التسابق العسكري الأمريكي الروسي: حرب باردة جديدة :بقلم - خير الدين العايب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يخطئ من يعتقد بتوقف التسابق العسكري بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية روسيا عندما ورثت ترسانة نووية معتبرة عن الاتحاد السوفييتي السابق ابقتها قوة عظمى في لعبة التوازنات العسكرية الراهنة حيث تحتفظ جمهورية روسيا وأوكرانيا التي ورثت اسطولا نوويا متمركزا في البحر الأسود بمقدرة عسكرية ورادع نووي ربما يتجاوز مقدرة ورادع قوى كبرى كفرنسا . وعلى الرغم من ان فترة الحرب الباردة انتهت رسميا بعد أن كان التسابق العسكري بين القطبين الأمريكي والسوفييتي يمثل نقطة محورية في صراعهما الدولي حول مقدرتهما في استقطاب واحتواء أكبر عدد ممكن من الدول في حلفيهما إلا ان نهاية الحرب هذه أفرزت معطيات جديدة أهمها عدم مقدرة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا على تحديد وتخفيض حجم أسلحتهما الاستراتيجية والتكتيكية, بل عدم مقدرتهما تغيير نظرتهما للأمن من نظرة عسكرية صرفة إلى نظرة شاملة تتكيف ومعطيات الواقع الدولي الجديد الذي يتسم بالتعقيد والسرعة والترابط الدولي إذ ساهمت التكنولوجيا والاقتصاد والعولمة في تحديد بيئته الجديدة. إن تتبع مسار المفاوضات حول الأسلحة الاستراتيجية بين القوتين منذ عام 1971 وهي السنة التي عقدت فيها مفاوضات تحديد سقف الأسلحة الاستراتيجية مرورا بمؤتمر جنيف عام 1985 الذي حضره الرئيس الأمريكي رونالد ريجان والرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشوف, ثم مؤتمر ركيافيك الذي وافق خلاله الاتحاد السوفييتي على تحديد سقف الصواريخ الاستراتيجية SS20 التي يتجاوز مداها 5000 كلم وتحمل ثلاثة رؤوس نووية وفسرت الولايات المتحدة الأمريكية الاستجابة السوفييتية هذه على انها تراجع في العقيدة العسكرية السوفييتية, لان تحديد سقف الأسلحة الاستراتيجية يعني فيما يعنيه لدى خبراء العقيدة الاستراتيجية الأمريكية التي تستند إلى الواقعية كمحدد في توجهات الولايات المتحدة الدولية, عدم مقدرة الاتحاد السوفييتي على مواصلة التسابق العسكري الذي أثقل كاهل الاقتصاد السوفييتي وساهم في انهياره عام 1991 كاملا, وكان لمشروع حرب النجوم الذي اقترحه الرئيس الأمريكي رونالد ريجان آنذاك وتجاوزت ميزانيته 400 مليار دولار دورا هاما في استنزاف الاتحاد السوفييتي من الداخل لانه ــ أي المشروع ــ أرغم القادة السوفييت على مضاعفة ميزانية الدفاع العسكري على حساب ميزانية المنظومة الاقتصادية للجمهوريات السوفييتية وعلى حساب الدخل الفردي والقومي أيضا, وهكذا تمكنت الولايات المتحدة من التفوق على الاتحاد السوفييتي وضمان قيادتها لنظام مبني على أحادية القطب بدل نظام ثنائي القطبية. وقد فهم القادة الروس في الكرملين ما تخطط الولايات المتحدة الأمريكية له في الوقت الراهن حيث يسعى البنتاجون إلى موافقة الكرملين على اتفاقية START التي تطالب روسيا بتحديد سقف ثان لأسلحتها الاستراتيجية التي لا تزال تمثل تهديدا استراتيجيا لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية في وسط وجنوب أوروبا, على الرغم من سحب الولايات المتحدة الأمريكية صواريخ THOR وJUPITER من القارة الأوروبية عندما اقتنعت ان روسيا لم تعد تهدد أمن أوروبا ذلك لأن الحلف الأطلسي والأسطول السادس قادران على مراقبة التحركات العسكرية الروسية والأوكرانية في البحر الأسود والمياه الدافئة بدليل ان الولايات المتحدة الأمريكية رفضت حل حلف شمالي الأطلسي وأسندت أدوارا عسكرية جديدة إليه أولها مراقبة التحركات العسكرية الروسية على الرغم من زوال ملف وارسو. يلتسين ... احياء