويل حتى الدساتير, التي ينطبق عليها ما ينطبق على القوانين, فاذا كانت القوانين قد أعدت لتخرق, فأيضا (الدساتير سنت لتتغير بنودها) , والحاكم غير الديمقراطي لن يعدم الوسيلة في شعوب أمية وجاهلة بحقوقها السياسية, حتى ان استفتاءاتها لا تقل نتائجها عن (9.99) حتى لو امتنعت عن زيارة صناديق الاقتراع. هؤلاء الساسة للأسف تعج بهم دول العالم المتخلف, حتى تلك الدول التي تحاول الهروب من واقعها المتخلف بالتعلق بالتناوب (الديمقراطي) في السلطة على النسق الغربي, وبعض هؤلاء الساسة الحالمين يعيشون ايضا في العالم المتقدم, ولكنهم في النهاية قلة قليلة لا تمثل ظاهرة حقيقية كما هو الحال في العالم المتخلف, وهناك في العالم المتقدم من الادوات والدساتير والقوانين الصلبة التي تعيد هذه القلة الى رشدها دون اراقة الدماء, لأن هناك حدودا لأحلام اليقظة. الرئيس الارجنتيني كارلوس منعم من هؤلاء الحالمين بالسلطة الابدية, وفي ممارسته لهذا الحلم يحاول خلق واقع لا علاقة له بعملية (تناوب السلطة) مع الآخرين, سواء كانوا من حزبه الذي ينتمي اليه أو من حزب آخر يستطيع ان يصعد الى القمة عبر صناديق الاقتراع الديمقراطي التي من المفترض الدستور الارجنتيني يقرها ويحميها. ولأن معظم دول امريكا اللاتينية عاشت عقودا طويلة من الدكتاتوريات العسكرية والمدنية, وكان تبادل السلطة فيها طوال سنوات ما بعد الاستعمار يتم عبر استخدام السلاح والانقلابات والاغتيالات, لذلك عند تحولها الى النظام الديمقراطي الغربي, اتفقت معظم تلك الدول على ان تكون فترة تولي الحكم لمرة واحدة, وعلى الرئيس ان يترك المنصب بعدها ليفتح الطريق أمام آخر, وتم النص على هذه المادة وتأكيدها في جميع الدساتير, ويبدو واضحا ان قصر الترشيح لفترة واحدة نابع من فلسفة فرضتها سنوات الدكتاتورية السابقة, حيث لا يتحول الرئيس المنتخب الى دكتاتور, تطبيقا لهذه الفلسفة وضعت دساتير تلك البلاد هذه المادة في مقدمة موادها الرئيسية. الا ان هذه المواد التي تنص عليها دساتير دول امريكا اللاتينية بقصر فترة الرئاسة لفترة واحدة لم تعدم من يحاول الالتفاف من حولها بأساليب واطروحات مختلفة, لأن التحول من الدكتاتورية الى الديمقراطية الدستورية لم يرافقه تحول في الفكر, ولايزال هناك من يعتنقون الفكر المتخلف السابق على سقوط الدكتاتوريات, أو من ألهبت عقولهم (غواية) السلطة, فقصروا تفكيرهم, لا على خدمة البلاد على أفضل وجه طوال فترة الرئاسة, بل كان جل تفكيرهم البحث عن وسيلة للالتفاف على مواد الدستور التي تمنع بقاءه في السلطة بعد الفترة المنصوص عليها. استغل الرئيس كارلوس منعم الأزمة الاقتصادية التي أطاحت بحزب الرئيس السابق الدكتور ألفونسين وفتحت الباب أمام البيرونيين لتولي السلطة, ولأن الأوضاع الاقتصادية الدولية تحسنت خلال النصف الثاني من الفترة الأولى من حكم الرئيس كارلوس منعم, فقد خلق (واقعا خاصا به) نابعا من أحلامه, وبدأ حملة لاقناع الجماهير بهذا الواقع المتخيل, متعللا بأن فترة واحدة لا تكفي لتنفيذ البرنامج الذي وضعته حكومته للتغلب على آثار تلك الأزمة. الجماهير في الحقيقة لم تكن تمثل شيئا بالنسبة للرئيس كارلوس منعم, وإنما كانت المعارضة في البرلمان هي العقبة الحقيقية أمام امكانية تغيير المادة الدستورية, التي تمنع مواصلة وجوده على رأس السلطة لفترة ثانية. الا انه استغل الجماهير للضغط على المعارضة في وقت لم يشرح أحد لتلك الجماهير ان البرنامج الاقتصادي لحكومة الرئيس منعم لم يكن السبب في تلك الطفرة التي كانت تعيشها الارجنتين في ذلك الوقت, وان الأصل في تلك الطفرة كان