بين شعارات زمن مضى وواقع عالم جديد: القذافي ... آخر الحالمين:بقلم- الدكتور محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس لدي معلومات اكيدة اجزم بها في الموضوع الذي سأتناوله في هذا المقال, ولكن لدي بعض الحدس, لذلك فإنني أعتقد ان الاتفاق الذي تم اخيراً بين الجماهيرية الليبية واطراف دولية لتسليم المتهمين الليبيين الامين خليفة فهيمة, المدير السابق لمكتب الخطوط الجوية الجماهيرية الليبية في مالطا, وعبدالباسط علي المقراحي,الموظف السابق في المخابرات الليبية, والمتهمين بتفجير الطائرة الامريكية بأن امريكان فوق قرية لوكيربي الاسكتلندية, هذه الموافقة للتسليم هي فقط بداية الطريق الطويل وليست النهاية لفترة طويلة لما سمي في تاريخ العلاقات الدولية الحديثة بقضية (لوكيربي) . العلاقات الليبية خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا ساءت الى درجة غير قابلة للاصلاح منذ فترة طويلة, فقد قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع الجماهيرية في سنة 1986 اي قبل سنتين من حادث (لوكيربي) وكان السبب الذي اعلنته وقتها الادارة الامريكية تحت قيادة الرئيس الجمهوري رونالد ريجان هو الاستجابة لتحديات ليبية في بعض التهم (الارهابية) الموجه اليها, الا انه في سنة 1991 قامت محكمة امريكية بتوجيه الاتهام الرسمي الى الليبيين فهيمة والمقراحي بأنهما المتسببان المباشران في سقوط الطائرة الامريكية فوق (لوكيربي) كما قامت محكمة بريطانية بنفس الاجراء بعد ذلك, واصبحت تهمة اسقاط الطائرة المدنية الامريكية موجهة الى ليبيا بعد ان حامت في مناطق عديدة. في سنة 1992 قام مجلس الامن بعد عرض بريطاني امريكي اقتنعت به الدول الاخرى, بتوقيع عقوبات على ليبيا بما فيها منع الطيران من والى الجماهيرية الليبية والتي في النهاية ادت الى اغلاق الاجواء الليبية امام الطيران الدولي. فرنسا من جهة اخرى تطالب بمحاكمة ستة من الليبيين غيابياً وهم متهمون ايضاً باسقاط طائرة (يو.تي.أي) الفرنسية فوق اجواء نيجيريا مما اودى بحياة مائة وواحد وسبعين شخصاً في سنة 1989 ولكنها لم تقطع علاقتها الدبلوماسية بالجماهيرية الليبية. بقيت هذه العقوبات الدولية على ليبيا حتى الآن سبع سنوات, حتى اصبحت ليبيا تقريباً معزولة عن العالم, واصبح شاغلها الرئيسي في سياستها الخارجية محاربة هذه المقاطعة. لا احد يعرف على وجه الدقة ما هو تسلسل احداث سقوط الطائرة الامريكية الذي اودى بحياة الضحايا وربما يظهر الى العالم في الاشهر القليلة المقبلة الكثير من الحقائق المصاحبة لهذه الاتهامات سواء ببطلانها او بتثبيتها؟ وان ثبتت هل هي بفعل فاعل فرد او بتوجيه دولة او مؤسسة؟ كل ذلك سوف تكشفه الايام والاسابيع القليلة المقبلة في حالة تسليم فعلي للمتهمين الليبيين. ليبيا حملت الكثير من الشعارات العربية المعادية للغرب, وربما يرى البعض انها كانت محقة في اخذ مواقف حادة من الغرب بشكل عام بسبب ما رآه قادتها من موقف غربي ظالم خاصة تجاه القضايا العربية وقضية فلسطين على وجه التحديد. الا ان الاختلاف ــ في بيئة القضاء الدولي المعتمد على النظام العالمي الجديد ــ هو كيف يمكن المطالبة بالحقوق, والتعامل الدولي المرتبط بالقانون والنظام. البعض يرى ان اخذ (الحق) باليد المجردة هو الطريق الاسلم, والبعض يرى ان هناك قواعد دولية لا بد من الالتزام بها, ويحرم القانون الحديث والقديم على السواء ان يقوم الانسان ــ حتى في الحالة الفردية ــ بالقصاص لنفسه من الآخرين, لان ذلك يحول العلاقات الانسانية الى علاقات غابة, فالقصاص هو قصاص منظم في المجتمع البشري بين الافراد في المجتمع الواحد وبين الدول ايضاً. ولعل النظام الدولي الجديد يفرض الكثير من رؤيته وطريقة حله للقضايا الدولية على الدول في العالم اجمع, ومن بينها طرق القصاص والعقاب. المثال القريب من هذا الشأن والوارد في الذهن هو قضية سلمان رشدي وما اثارته من زوبعة سياسية