مجد روسيا يلتسين.. رجل الكرملين القوي الذي عرف كيف يحافظ على منصبه بالرغم من عدم مقدرته على تسيير شؤون روسيا لمرضه الذي كاد يفقده الحياة أكثر من مرة.. ولقد سعى يلتسين إلى التقرب في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية عندما تسلم مقاليد الحكم في الكرملين وأعلن تخليه عن مبادئ الاشتراكية ومركزية القرار, واتباعه النهج الليبرالي الديمقراطي, وأرضى الولايات المتحدة الأمريكية باتخاذه قرارات استراتيجية أكسبته مصداقية دولية كالتزامه بتنفيذ بنود اتفاقية ستارت START التي على أثرها زارت لجنة عسكرية أمريكية روسيا وشهدت على تفجير العديد من الصواريخ الاستراتيجية لصواريخ SS20 وSS25 والتي تتمتع بفاعلية عسكرية تتجاوز فاعلية الصاروخ الأمريكي البريشنج الذي يتجاوز مداه 1600 كلم فقط. وكان قرار يلتسين بالالتزام بما اتفق عليه قبل تسلمه مقاليد الحكم ينم عن رغبته في أن تمده الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدات اقتصادية وتكنولوجية وتسهيلات مالية من البنك الدولي وصندوق النقد ووعدته الإدارات الأمريكية التي تعاقبت على الحكم منذ عام 1991 بمساعدته وبتسهيل دخول روسيا في الفلك الأوروبي اعتبارا من ان روسيا دولة أوروبية أكثر من انها دولة آسيوية.. الا ان الوعود الأمريكية تبخرت كلها وراح يلتسين يعلن على ان القوات الروسية ستواصل مشاريعها العسكرية ومساعدة الدول المتهمة بـ (الارهاب الدولي) على بناء مفاعلات نووية حتى تحافظ روسيا من خلالها على مكانتها الدولية التي ورثتها عن الاتحاد السوفييتي السابق, وأعلنت روسيا ان مجلس الدوما (البرلمان) يرفض التصديق على اتفاقية ستارت, بحجة ان من شأن التصديق على الاتفاق أن يمس ذلك بالأمن القومي لروسيا وبمصداقية نظامها الدفاعي لان القوة العسكرية لا تزال توظف كعامل رادع في توجهات روسيا الدولية, فإذا تغيرت العقيدة العسكرية الروسية ستفقد روسيا مصداقيتها الدولية لدى الدول الحليفة إليها عسكريا.. وأعلنت وزارة الدفاع الروسية تجميد مفاوضات الأسلحة الباليستية طويلة المدى للسنوات الماضية بحجة ظهور (تحديات جديدة تهدد مصالح روسيا الاستراتيجية) كما رفض يلتسين دعوات الرئيس الأمريكي مناقشة ملف السلاح النووي واعتبر الملف غير قابل للنقاش وعده من الملفات السرية جدا ذات الأهمية العليا.. وللحقيقة لا تزال تتخوف الولايات المتحدة الأمريكية من امتلاك روسيا ترسانة نووية تتمتع بكفاءة عالية ربما تتجاوز فاعلية ما تمتلكه الولايات المتحدة الأمريكية في مخزونها النووي بشهادة خبراء الشؤون العسكرية والاستراتيجية.. بدليل العديد من الصواريخ الروسية ذات المدى الطويل بمقدورها ضرب أهداف استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية تصل العاصمة واشنطن والمدن المجاورة إليها على محيط 40 كلم وتحسب الإدارة الأمريكية من استمرار الخطر الروسي على مصالحها هذه لأجل ذلك تواصل الضغط على الإدارة الروسية لكي تقبل بمقترحاتها, أولها تحديد وتخفيف سقف الأسلحة الاستراتيجية طويلة المدى والتكتيكية قصيرة المدى ــ بل أكثر من ذلك كله ترفض الإدارة الأمريكية مساعدة روسيا للحصول على تسهيلات مالية كبيرة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي باستثناء مساعدة مالية تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية إليها سنويا لا تتجاوز مليار دولار. والمساعدة ضئيلة لا يمكنها تغطية عجز ميزان المدفوعات أو حتى احياء المصانع الروسية الكبرى التي تعاني انهيارا وتباطؤا في الانتاج لقدم الآلات من جهة وطغيات البيروقراطية المتعفنة في إدارة المصانع هذه, كمصانع الفحم والحديد والفولاذ من الحرب الباردة.. إلى السلم (الساخن) ! لقد