مؤثرا خارجيا. لكنه نجح في النهاية في اجراء استفتاء شعبي فاز به بالديماجوجية وشرح أنصاف الحقائق, وعندما حاول وزيره الذي وضع ذلك البرنامج الاقتصادي توضيح الحقيقة للناس عزله فورا, واعتبره عقبة في سبيل مزيد من النهضة الاقتصادية, مع ان ذلك الوزير هو صاحب الفكرة التي قام عليها البرنامج الاقتصادي لحزب الرئيس منعم. بعد تغيير مادة الدستور أصبح لأي رئيس قادم الحق في التقدم لفترة رئاسية أخرى, لكن الرئيس كارلوس منعم قرر استغلال امكانية تفسير هذه المادة ليتقدم للترشيح لفترة ثالثة, أي ان يخرق الدستور على الطريقة التي خرقها من قبل, ووجد في بعض قضاة المحكمة الدستورية العليا, التي يملك الرئيس وحده حق تشكيلها أو عزلها, من يفسر المادة تنفيذا لرغبة الرئيس, وان حقه في فترة رئاسية جديدة يرجع الى ان فترة رئاسته الحالية التي تعتبر الثانية فعليا, ليست سوى الفترة الأولى طبقا للدستور بعد وضع المادة التي تسمح له بفترة ثانية, ولهذا يحق له ان يظل لفترة ثانية طبقا للدستور بعد تعديله, أما فترة الرئاسة الأولى لا تحتسب لأنها تمت في ظل المادة القديمة (؟!). لكن الرئيس منعم لم يتخيل ان في حزبه رجالا يقفون في (الطابور) في انتظار دورهم, لأن الرئيس منعم ممثل لحزب, وفوزه في الانتخابات ليس لشخصه ولكن تأييدا لبرنامج الحزب, وبدأ صراع بين (الواقع الخاص بالرئيس منعم) الذي يحاول ان يقنع به الناس, وبين الواقع السياسي الحقيقي الذي يمثله الزعماء الآخرون في حزبه والاحزاب الاخرى, والذين يرون ان كارلوس منعم بدأ بالفعل يسير باتجاه الدكتاتورية, التي حاولت جميع دساتير أمريكا اللاتينية تجنبها, حتى لا تعود الدكتاتورية من النافذة بعد ان خرجت من الباب. نظرا لتراجع الظروف الاقتصادية الدولية التي أخرجت الاقتصاد الارجنتيني من أزمته السابقة على تولي كارلوس منعم للرئاسة, بدأت فكرة تفسير هذه المادة تظهر وتختفي طبقا لرؤية الرئيس الارجنتيني للواقع الذي يرسمه في ذهنه, إذا بدأ الاقتصاد الارجنتيني في التحسن, واختفت المشاكل الرئيسية, يبدأ الحديث عن التفاسير المتعددة للدستور, وامكانية الترشيح لفترة ثالثة, واذا بدأت بوادر تنذر بأزمة اقتصادية جديدة يؤكد الرئيس منعم انه لا يفكر في الاستمرار في الرئاسة. ما بين تقدم وتراجع (واقع الرئيس) أمام تقدم وتراجع واقع الأزمات السياسية والاقتصادية في الارجنتين, قرر زعماء حزبه بالاتفاق مع زعماء الاحزاب المعارضة على اجراء استفتاء حول التفسيرين المختلفين لمادة الدستور اللتين تسمحان بانتخاب أي شخص لرئاسة البلاد لفترتين متتاليتين, الحقيقة ان هذا الاستفتاء سيكون بين رؤية الناخبين لواقعين مختلفين (واقع الرئيس منعم) و(واقع الحياة السياسية في الارجنتين) . المراقبون السياسيون الذين يتابعون الحركة السياسية في أمريكا اللاتينية لا يرون في هذا الاستفتاء حلا يمكنه ان يمنع عودة الدكتاتورية عبر (دستور ديمقراطي) , لأن من لا يحترم الدستور, ولا يحافظ على احترامه لأطول فترة ممكنة, يمكنه خرقه, والاستفتاء أداة مطاطة لتغيير بعض مواده, لذلك لا يجب ان يكون من السهل التلاعب بأحد القوانين العليا للبلاد, وتغيير أية مادة من مواده لابد ان يكون مرهونا بظروف قاهرة. لذلك لا يرى المراقبون ان الاستفتاء يمكن ان يمنع الرئيس منعم أو غيره من تغيير وتبديل مواد في الدستور, خاصة (غواية السلطة) ليس تأثيرها على الرئيس كارلوس منعم في الارجنتين فقط, بل تعيش البيرو الأزمة نفسها مع رئيسها الحالي البيرتو فوجيموري والبقية تأتي على طريق الدكتاتورية في امريكا اللاتينية. كاتب مصري مقيم في اسبانيا

Email