دولية, فبعد ما يقارب عشر سنوات من صدور رواية آيات شيطانية وفي الرابع والعشرين من شهر سبتمر من العام الماضي, خرج وزير خارجة الجمهورية الإسلامية من اجتماع مع وزير الخارجية البريطاني ليعلن ان (الحكومة الإيرانية ليس لها لا التوجه ولا الرغبة في أن تأخذ أي خطوة مهما كانت لتهديد حياة مؤلف آيات شيطانية) , وعلق وزير الخارجية البريطاني بعد ذلك, بأن ذلك التصريح سوف يفتح أبوابا جديدة بين بريطانيا والجمهورية الإسلامية. كان الكثيرون يرون ان الحديث عن سلمان رشدي وتهديده بالقتل هو اضافة دعائية له, أكثر منها محاولة لعقابه, كما ان ما كتبه لن يضير الإسلام بشيء, ولكن قبل سنوات طويلة كانت وجهة النظر هذه غير مقبولة لدى البعض في محاولة لأخذ ما يراه هذا البعض إهانة للإسلام بالتحدي المباشر ومن ثم يستوجب قتل ذلك المارق. وربما لو لجأ أحد إلى المحاكم في هذه القضية لوجد مكانا وآذانا صاغية, وربما لم تأخذ تلك الرواية الفجة ما أخذته بعد ذلك من شهرة. عودة إلى قضية (لوكيربي) , وهي تشبه إلى حد ما قضية رشدي من حيث نتائجها, فقد يفعل أو يقول بعض القادة العرب أو المسلمين شيئا ثم في نهاية الأمر يضطر الجميع إلى القبول بلعبة العودة إلى القضاء الغربي, أو سحب ما قالوه علنا, لان النظام الدولي الجديد له أسنان قاضمة تأخذ وقتها ولكنها في النهاية تصل إلى العظم. منذ فترة أجرت إحدى المحطات التلفزيونية العربية مقابلات مطولة مع فحيمة والمقراحي وبدا الرجلان فاقدين للأمل في حل قريب يرفع عنهما وعن أسرتيهما هذا السيف المصلت, ولعل أكثر ما شدني وآلمني في نفس الوقت قول أحد أطفالهما وهي فتاة: ان زملاءها في المدرسة يتهمون والدها بأنه المتسبب في حصار جميع الليبيين, وكان ذلك قول طفلة صغيرة لا تعني من العالم المعقد حولها إلا الشيء اليسير, ولكنه مؤثر وإنساني, حين يتداول بين الأطفال. لقد قاسى الشعب الليبي لفترة طويلة من هذا الحصار, الذي أرجع الاقتصاد الليبي إلى سنوات سابقة كما وضع الجماهيرية في موضع الدفاع الدائم, كما ان كل المحاولات في الاستثارة العربية والاستقطاب الدولي (خاصة الافريقي) لم تمكن أحد من مد يد العون بشكل ايجابي لاخراج ليبيا من المأزق, حتى وافق الليبيون في آخر المطاف على تسليم المتهمين للمحاكمة الدولية, وبعمل دبلوماسي خلف الأبواب المغلقة قامت به كل من المملكة العربية السعودية وجنوب افريقيا ومصر وبعض الدول الأخرى التي أخذت دور المساند. ما هي الضمانات التي قدمت للطرف الليبي؟ لا أحد يعرف على وجه الدقه, ولكنها لابد أن تكون ضمانات معقولة قبل بها الليبيون من أجل اقفال الملف الذي تضخمت أوراقه, وامتد زمنه وطالت المعاناة بسببه, وهل يمكن أن تكون المحاكمة مقررة نتائجها مسبقا؟ ذلك ما لا يمكن الجزم به أيضا, فقد تجر المحاكمة إلى فتح ملفات كانت في الأصل مغلقة حتى الآن, البعض يرى ان ذلك غير ممكن لان مصالح جديدة يمكن أن تترتب على ما يستجد من أمور ويتناسى الجميع ما تم في الماضي, وهي ممارسة دولية ليست بالجديدة ولا بالأخيرة أيضا, كما ان الاحتمال الآخر وارد, فإن خرجت ليبيا بالقليل من الخسائر قد تشجع دولار أخرى, قريبة إلى المراهقة السياسية وبعيدة عن فهم كيف يسير العالم, على أن تقوم بمغامرات مماثلة أو أكثر خطورة على أساس قدرتها في المستقبل على التخلص من المسؤولية, انها طريق ذات اتجاهين لا اتجاه واحد. النتيجة النهائية ان الدرس المستفاد هو ان النظام الدولي يفرض قوانينه الخاصة به وبالعالم, ربما لا توافق بعضنا هذه القوانين, ولكنها تطبق على الكثيرين ولا فكاك منها, وهي مقيدة لتصرفات الجميع خاصة دول العالم الثالث التي لم تتعلم بعد طرقا معقدة لاخفاء أعمالها وتوجهاتها الحقيقية. ولكن السؤال الذي بدأت به ما زال قائما, هل سيسلم المتهمان الليبيان في حادث (لوكيربي) إلى المحاكمة في الغرب, ثم هل ستكون المحاكمة مقصورة عليهما؟ تلك أسئلة سوف تظهر الاجابة عنها في الأيام القليلة المقبلة.

Email