تفكك مفهوم الأمن عندما انهار الاتحاد السوفييتي, وانهارت المنظومة الاشتراكية, وأعلن فرانسيس فوكوياما, على نهاية التاريخ أي انتصار النزعة الليبرالية على الايديولوجيات الأخرى, وأصبح العالم يشبه القرية المترابطة حيث لعبت التكنولوجيا والاعلام دورا في تغير طبيعة النظام الدولي من نظام مبني على التنافس العسكري الصرف إلى نظام مبني على التنافس الاقتصادي التكنولوجي لكن مع استمرارية التسابق العسكري ــ لأجل ذلك سعت العديد من دول العالم إلى التكيف مع حركية الواقع الدولي الجديد الذي تحكمه النزعة الليبرالية, فبعض الدول بذلت جهودا لتغيير طبيعة نظامها السياسي والاقتصادي ليقترب من النظام الغربي الليبرالي كما هو الحال مع دول أوروبا الاشتراكية مثلا, ودول أخرى فشلت في بناء سياسات تكيفية مع الواقع الجديد فظهرت اضطرابات اجتماعية داخل دولها كما وقع في اندونيسيا مثلا.. أما روسيا فإنها حاولت كيف تبقي على قوتها العسكرية ومصداقيتها الدولية وتمكنت بالنجاح إلى حد ما, الا انها فشلت في تحديد سياسة لاقتصادها, الذي كانت تحكمه المركزية الموجهة من الكرملين, فظهرت اضطرابات اجتماعية وهزات اقتصادية, لا تزال تعاني روسيا منها, ومن شأن ذلك أن يساهم في اضعاف مقدرة النظام السياسي على تسيير شؤون الشعب الروسي.. وتعرف الولايات المتحدة ان روسيا لا تستطيع أن تواصل سياسة المماطلة معها لان السرعة التي يمر بها النظام الدولي الراهن تزيد من تفكيك الأمن العسكري وسياسات الردع النووي والاستراتيجي لصالح الأمن الاقتصادي وثورات التكنولوجيا والاقتصاد المتبادل.. فالمخزون النووي يوظف كأسلوب للردع فحسب ولا يوظف في العقائد العسكرية كالسابق, وتدرك روسيا ان ظروفها الاقتصادية والاجتماعية الصعبة, تتطلب منها الاهتمام بها أكثر السنوات المقبلة ويعني ذلك تخفيض ميزانيات الدفاع وغلق بعض المركبات العسكرية والنووية ومهما طال الوقت ستستجيب روسيا للمطالب الأمريكية, المذكورة والعديد من المؤشرات تبين اتجاه روسيا نحو رضوخها لتلك المطالب وما لتصريحات الكرملين إلا محاولة منه لعرض القوة ومحاولة تمويه الرأي العام الدولي على ان روسيا لا تزال تتمتع بمصداقية دولية وبمقدرة ما في التأثير في العلاقات الدولية, فروسيا خسرت مصداقيتها الاقليمية والأوروبية, ولم يكن بمقدورها اقناع بعض دول أوروب الوسطى كبولونيا, وتشيكيا وهنجاريا بالامتناع على الدخول إلى الحلف الأطلسي, وفشلت في احياء مجدها ومكانتها, وأكثر من ذلك كله, انها بدأت تشعر بالعزلة الدولية بعد ظهور الأحلاف الاقتصادية في العالم وأولها حلف الاتحاد الأوروبي فماذا يبقى لروسيا إذن؟ إن السيناريو المحتمل في تطور العلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ان روسيا ستعمل على الاقتراب للمجموعة الأوروبية بتقديم تنازلات استراتيجية أولها اقناع أوكرانيا على أن تسحب بعضا من أسطولها النووي المتمركز في البحر الأسود ومن المحتمل أن يطلب الحلف الأطلسي من روسيا كشف برامجها العسكرية المستقبلية في أوروبا الوسطى بعد أن انضمت دولا كبولونيا والمجر وتشيكيا إليه وربما تنضم دول أخرى في المستقبل, والاشكال الأكبر هو ملف الأسلحة الاستراتيجية الذي ترفض روسيا رفضا قاطعا فتحه في اطار المفاوضات الثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية إلا بضمانات أولها تقديم دعم اقتصادي ومالي إليها وثانيهما السماح لروسيا بهامش من التحرك الاستراتيجي في أوروبا الوسطى, وترفض الولايات المتحدة الاستجابة والنزول للمطالب الروسية هذه, فهل بمقدور الولايات المتحدة اقناع يلتسين بمطالبها أم انها ستجد معارضة منه وهل ستكون المعارضة هذه بداية لحرب باردة ثانية؟ باحث جزائري

Email